الموضع عن جهه اعجاز القرآن و هو الکتاب المعروف ب "الصرفه"

اشارة

نام كتاب: الموضح عن جهة إعجاز القرآن

سرشناسه : علم الهدی، علی بن حسین، ق 436 - 355

عنوان و نام پديدآور : الموضع عن جهه اعجاز القرآن و هو الکتاب المعروف ب "الصرفه"/ تالیف الشریف المرتضی ابی القاسم علی بن الحسین بن موسی الموسوی البغدادی؛ تحقیق محمدرضا الانصاری القمی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه، 1424ق. = 1382.

مشخصات ظاهری : یا،ص 344

شابک : 18000 ریال

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه: ص. [323] - 324؛ همچنین به صورت زیرنویس

عنوان دیگر : الصرفه

موضوع : قرآن -- اعجاز

موضوع : قرآن -- علوم قرآنی

شناسه افزوده : انصاری قمی، محمدرضا، 1337 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : BP86/ع75م8 1382

رده بندی دیویی : 297/158

شماره کتابشناسی ملی : م 82-20197

موضوع: اعجاز

تاريخ وفات مؤلف: 436 ق

تعداد جلد: 1

نوبت چاپ: اوّل

المقدّمة

منذ بدء نزول آيات القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فى جزيرة العرب، أدرك هؤلاء العرب- و فنّ القول الأدبيّ أوضح مزاياهم- أنّ القرآن يغاير مألوف القول و متداول الكلام، فلا نظير له في الشعر الذي هم ألصق الناس به و أعرفهم بدقائقه، و لا هو من نمط النثر المعروف و الخطابة الشائعة.

و كثيرا ما كان سماع آيات من القرآن من لدن عرب الجاهليّة محرّكا في دواخلهم نقطة خفيّة توقظهم على الإحساس بوجود «سرّ» خاصّ في التعبير القرآنيّ هو الذي يشدّهم اليه، ليكون ذلك تمهيدا للإقبال على مضمونه و الانفتاح على رسالة القرآن. و كان أهل الجاهليّة يدركون، أمام النصّ القرآنيّ الآسر، أنّهم في مقابل كلمات و عبارات فيها من الهيمنة و السطوة و الجذب الباطنيّ ما جعلهم طائفتين اثنتين: طائفة سلّمت أنّ في القرآن روحا إلهيّة غيبيّة يخلو منها تماما

قول البشر، فكان أن آمنت بالنبيّ و رسالته. و طائفة أخرى أحسّت أنّ في القرآن شيئا غريبا يهجم على القلب و يهيمن- أو يكاد يهيمن- عليه، بيد أنّ خلفيّاتها الاجتماعيّة أو الاعتقاديّة الموروثة كانت تسوق أتباع هذه الطائفة الى الفرار من التسليم للقرآن و من الإقرار بتفرّده و تميّزه الصادر من الغيب الإلهيّ، فكان هؤلاء

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 2

يلجئون الى المغالطة فينعتون القرآن بالسّحر؛ بسبب هذه السلطة الداخليّة التي يجدونها في أنفسهم، أو يصفونه بالكهانة أحيانا، و بالشعر أخرى. و كانوا لا يفتئون يمنعون الذين لم يكونوا قد سمعوا القرآن من سماعه؛ لئلّا يغلب عليهم و يفضي بهم الى الإيمان به «1».

و أراد اللّه تعالى أن يغلق عليهم سبل الهروب من أمام حقيقة القرآن الغالبة، و أن يجرّدهم من الذرائع التي تصدّهم عن الإيمان بالقرآن و رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أن يكشف عن تزويرهم و تمويههم، فكان أن واجههم بأسلوب صاعق حشرهم في زاوية ضيّقه، هو أسلوب «التحدّي» الذي عجزوا عن جوابه و الثبات أمامه.

لقد تحدّاهم اللّه سبحانه في خاصّة قدراتهم البيانيّة التي هم أقدر الناس عليها، ليثبت لهم إلهيّة القرآن، و ليفضح في الوقت نفسه مفترياتهم و أقاويلهم. و هذا التحدّي الذي حمله القرآن نفسه قد تكرّر مرّات عديدة في صيغ شتّى. و هو في كلّها قد تعمّد مغالبتهم جميعا، مصرّحا بعجزهم- و لو كانوا مجتمعين متآزرين- عن مماثلته كلّه، أو مماثلة عشر سور منه، أو حتّى سورة واحدة من سوره مهما قصرت ... ليخلص الى هذه الغاية، و هي: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ

مُسْلِمُونَ «2»؟! و منذ البدء كان القرآن قد أعلن عن النتيجة و كشف كشفا مستقبليّا عن عجز العرب عن معارضته:

______________________________

(1) حكى القرآن عن أمثال هؤلاء أنّ بعضهم كان يقول لبعض: «لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلّكم تغلبون» فصّلت: 26. و حكى أيضا أنّهم كانوا يهوّنون من شأن القرآن و من مزاياه المتفرّدة، فكانوا يشيعون أنّهم- أو صفوة بلغائهم في الأقلّ- قادرون أن يقولوا مثل القرآن؛ فلا مزيّة له إذا و لا هو دليل نبوّة «قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا»! الأنفال: 31.

(2) هود: 14.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 3

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «1».

و كان في هذا التحدّي و في عجزهم أمام هذا التحدّي حجّة بيّنة بأنّ القرآن من عند اللّه أوحاه الى عبده و رسوله. و بغياب المحاولات الجادّة لمعارضة القرآن من قبل أهل الفصاحة و التعبير الأدبيّ الرفيع من خلاصات العرب، سقطت الافتراءات و التخرّصات بشأن القرآن، و ثبتت غلبته في هذا التحدّي على مدى الزمان.

*** و انطلقت بعدئذ رسالة الاسلام، فاتّسع نطاقها ليضمّ جزيرة العرب كلّها، ثمّ ليمتدّ خارج الجزيرة الى أقاليم واسعة و بلدان مترامية في الشرق و الغرب. بيد أنّ جوهر الإعجاز القرآنيّ ظلّ سرّا محوريّا دارت حوله الأبحاث، و تعدّدت بشأنه الدراسات. و قد تركّزت جهود الباحثين و المتخصّصين في محاولات للاقتراب من هذا السرّ الإعجازيّ في فنّ القول القرآنيّ: في بلاغته و فصاحته و قدرته البيانيّة الأخّاذة. و من

هنا شهدت القرون الإسلاميّة الأولى نتاجات أدبيّة واسعة تبحث في القرآن من حيث الأسلوب و الألفاظ و الجمال البيانيّ، في محاولة للتعرّف على ذلكم السرّ المعجز، و للمقارنة بين تألّق التعبير القرآنيّ و بين كلام البلغاء و الفصحاء. و أفضى بهم هذا كلّه الى العناية الفائقة بعلوم البلاغة التي تختصّ بدراسة الأسلوب و الصورة و اللفظة المفردة، حتّى حاز الاهتمام بالبلاغة المقام الأوّل من بين سائر العلوم. و قد عبّر أبو هلال العسكريّ عن هذه الحالة بقوله: «إنّ أحقّ

______________________________

(1) البقرة: 23- 24.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 4

العلوم بالتعلّم و أولاها بالتحفّظ- بعد المعرفة باللّه جلّ ثناؤه- علم البلاغة و معرفة الفصاحة الذي به يعرف إعجاز كتاب اللّه تعالى. و قد علمنا أنّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة و أخلّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّه اللّه به من حسن التأليف و براعة التركيب، و ما شحنه به من الإيجاز البديع و الاختصار اللطيف، و ضمّنه من الحلاوة، و جلّله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمه و جزالتها و عذوبتها و سلاستها ...» «1».

و هكذا غدت الدراسات البلاغيّة مقدّمة لدراسة القرآن و تفسيره، و ضرورة لتذوّق و إدراك البيان القرآنيّ، حتّى أنّك تجد من العلماء من كان لا يبدأ بتدريس تلاميذه كتب التفسير إلّا بعد أن يدرس هؤلاء التلاميذ فنون البلاغة. و قد ألّف يحيى بن حمزة العلويّ كتابه (الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة و علوم حقائق الإعجاز) ليكون تمهيدا لتدريسه تفسير الكشّاف للزمخشريّ الذي «لا سبيل الى الاطّلاع على حقائق الإعجاز إلّا بإدراكه و الوقوف على أسراره و أغواره. و من أجل هذا الوجه كان متميّزا عن سائر

التفاسير» «2».

و قاد الإيمان بأنّ سرّ إعجاز القرآن في فصاحته و بلاغته إلى إيجاد حركة تأليف كبيرة في لغة القرآن و فصاحته. و اهتدى من المؤلّفين من اهتدى إلى أنّ الأعجاز كامن في «النّظم» القرآنيّ، و في طريقة صياغة العبارة و في فصاحة الألفاظ كذلك، أي في القول القرآنيّ: ألفاظا مفردة و تراكيب، و فيما تتضمّنه من المعاني الصحيحة العالية. و من هنا نشأت «نظريّة النّظم» في دراسات الإعجاز بوصفها بلورة راقية للدراسات البيانيّة للقرآن.

______________________________

(1) كتاب الصناعتين 1.

(2) الطراز 1/ 5.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 5

و قد ظهر مصطلح «النظم» منذ عصر مبكّر، فاستعمل استعمالا خاصّا يرتبط بأسلوب القرآن، كما استعمل احيانا اصطلاحا بلاغيّا عامّا. و لعلّ سيبويه (ت 180 ه) من أقدم مستخدمي مصطلح النظم في أساليب التعبير حينما تحدّث عن معنى النظم و ائتلاف الكلام، و ما يفضي الى صحّته و فساده و حسنه و قبحه «1».

و ذكر عمرو بن كلثوم العتّابيّ (ت 220 ه) أنّ الألفاظ للمعاني بمنزلة الأجساد للأرواح، فينبغي أن توضع مواضعها، و إلّا تغيّر المعنى و فسد النظم «2».

و في سياق الأسلوب القرآنيّ آمن الجاحظ (ت 255 ه) أنّ القرآن معجز بنظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد «3».

و استمرّ مصطلح النظم متداولا في لغة أدباء و علماء آخرين، من مثل ابن قتيبة (ت 276 ه) «4»، و إبراهيم بن المدبّر (ت 279 ه) «5»، و المبرّد (ت 285 ه) الذي كانت البلاغة تعني عنده حسن النظم «6»، و الطبريّ (ت 310 ه) «7»، و أبي سعيد السيرافيّ (ت 368 ه) «8»، و عليّ بن عيسى الرمّانيّ (ت 386 ه) «9»، و الخطّابيّ (ت 388

ه) الذي تلخّصت رؤيته في إعجاز القرآن بأنّه «إنّما صار معجزا لأنّه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمّنا أصحّ المعاني» «10»، و أبو هلال العسكريّ (المتوفّى آخر القرن الرابع الهجريّ) «11»، و الباقلانيّ (ت 403 ه) في مثل

______________________________

(1) الكتاب 1/ 8.

(2) كتاب الصناعتين 167.

(3) الحيوان 4/ 90.

(4) تأويل مشكل القرآن 299.

(5) الرسالة العذراء 17.

(6) البلاغة للمبرّد 59.

(7) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1/ 65.

(8) الإمتاع و المؤانسة 1/ 107.

(9) النكت في إعجاز القرآن 107.

(10) بيان إعجاز القرآن 27.

(11) كتاب الصناعتين 167.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 6

قوله: «فأمّا شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه و لا إمام يقتدى به، و لا يصحّ وقوع مثله» «1»، و قوله: «و قد تأمّلنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرّف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها على حدّ واحد من حسن النظم و بديع التأليف و الرصف، لا تفاوت فيه و لا انحطاط عن المنزلة العليا و لا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا» «2». و صرّح بأنّ الإعجاز ليس «في نفس الحروف، و إنّما هو في نظمها و إحكامها و رصفها» «3».

و عني القاضي عبد الجبّار (ت 415 ه) عناية خاصّة بالنظم «4»، حتّى إذا جاء عبد القاهر الجرجانيّ (ت 471 ه) كان أوسع من كتب في الموضوع من خلال كتابه (دلائل الإعجاز). و قد أعانه ما كان يتمتّع به من ذوق و سلامة طبع على تجلية مفهوم النظم تجلية تطبيقيّة لآيات كثيرة من القرآن. و قد قرّر أنّ إعجاز القرآن في نظمه و ما يتضمّنه هذا النظم من إحكام يؤلّف بين المعنى في أصدق و أروع مظاهره، و اللفظ في أجمل

و أدقّ هيئاته «5».

و ظلّت قضيّة النظم وصلتها بالإعجاز- بعد عبد القاهر- بدون إضافة تذكر أو تجديد ذي شأن حتّى العصر الحديث.

و في هذا السياق ألّف عدد من قدامى المؤلّفين كتبا و رسائل في نظم القرآن، و قد احتفظت المصادر بأسماء عدد منها و بإشارات الى مضامين بعضها. و لعلّ أبرزها كتاب نظم القرآن للجاحظ (ت 255 ه)، أشار اليه في كتابه (الحيوان) بقوله:

______________________________

(1) إعجاز القرآن 112.

(2) إعجاز القرآن 37.

(3) التمهيد 151.

(4) المغني 16/ 197.

(5) ينظر دلائل الإعجاز، فقد وضعه المؤلّف كلّه في بيان قضية النظم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 7

«كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن و غريب تأليفه و بديع تركيبه» «1». و نصّ على هذا الكتاب من القدماء الخيّاط المعتزليّ «2». و ألّف محمّد بن يزيد الواسطيّ (ت 306 ه) كتابا في أنّ «إعجاز القرآن في نظمه و تأليفه» «3». و كتب من بعده الحسن بن عليّ بن نصر الطوسيّ (ت 308 ه) كتاب نظم القرآن «4». ثمّ ألّف أبو عليّ الحسن بن يحيى بن نصر الجرجانيّ (توفّي أوائل القرن الرابع الهجريّ) كتاب نظم القرآن في مجلّدين «5»، و قد نقده من بعده و اختار منه مكيّ بن أبي طالب القيسيّ المغربيّ (ت 427 ه) في كتابه (انتخاب كتاب الجرجانيّ في نظم القرآن و إصلاح غلطه) «6».

و ممّن كتبوا في نظم القرآن كذلك: عبد اللّه بن أبي داود السجستانيّ (ت 316 ه) «7»، و أبو زيد أحمد بن سليمان البلخيّ (ت 322 ه) «8»، ثمّ أحمد بن عليّ بن الإخشيد أو الإخشاد (ت 326 ه) «9».

*** و إلى جوار سيادة فكرة النظم و استمرارها الطويل بوصفها مكمن الإعجاز في

التعبير القرآنيّ، كان ثمّة فكرة أخرى في تفسير الإعجاز، لكنّها أقلّ شيوعا و أدنى حظّا في القبول من لدن المعنيّين بشأن القرآن عامّة و شأن البيان القرآنيّ خاصة، هي فكرة «الصّرفة». و يراد بالصرفة في هذا السياق أنّ اللّه تعالى أراد أن يثبت أنّ

______________________________

(1) الحيوان 1/ 9.

(2) الانتصار 25، 111.

(3) الفهرست 220.

(4) طبقات المفسّرين للداوديّ 1/ 138.

(5) تاريخ جرجان 186.

(6) إنباه الرواة 3/ 316.

(7) تاريخ بغداد 9/ 464.

(8) البصائر و الذخائر للتوحيديّ 2/ 379.

(9) الفهرست 41.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 8

القرآن منزل من عنده و ليس من اصطناع البشر، فصدّ العرب عن معارضته و دفعهم عن مجاراته، أي أنّه منعهم منعا قهريّا أن يأتوا بمثل القرآن، و صرفهم عنه صرفا مقصودا يدركون معه أنّهم معجزون أمامه، على الرغم من وفرة قدراتهم البيانيّة و براعتهم في القول.

و الواقع أنّ هذه الفكرة قد نشأت- أوّل ما نشأت- في بيئة المتكلّمين منذ أواخر القرن الثاني و أوائل القرن الثالث، ذلك أنّ مسألة إعجاز القرآن كانت قضيّة من القضايا الاعتقاديّة المتّصلة بالنبوّة، و قد استأثرت بالجدل و النقاش، و هي ممّا يقع في صلب موضوع علم الكلام. و كان المعتزلة- و هم من أبرز من عني بالنظر العقليّ في مسائل الاعتقاد- هم الذين قد نبتت في بيئتهم فكرة الصرفة، إلى جوار ما شاع بينهم و بين غيرهم من القول بالفصاحة و النظم القرآنيّ المعجز.

و يبدو أنّ إبراهيم بن سيّار النظّام (ت 224 ه) كبير معتزلة عصره كان أقدم من ذهب هذا المذهب في قوله: «إنّ العرب لم يعجزوا عن معارضة القرآن، و إنّما صرفهم اللّه عن تلك المعارضة». لكنّ النظّام لم يعالج هذه الفكرة بشي ء من

البيان و التفصيل، أو إنّه قال بها «من غير تحقيق لكيفيّتها و كلام في نصرتها» كما يقول الشريف المرتضى «1».

و قد استهوت فكرة الصرفة عددا من تلامذة النظّام، كان أبرزهم الجاحظ الذي مال اليها على الرغم من إيمانه بتفوّق النظم القرآنيّ الذي ألّف فيه كتابا مستقلّا. لكنّ الجاحظ، شأنه شأن سلفه النظّام، لم يكشف عن أبعاد لهذا المذهب و لم يبسط القول فيه، فلم يفرد له بابا في كتاب، و إنّما ذكره ذكرا عابرا في معرض حديث له

______________________________

(1) الذخيرة في علم الكلام 378.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 9

عن ملك النبيّ سليمان (ع)، حين قال بعد ما أورد من شواهد: «و مثل ذلك ما رفع من أوهام العرب و صرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحدّاهم الرسول بنظمه، و لذلك لم نجد أحدا طمع فيه، و لو طمع فيه لتكلّفه ...» «1». و هذا الصرف- في رؤية الجاحظ- نظير ما وقع لبني إسرائيل في التّيه «فقد كانوا أمّة من الأمم يكسعون أربعين عاما في مقدار فراسخ يسيرة و لا يهتدون إلى المخرج. و ما كانت بلاد التّيه إلّا من ملاعبهم و متنزّهاتهم ... و لكنّ اللّه صرف أوهامهم و رفع القصد من صدورهم» «2».

و يفهم من كلام الجاحظ أنّ الصّرفة عنده إنما كانت لحماية القرآن من معارضة الذين يتكلّفون هذه المعارضة ليموّهوا على إغرار الناس و من لا علم لهم بمزايا نظم القرآن، و إلّا فإنّ القرآن كان و ما يزال معجزا في هذا النظم.

*** و مهما يكن فإنّ أبرز من استوفى الكلام عن الصّرفة من بين المتكلّمين المعنيّين بأمر القرآن هو المتكلّم الإماميّ الفقيه الأديب الشريف المرتضى (ت 436 ه)؛ فإنّه

كان يذهب إلى القول بالصرفة و تحدّث عن خطوط الموضوع الكبرى في كتابه (الذخيرة في علم الكلام). ثمّ لمّا وجد أنّ المسألة تقتضي المزيد من البسط و الإيضاح و ردّ الاعتراضات، أراد أن يجلّي الصورة التي يراها لهذا اللون من الإعجاز، فألّف كتابا خاصّا في الموضوع أسماه (الموضح عن جهة إعجاز القرآن أو الصّرفة).

قصد المرتضى في كتابه (الموضح) إلى بيان أنّ اللّه تعالى تحدّى العرب بالقرآن

______________________________

(1) الحيوان 4/ 31.

(2) نفسه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 10

فأوقعهم، من هذه الناحية، بالعجز عن تعاطي محاكاته بأن سلبهم ما فيهم من قدرة علميّة و نفسيّة و بيانيّة على هذه المحاكاة، كلّما قصدوا إليها و همّوا بها، فانصرفوا عن محاولة الإتيان بمثل القرآن- و هو موضوع التحدّي- فيما عبّر عنه بالصّرفة ..

التي هي، في هذه الرؤية، «جهة إعجاز القرآن». أي أنّ إعجاز القرآن هو هذا الذي كان يجده العرب في أنفسهم من العجز العجيب عن مجاراته، و كأنّهم مسلوبو الحول و القوّة، فاقدو القدرة، عاجزون تمام العجز عن التصرّف حياله. و كان هذا كافيا ليؤمنوا أنّ القرآن صادر من مصدر إلهيّ.

إن هذه الرؤية احتاجت من الشريف المرتضى إلى بيان مفصّل فيه من الردّ على المعترضين و من الدفاع شي ء كثير. و بعبارة أخرى: إنّه استطاع أن يجلّي الفكرة من خلال ما عكف عليه في كتابه من ردود و نقض و من إزالة الإبهام و كشف الغموض.

و هو بعمله هذا تمكّن من تقديم وضوح كاف لنظرية الصّرفة لم يسبقه اليه أحد من سابقيه، و لم يزد عليه أحد من لاحقيه.

*** إنّ محاولة الشريف المرتضى التفصيليّة هذه تعدّ محاولة جريئة كانت تخالف التّيار السائد و تعاكس مجراه، مع أنّه

كان يعتقد بمزايا النظم و الفصاحة القرآنيّة العالية. و قد ظلّت خطوته هذه تثير التحفّظ إزاءها و الصمت حيالها في أقلّ تقدير.

و يبدو أنّ نفرا من علماء الإماميّة ممّن تأثّروا بالمرتضى قد مالوا الى الصّرفة في شطر من حياتهم العلميّة، ثمّ ما لبثوا أن هجروها و ابتعدوا عنها؛ لأنّها ربّما كانت تحمل تعريضا- و لو يسيرا و عابرا- بإعجاز القرآن الداخليّ القائم على تفرّد مضمونه و تفرّد أسلوبه البيانيّ، في حين تعني الصّرفة أنّ إعجاز القرآن مصدره إرادة من خارجه هي التي تحوطه بالعناية و تقطع السبيل على المعارضين.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 11

و مهما يكن فإنّ كتاب (الموضح عن جهة إعجاز القرآن أو الصّرفة) هو عمل علميّ كبير دالّ على تخصّص مؤلّفه و على قدرته الكلاميّة و طاقته الأدبيّة الرفيعة و إلمامه الواسع باللغة و الأدب و التاريخ و أساليب البيان.

و الكتاب يهيّئ لدراسي الإعجاز و مؤرّخي علوم القرآن فرصة جديدة للتعرّف على أثر مهم طالما أنسي و أغفل، إذ كان في عداد المفقود من مؤلّفات الشريف المرتضى. و لم يكن أحد يعلم أنّه كان قابعا أجيالا طويلة في زاوية من زوايا خزانة مخطوطات المكتبة المركزيّة في الآستانة الرضويّة في مدينة مشهد المقدّسة، حتّى قيّض اللّه تعالى من وجده و لم يمنعه السّقط الذي كان في أوّله من التعرّف عليه.

ثمّ كان هذا المسعى لإخراج الكتاب لأوّل مرّة على يد الفاضل المحقّق سماحة حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ محمّد رضا الأنصاريّ القمّيّ الذي بذل جهدا علميّا مشكورا في القيام بأعباء التحقيق و التقديم للكتاب. و تولّى مجمع البحوث الإسلاميّة في الآستانة الرّضويّة المقدّسة إخراجه ليطّلع عليه المعنيّون بالقرآن و بدراسات الإعجاز فيه،

و ليكون ذلك مقدّمة لإنتاج دراسات حوله تناسب موقعه في تاريخ حركة التأليف في إعجاز القرآن الكريم.

مجمع البحوث الإسلاميّة قسم الكلام و الفلسفة عليّ البصريّ

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 12

مراجع المقدّمة

1- إعجاز القرآن: أبو بكر محمّد بن الطيّب الباقلانيّ (ت 403 ه). تحقيق أحمد صقر، دار المعارف بمصر 1964.

2- الإمتاع و المؤانسة: أبو حيّان التوحيديّ (ت 414 ه). تحقيق أحمد أمين و أحمد الزين، القاهرة 1952.

3- إنباه الرواة على أنباه النحاة: عليّ بن يوسف القفطيّ (ت 646 ه). تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، مصر 1955.

4- الانتصار للقرآن: الباقلانيّ (مخطوط مكتبة بايزيد في استانبول).

5- البصائر و الذخائر: أبو حيّان التوحيديّ. تحقيق إبراهيم الكيلانيّ، دمشق.

6- البلاغة: محمّد بن يزيد المبرّد. تحقيق رمضان عبد التوّاب، القاهرة 1965.

7- بيان إعجاز القرآن: حمد بن محمّد الخطّابيّ (ت 388 ه). تحقيق محمّد خلف اللّه أحمد و محمّد زغلول سلّام (في ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، دار المعارف بمصر 1976.

8- تاريخ جرجان: حمزة بن يوسف السهميّ (ت 437 ه). حيدرآباد الدكن 1967.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 13

9- تأويل مشكل القرآن: عبد اللّه بن قتيبة. تحقيق أحمد صقر، القاهرة 1973.

10- التمهيد: أبو بكر الباقلّانيّ (ت 403 ه). تحقيق مكارثي، بيروت 1957.

11- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: محمّد بن جرير الطبريّ (310 ه)، القاهرة 1323 ه.

12- الحيوان: عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه). تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1938.

13- دلائل الأعجاز: عبد القاهر الجرجانيّ (471 ه). تحقيق محمود محمّد شاكر، القاهرة.

14- الذخيرة في علم الكلام: الشريف المرتضى علم الهدى عليّ بن الحسين الموسويّ (ت 436 ه). تحقيق السيد أحمد الحسينيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة

المدرّسين بقمّ 1411 ه.

15- الرسالة العذراء: إبراهيم بن المدبّر (ت 279 ه). تحقيق زكي مبارك، مصر.

16- الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة و علوم حقائق الإعجاز: يحيى بن حمزة العلويّ. القاهرة 1332 ه/ 1914 م.

17- طبقات المفسّرين: محمّد بن عليّ الداوديّ (ت 945 ه). تحقيق علي محمّد عمر، القاهرة 1975.

18- الفهرست: محمّد بن إسحاق النديم (ت 380 ه). تحقيق رضا تجدّد، طهران 1971.

19- الكتاب: عمرو بن عثمان سيبويه (ت 180 ه). بولاق 1316- 1317 ه.

20- كتاب الصناعتين: أبو هلال الحسن بن عبد اللّه العسكريّ. تحقيق: محمّد

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، المقدمة، ص: 14

أبو الفضل إبراهيم و البجاويّ، مصر 1971.

21- المغني في أبواب التوحيد و العدل: القاضي عبد الجبّار (ت 415 ه). تحقيق أمين الخوليّ، القاهرة 1960.

22- النكت في إعجاز القرآن: عليّ بن عيسى الرمّانيّ (ت 386 ه). تحقيق محمّد خلف اللّه أحمد و محمّد زغلول سلّام (في ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، دار المعارف بمصر 1976.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 5

تقديم

اشارة

الشريف المرتضى عليّ بن الحسين موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم ابن الإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام، السيّد الشريف، أبو القاسم المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين الموسويّ البغداديّ (355- 436 ه)، علم خفّاق في سماء العلم و المعرفة. منذ أن بزغ نوره في سماء مدينة السّلام، و ظلّ يشعّ مدى حياته و بعد وفاته.

تسابق المترجمون له في وصفه بأجلّ النعوت و أجمل الصفات، فقد قيل عنه:

«إنّه متوحّد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدّم في العلوم، و أكثر أهل زمانه أدبا و فضلا»، «حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، عظيم المنزلة في العلم و الدّين

و الدّنيا»، «نقيب النّقباء، الفقيه، النظّار، أوحد الفضلاء، يتوقّد ذكاء»، «كان ذا محلّ عظيم في العلم و الفضائل و الرئاسات»، «كثير الاطّلاع و الجدال»، «إمام أئمّة العراق، إليه فزع علماؤها، و عنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، جماع شاردها و آنسها، ممّن سارت أخباره، و عرفت به أشعاره، و حمدت في ذات اللّه آثاره»، «هو و أخوه في دوح السّيادة ثمران، و في فلك الرئاسة قمران»، «كان إماما في علم الكلام و الأدب و الشّعر و البلاغة، كثير التّصانيف، متبحّرا في فنون العلوم»، «كان مجمعا على فضله، متوحّدا في علوم كثيرة»، «و كان من الأذكياء الأولياء»، و غيرها من الصفات. فالرّجل أشهر من أن يعرّف، و قد ملأ

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 6

صيته الخافقين، و من أراد الاستزادة فعليه بمصادر ترجمته «1».

*** القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، نزل به الأمين جبرائيل عليه السلام بلسان عربيّ مبين، على قلب نبيّه الكريم نجوما، و تحدّى به صلّى اللّه عليه و آله العرب خصوصا، و الجنّ و الإنس عموما من الأوّلين و الآخرين، على أن يأتوا و لو بآية

______________________________

(1) اهمّ هذه المصادر: الفهرست، للطوسيّ/ 99- 100، الرجال/ 484- 485، رجال النجاشيّ/ 270- 271- 708، معالم العلماء/ 61- 63، مجمع الرجال 4/ 189- 191، تنقيح المقال 2- 1/ 28- 285، معجم رجال الحديث 11/ 394- 398، أمل الآمل 2/ 182- 185، مستدرك الوسائل 3/ 515- 517، روضات الجنّات 4/ 294- 312، الدرجات الرفيعة 458- 466، تاريخ بغداد 11/ 402- 403، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ق

4- مج 2/ 465- 475، دمية القصر، 1/ 299- 303- 8، وفيات الأعيان (ابن خلّكان 3/ 313- 317، معجم الأدباء 5/ 173- 179، إنباه الرواة 2/ 249- 250، الوافي بالوفيات 21/ 6- 11- 2، تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب (علم الهدى) 4- 1/ 600- 602، (اللام و الميم) (المرتضى) 5/ 487- 488- 1026، بغية الوعاة 2/ 162، المنتظم 8/ 120- 126، سير أعلام النبلاء 17/ 588- 590- 394، شذرات الذهب 3/ 256- 258، مرآة الجنان 3/ 55- 57، لسان الميزان 4/ 223- 224، الأعلام (ط 3)- 5/ 89، معجم المؤلّفين 7/ 81- 82، أدب المرتضى، الدكتور عبد الرزّاق محيي الدين (مطبعة المعارف- بغداد- 1958)، هديّة العارفين 1/ 688، رجال بحر العلوم 3/ 87- 155، عمدة الطالب 193- 195، أعيان الشيعة (ط. دار التعارف) 8/ 213- 219، الغدير 4/ 262- 299، مقدّمة الأمالي، لمحمّد أبي الفضل إبراهيم 1/ 3/ 26، مقدّمة ديوان المرتضى، للشيخ محمّد رضا الشبيبيّ، و الدكتور مصطفى جواد، و رشيد الصفّار في 144 صفحة، مقدّمة «الانتصار» للسيّد محمّد رضا الخرسان في 61 صفحة، الغدير في التراث الإسلامي، للسيّد عبد العزيز الطباطبائيّ. الشريف المرتضى: أضواء على حياته و آثاره، للشيخ محمّد رضا الجعفريّ، في مجلّة تراثنا، العددان 30 و 31/ 144- 299.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 7

واحدة مثله.

و الواقع التاريخيّ شاهد حيّ على عجز الجميع عن الإتيان بمثل آياته المباركة الى يومنا هذا، برغم أنّه صلّى اللّه عليه و آله تحدّى بذلك قريشا على رءوس الأشهاد، فكذّبوه و استهزءوا به، و بهتوه و نعتوه بالسّحر و الجنون و غيرهما، ثمّ اختاروا المنازلة الصّعبة معه، فناصبوه العداء، و هجروه و حاصروه

في شعاب مكّة مع قومه و عشيرته، ثمّ حاربوه في منازلات عديدة، و جرت بينهم الدّماء، و أخيرا كانت الغلبة و النصر له صلّى اللّه عليه و آله، فآمن من آمن منهم طوعا أو كرها أو رغبة، و أظهر آخرون منهم الإيمان و أبطنوا كفرهم نفاقا.

و بقي التحدّي دون أن يتجرّأ على الإتيان بمثله أحد منهم، و فيهم البلغاء و الفصحاء و الشعراء، إلّا بعض الحمقى و المغفّلين أمثال مسيلمة الكذّاب، ممّن استهزأ بهم و بأقوالهم السخيفة العرب قبل غيرهم. و هكذا بقيت الآيات القرآنية الشريفة شامخة منيعة، برغم مرور القرون المتوالية، و تعاقب الأجيال العديدة، و تنامي الحضارة الإسلامية، و منازلتها لسائر الملل و النحل الكافرة، التي كانت تسعى بشتّى الوسائل أن تصدّ عن انتشارها، و تحاول النيل من هذه الآيات التي كانت تتلى آناء اللّيل و أطراف النّهار، و لكنّهم في جميع الظروف و الأحوال، عجزوا عن أن يتحدّوا المسلمين و يأتوا و لو بآية واحدة، و صدق اللّه العليّ العظيم حيث قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.

*** منذ الصدر الأوّل و إلى يومنا هذا عكف الآلاف من القرّاء و المحدّثين و البلغاء و الفصحاء و الفقهاء و اللّغويّين، و غيرهم- من أصحاب القدرات العلميّة الجبّارة،

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 8

الذين تحفل بأسمائهم و أبحاثهم و كتبهم و دراساتهم كتب التراجم و التاريخ و الفهارس- على دراسة القرآن من شتّى النواحي و الجوانب، و بذلك تأسّس علم- بجانب بقيّة العلوم- سمّي باسم علوم القرآن، يندرج تحته عدد كبير من العناوين الفرعيّة، و كلّ عنوان

فرعي يتضمّن فصولا و أبوابا فرعيّة، تبحث عن موضوع معيّن يتعلّق بالقرآن. و يكفي لمعرفة سعة هذا العلم و تنوّع أبحاثه و تطوّره عبر التاريخ، مراجعة سريعة ل «الفهرست» لابن النديم، و ملاحظة أسماء المئات من المؤلّفين و المؤلّفات و الكتب و الرسائل في هذا المجال، منذ أن نشأ هذا العلم و لغاية جمع ابن النديم لفهرسته في أواسط القرن الرابع الهجريّ، أي خلال ثلاثة قرون فقط. و أمّا خلال القرون العشرة التي أعقبت تأليف الفهرست، فإنّ من الصّعب الوقوف على كلّ ما كتب و ألّف في هذا المجال، لأسباب معروفة و واضحة لدارسي هذا العلم، من تعدّد المذاهب و الفرق و النّحل و المدارس الفكريّة، و تزايد الحواضر العلميّة، و تشتّت أماكنها و تباعدها، و سعة رقعة تواجدها، و تنوّع لغاتها. حيث انتشرت المدارس من الأندلس غربا إلى تخوم الهند و الصين و بلاد ماوراء النهر شرقا و شمالا، مرورا بأهمّ الحواضر العلميّة، أي بلاد فارس و العراق و بلاد الشام و مصر. و هكذا كثر الدارسون و المؤلّفون و المؤلّفات في مجال هذا العلم، و تعدّدت رؤاهم و اجتهاداتهم حول القرآن، و تنوّعت لغاتهم التي كتبوا بها مؤلّفاتهم. هذا فضلا عمّا كتب في بلاد الغرب خلال القرون الميلاديّة الأربعة الأخيرة، حيث تأسّست معاهد و جامعات عديدة لدراسة الشرق و تراثه، لأغراض علميّة نزيهة و أخرى سياسيّة مشبوهة، فكان من أولى اهتماماتهم العناية بالدراسة القرآنيّة، و انتشرت دراسات المستشرقين و أبحاثهم، و كان فيها الغثّ و السمين، و منها ما يحتوي على الوجهة العلميّة و الأكاديميّة الصّرفة، و منها ما صدر عن

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 9

أحقاد صليبيّة و أغراض استعماريّة

مكشوفة. و في كلّ الأحوال كان لدراساتهم مساهمة حقيقيّة في تطوير أبحاث علوم القرآن.

يعدّ البحث عن «إعجاز القرآن» من أهمّ فروع علوم القرآن؛ لأنّه يتركّز على أهم ركيزة واجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المشركين و الكفّار بها، ألا و هي تحدّيهم بإعجاز نصّ القرآن، و أنّهم عاجزون عن أن يأتوا بقرآن مثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة، أو آية مشابهة لآياته، فصار البحث عن «الإعجاز» و ما يتفرّع عليه من معنى «المعجز» و «المعجزة» و شروطها و حدودها، و ما به يكون الشي ء معجزا، و أنواع الإعجاز، و معجزيّة القرآن، و صنوف الإعجاز الذي يتضمّنه القرآن، و غيرها من الأبحاث المتعلّقة بالإعجاز، موضع عناية الباحثين و الدارسين منذ الصّدر الأوّل، فتنوّعت اجتهاداتهم و آراؤهم و أقوالهم و مذاهبهم في ذلك.

و يمكن تلخيص أهمّ أقوالهم في هذا المجال بما يلي:

1- إنّ مجرّد صدور مثل هذه المجموعة من الآيات، من رجل أمّي لم يسبق له أن درس أو قرأ، لخير دليل على كونه خرقا للعادة و معجزا.

2- ارتفاع فصاحته و اعتلاء بلاغته بما لا يدانيه أيّ كلام بشريّ على الإطلاق.

3- صورة نظمه العجيب، و أسلوبه الغريب، المرتفع على أساليب كلام العرب و مناهج نظمها و نثرها، ممّا لم يوجد قبله و لا بعده نظير له.

4- ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات، ممّا لم يكن فكان كما قال، و وقع كما أخبر.

5- ما أنبأ به من أخبار القرون السّالفة، و الأمم البائدة، و الشّرائع الدائرة، ممّا كان لا يعلم به إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب بصورة ناقصة و مشوّهة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 10

6- احتجاجاته المضيئة، و براهينه الحكميّة

التي كشفت النقاب عن حقائق و معارف كانت خفيّة مستورة لذلك العهد.

7- استقامة بيانه، و سلامته من النقص و الاختلاف و التناقض.

8- إعجازه من وجهة التشريع العادل، و نظام المدنيّة الراقية.

9- استقصاؤه للأخلاق الفاضلة، و مبادئ الآداب الكريمة.

10- ذهب المعتقدون بقدم القرآن إلى أنّ وجه إعجاز القرآن كونه قديما، أو هو عبارة عن الكلام القديم و حكاية له.

هذه النظريّات و مشابهاتها ممّا تندرج في إحداها، أو تكون متفرّعة عن إحداها، تعدّ مجموع أقوال الجمهور و زبدة آرائهم، و هناك قول آخر في وجه إعجاز القرآن قد يعدّ مخالفا لرأي الجمهور، هو:

11- القول بالصّرفة، يعني أنّ اللّه سبحانه و تعالى صرف الناس عن معارضته و أن يأتوا بمثله، و لو لا ذلك لاستطاعوا.

بحث عن حقيقة مذهب الصّرفة في إعجاز القرآن

الصّرف و الصّرفة مصدر (صرف)، و قد أطال اللّغويون في توضيح معناها و بيان اشتقاقاتها، لكن حقيقة المادّة تفيد معنى واحدا في معظمها، ألا و هو ردّ العزيمة.

قال الخليل في العين: الصّرف: أن تصرف إنسانا على وجه يريده إلى مصرف غير ذلك.

و قال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة»: صرف، الصّاد و الراء و الفاء، معظم بابه يدلّ على رجع الشي ء. من ذلك صرفت القوم صرفا و انصرفوا، إذا

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 11

رجعتهم فرجعوا.

و قال الراغب في مفرداته: الصّرف: ردّ الشي ء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره.

و قال ابن منظور في لسان العرب: الصّرف: ردّ الشي ء عن وجهه، أن تصرف إنسانا عن وجه يريده إلى مصرف غير ذلك.

أمّا اصطلاح الصّرف و الصّرفة عند المتكلّمين، فمعناه أنّ اللّه تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة، مع أنّ أسباب توفّر الدواعي في حقّهم حاصلة.

و يمكن تبيين و تفسير كلام القائلين بالصّرفة بأنّ

القرآن الكريم يتكوّن من مجموعة من الكلمات و الحروف قد سطّرت و نظمت بنظم خاص. و هذا النظم مهما علا شأنه و فارق سائر نظوم الكلام، فإنّه بنفسه لا يمكن أن يكون معجزا بحيث يعجز من تحدّي به عن الإتيان بما يقاربه. نعم، إنّه يعدّ معجزة و معجزا حينما يسلب اللّه سبحانه و تعالى دواعي الكفّار و غيرهم عن معارضته، فإعجاز نصّ القرآن لا لنفسه و ذاته، و إنّما لسبب خارجيّ طرأ على بعض الناس، و هم الذين قصدوا المعارضة و حاولوا إتيان ما يقاربه في النظم، و لو لا ذلك لاستطاعوا مجاراة سور القرآن و آياته و الإتيان بما يقاربهما في الشّبه. و هذا الطارئ الخارجيّ، و تثبيط عزائم القاصدين للمجاراة، و قبول التّحدي، هو في نفسه إعجاز خارق للعادة. و ذهب جماعة إلى أنّ هذا الرأي يعدّ أخطر و أجرأ ما قيل في هذا المجال.

و إليك توضيح أبي القاسم البلخيّ المتكلّم الشهير في كتابه عيون المسائل و الجوابات لمذهب هؤلاء القائلين بالصّرفة، يقول «1»:

______________________________

(1) الموضح/ 79.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 12

«و احتجّ الذين ذهبوا إلى أنّ نظمه- يعني القرآن- ليس بمعجز، إلّا أنّ اللّه تعالى أعجز عنه، فإنّه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه، بأنّه حروف قد جعل بعضها إلى جنب بعض، و إذا كان الإنسان قادرا على أن يقول: «الحمد»، فهو قادر على أن يقول: «للّه»، ثمّ كذلك القول في كلّ حرف. و إذا كان هكذا فالجميع مقدور عليه، لو لا أنّ اللّه تعالى أعجز عنه».

هذا، و لخطورة هذا الرأي من حيث آثاره و تبعاته و ما يترتّب عليه من القول بأنّ نصّ القرآن لا يعدّ آية و

معجزة في جوهره و ذاته و لا علما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما هو آية من جهة عارض خارجيّ عرض على المتحدّى به، فسلبه القدرة على المعارضة جبرا، بعد أن سلب اختياره و إرادته، و لتباين المذاهب الاعتقاديّة بين المتكلّمين؛ واجه القول بالصّرفة استنكارا واسعا منذ أن خرج إلى الأوساط العلميّة ببغداد في بدايات القرن الثالث الهجريّ، فانبرى جماعة للردّ عليه، و التّشهير به، و الطّعن بأدلّته، و تسفيه قائليه، و استمرّ الأمر على ذلك حتّى يومنا هذا. و سوف نشير لاحقا إلى أسماء ثلّة ممّن عارضوا هذا المذهب من المتكلمين و الأدباء و المفسّرين و الفقهاء، من المتقدّمين و المتأخّرين.

ينسب إلى أبي إسحاق إبراهيم النظّام المتوفّى سنة بضع و عشرين و مائتين أنّه أوّل من قال بالصّرفة، و أنّه مبتدع هذه الفكرة. و قد شاعت هذه النسبة إليه حتّى غدت من الأمور الثابتة في هذا الباب. و لكن من الصعب الاطمئنان إلى هذه النسبة- أو على أقلّ تقدير لتفاصيل مذهبه- لأنّ النسبة إليه جاءت من كتب مخالفيه من الأشاعرة و المجبرة و الحشويّة الذين يحاولون الطعن في معارضيهم بأقوال تنافي أو تستلزم المنافاة للمعتقد العامّ عند عامّة المسلمين، خاصّة إذا لاحظنا أنّه كان للنظّام رأي خاص- يخالف به المذاهب السنيّة و الحشويّة- في شرعيّة خلافة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 13

الخلفاء، و تفضيل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام على غيره، و أمور أخرى تعدّ من ركائز مذاهب أهل السنّة. و النسبة إليه جاءت من عبد القاهر البغداديّ في كتاب الفرق بين الفرق، و أصول الدين، نقلا عن الانتصار للخيّاط، و هو عن ابن الراونديّ الذي

نقل أقواله و طعونه على النظّام في كتابه، تمهيدا للردّ عليه و تكذيب ما نسب إلى النظّام. و يبدو أنّ تفاصيل مذهب النظّام لم تكن معروفة على وجه الدقّة «1»، يقول الشريف المرتضى في بداية الفصل الذي عقده للبحث عن موضوع الصّرفة، في كتابه «الذخيرة» «2»: «و قد حكي عن أبي إسحاق النظّام القول بالصّرفة، من غير تحقيق لكيفيّتها، و كلام في نصرتها».

و مهما كانت درجة صحّة النسبة، فإنّ الثابت هو بروز أصل الفكرة في تلك الفترة، و أنّ هناك من المتكلّمين من كان يقول: إنّ نظم القرآن و حسن تأليف كلماته ليس بمعجزة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا دلالة على صدقه في دعواه النبوّة ... أو أن نظم القرآن و حسن تأليف آياته، فإنّ العباد قادرون على مثله، و ما هو أحسن منه في النظم و التأليف «3».

إنّ إطلاق هذا الرأي أدّى إلى أن يقدم جماعة من المتكلّمين- سواء من الأشاعرة أو المعتزلة- على تدوين كتب و رسائل في الدفاع عن معجزيّة نظم

______________________________

(1) قال المستشرق JBouman : إنّ النظّام- وفقا لتقارير الأشعريّ و الخيّاط و البغداديّ- لم يقل بأنّ صرف اللّه الناس عن الإتيان بمثل القرآن (و الذي عرف فيما بعد بالصّرفة اصطلاحا) معجزة، و إنّما ذكر النظّام هذا الرأي جوابا لمن يسأل السؤال التالي: لما ذا لم يقلّد الأسلوب القرآنيّ تقليدا ناجحا على الصعيد العمليّ، مع أنّه قابل للتقليد؟ راجع:

مارتين مكدرموت، نظريّات علم الكلام عند الشيخ المفيد/ 134.

(2) الذخيرة/ 378.

(3) مذاهب الإسلاميّين لعبد الرحمن بدويّ/ 213.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 14

القرآن و نصّه، منها:

1- نظم القرآن للجاحظ، المتوفّى سنة 255 ه.

2- إعجاز القرآن في نظمه و تأليفه، لأبي

عبد اللّه محمّد بن يزيد الواسطيّ المتوفّى سنة 306- 307 ه.

3- نظم القرآن، لابن الإخشيد، المتوفّى سنة 326 ه.

4- النكت في إعجاز القرآن، لعليّ بن عيسى الرّمانيّ، المتوفّى سنة 386 ه.

5- إعجاز القرآن للباقلّانيّ، المتوفّى سنة 403 ه.

6- الانتصار للقرآن، للباقلّانيّ.

و قيل إنّ ممّن تابع هذا الرأي و انتصر له جماعة من أعلام السنّة من الأشاعرة و المعتزلة و الظاهريّة، منهم:

الجاحظ الذي نسب اليه القول بالصّرفة، على الرغم من اضطراب مذهبه و عقيدته، حيث كان من ديدنه أنّه يتبنّى مذهبا فيصنّف في الدفاع عنه، ثمّ يردّه بكتاب آخر و ينتصر لما يضادّ الرأي الأوّل، و هكذا كان في كثير من اعتقاداته.

و أبو إسحاق النّصيبيّ، و عبّاد بن سليمان الصّيمريّ، و هشام بن عمرو الفوطيّ (و هم بعض تلامذة النظّام).

و الطريف أن ممّن اعتقد بالصّرفة من أصحاب أبي الحسن الأشعريّ، أبا إسحاق إبراهيم بن محمّد الأسفرايينيّ، الفقيه الشافعيّ الأشعريّ، المتوفّى سنة 418 ه، لكنّه كان يذهب إلى أنّ الإعجاز يكون من جهة الصّرفة و الإخبار عن الغيب معا.

هذا، و قد أدرج الشريف المرتضى أبا القاسم البلخيّ (المتوفّى 317 أو 319

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 15

ه) في عداد من قالوا بالصّرفة لا مطلقا، بل على بعض الوجوه «1»، قال: «المذهب الذي نقله أبو القاسم البلخيّ عن جماعة المعتزلة و نصره و قوّاه، هو أنّ نظم القرآن و تأليفه يستحيلان من العباد، كاستحالة إحداث الأجسام، و إبراء الأكمه و الأبرص».

و كذلك اعتنق مذهب الصّرفة صراحة أبو محمّد عليّ بن أحمد بن حزم الأندلسيّ الظّاهريّ المتوفّى سنة 456 ه، و دافع عن معتقده في كتابه الفصل في الملل و الأهواء و النّحل، و خلاصة قوله:

«إنّ القرآن

معجزة خالدة، لا يقدر أحد على المجي ء بمثلها أبدا؛ لأنّ اللّه تعالى حال بين الناس و بين ذلك ... و هذا هو الذي جاء به النصّ، و الذي عجز عنه أهل الأرض، منذ أربعمائة عام و أربعين عاما، و إلى أن يرث اللّه الأرض و من عليها» «2».

بيان حقيقة اعتقاد الشريف المرتضى في القول بالصّرفة

يعدّ الشريف المرتضى أبرز متكلّم اعتقد بمقولة الصّرفة، و من حسن الحظّ أنّه وصل إلينا تراثه الكلاميّ، و يمكن للباحث أن يقف على حقيقة معتقده في الصّرفة من جميع جوانبها دون لبس أو تمويه و تشويه من الناقلين الوسطاء؛ فقد بيّن المرتضى مذهبه و اعتقاده في عدد من كتبه، و دافع عنه دفاع العالم الخبير، و المتكلّم النبيه، و من هذه الكتب كتاب جمل العلم و العمل «3»، حيث نجد صريح

______________________________

(1) الموضح/ 107.

(2) الفصل 3/ 26- 31، طبعة دار الجيل.

(3) و هو مطبوع مستقلا، و كذلك مع شرح القاضي ابن البرّاج، و طبع أيضا ضمن مجموعة رسائل الشريف المرتضى.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 16

كلامه في باب (ما يجب اعتقاده في النبوّة)، و كذلك تحدّث في المسائل الرّسيّة «1» في المسألة الثالثة في (معرفة وجه إعجاز القرآن). كما عقد الشريف فصلا في كتابه الذخيرة «2» سمّاه، في جهة دلالة القرآن على النبوّة و تحدّث فيه بالتفصيل عن مذهب الصّرفة.

و قام الشيخ الطوسيّ (المتوفّى سنة 460 ه)- و هو أبرز تلامذة الشريف و خليفته في المشيخة و الإفتاء و الدرس- بشرح كتاب جمل العلم و العمل سمّاه تمهيد الأصول «3» و بسط القول في شرح مذهب شيخه، و أيّده في ذلك و جعله مختاره قبل أن يتراجع عنه لاحقا.

هذا، و يبدو أنّ الشريف أحسّ أنّ هذه

الفصول المتناثرة في كتبه العديدة التي عقدها لشرح مذهبه، غير كافية لتبيان مذهبه و جوانبه، و إسكات خصومه المنبرين للردّ على مذهب الصّرفة، فأقدم على تأليف كتاب مستقلّ في هذا الموضوع، سمّاه كتاب الموضح عن جهة إعجاز القرآن، و سمّاه مختصرا ب كتاب الصّرفة، و فيه بسط القول، و أبرز الجوانب العديدة لهذا المذهب، و عرض آراء المعارضين و الموافقين لمذهبه. و هذا الكتاب يغني الباحث في مذهب الصّرفة و ما يتعلّق به من مناقشات عن الرجوع إلى غيره، و سنتحدّث عن هذا الكتاب و أسلوب المصنّف فيه لاحقا.

و إليك خلاصة مذهب الشريف المرتضى في الصّرفة، بناء على ما جاء في كتاب «الموضح» بنصّ كلامه و عباراته، بتصرّف يسير.

يقول الشريف المرتضى في هذا الكتاب:

______________________________

(1) المسائل الرّسيّة/ 323، المطبوع ضمن المجموعة الثانية من رسائل الشريف المرتضى.

(2) الذخيرة/ 378- 404.

(3) تمهيد الأصول من جمل العلم و العمل/ 334.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 17

1- يعدّ نصّ القرآن معجزا للبريّة، و علما و دالّا على النبوّة و صدق الدّعوة.

(ص 13) 2- و إنّ فصاحته بحيث خرقت عادة العرب، و بانت من فصاحتهم. (ص 14) 3- إنّ القرآن مختصّ بطريقة في النظم مفارقة لسائر نظوم الكلام، و هذا الاختصاص أوضح من أن يحتاج إلى تكلّف الدّلالة عليه. لكن لا يكفي النظم وحده في التحدّي به، بل لا بدّ أن يقع التحدّي بالنظم و الفصاحة معا (ص 8)، أي أنّ التحدّي وقع بالفصاحة و الإتيان بمثله في فصاحته و طريقته في النظم معا، لا مجرّد النظم وحده. (ص 7) 4- إنّ التحدّي وقع بحسب عرف القوم و عادتهم، من حيث أطلق اللّفظ به، و قد علمنا أنّه لا

عهد لهم و لا عادة بأن يتحدّى بعضهم بعضا بطريقة نظم الكلام دون فصاحته و معانيه، و إنّ الفصاحة هي المقدّمة عندهم في التحدّي، و النظم تابع لها. (ص 84) 5- و المثل في الفصاحة الذي دعوا إلى الإتيان به هو ما كان المعلوم من حالهم تمكّنهم منه و قدرتهم عليه، و هو المتقارب و المداني، لا المماثل على التحقيق، الذي ربّما أشكل حالهم في التمكّن منه. (ص 32) 6- و التحدّي لا يجوز أن يكون واقعا بأمر لا يعلم تعذّره أو تسهّله، و أنّه لا بدّ أن يكون ما دعوا إلى فعله ممّا يرتفع الشكّ في أمره (ص 35)، و قد ثبت أنّ التحدّي للعرب استقرّ آخرا على مقدار ثلاث آيات قصار من عرض ستّة آلاف آية. (ص 9) 7- و الصّرفة على هذا إنّما كانت بأن يسلب اللّه تعالى كلّ من رام المعارضة، و فكّر في تكلّفها في الحال العلوم التي يتأتّى منها، مثل فصاحة القرآن و طريقته

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 18

في النظم، و كيفية الصّرف هي بأن لا يجدوا العلم بالفصاحة في تلك الحال، فيتعذّر ما كان مع حصول العلم متأتّيا. (ص 25) 8- و إذا لم يقصد المعارضة، و جرى على شاكلته في نظم الشعر، و وصف الخطب، و التصريف في ضروب الكلام خلّي بينه و بين علومه.

9- و ما يقال: إنّ هذا القول يوجب أن يكون القرآن في الحقيقة غير معجز، و أن يكون المعجز هو الصّرف عن معارضة، فنقول له: بل إنّ القرآن هو المعجز من حيث كان وجود مثله في فصاحته و طريقة نظمه متعذرا على الخلق، من دون اعتبار سبب التّعذر؛ لأنّ السّبب

و إن يعود عندنا إلى الصّرف، فالتعذّر حاصل على كلّ حال. (ص 40) 10- هكذا ثبت أنّ القرآن هو العلم على صدق دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ معارضته متعذّرة على الخلق، و أنّ ذلك ممّا انحسمت عنه الأطماع و انقطعت فيه الآمال. فالتحدّي بالقرآن و قعود العرب عن المعارضة، يدلّان على تعذّرها عليهم، و أنّ التعذّر لا بدّ أن يكون منسوبا إلى صرفهم عن المعارضة. (ص 42) 11- و القول بأنّ الصّرفة مخالفة لإجماع أهل النظر غير تامّ؛ لمخالفة النظّام و من وافقه، و عبّاد بن سليمان، و هشام بن عمرو الفوطيّ و أصحابهما، فإنّهم خارجون عن الإجماع. (ص 44- 45) كما قام الشريف بتوضيح نقاط كثيرة، و مفاهيم عديدة- مثل: المعجز، الإعجاز، التحدّي، النظم، الفصيح، خرق العادة و غيرها- التبست معانيها على كثير من المتكلّمين، ممّا استلزم مخالفتهم إيّاه و نسبة اعتقادات إليه هو بري ء منها.

و مع وضوح تفاصيل مذهب الشريف في القول بالصّرفة- الذي ذكرنا خلاصته، و يجد القارئ الكريم تفاصيله و توضيحه لأمور أخرى في الكتاب-

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 19

يتبيّن بطلان كثير ممّا قيل أو يقال، و نسب أو ينسب إليه- و إلى غيره من القائلين بالصّرفة- من أمور مخالفة لعقيدة عامّة المسلمين و إجماعهم، من القول بأنّهم ينفون معجزيّة نصّ القرآن، و كونه علما و دالّا على صدق دعوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ القول بالصّرفة يستلزم صدور القبيح منه تعالى، و الجبر و سلب الاختيار و القدرة من العرب، و أمور أخرى مستنكرة تعرّض لذكرها كلّ من تصدّى لردّ مذهب الصّرفة من المتقدّمين، كالباقلانيّ و القاضي عبد الجبّار و

عبد القاهر الجرجانيّ و التفتازانيّ. و من المتأخّرين كالسيّد هبة الدين الشهرستانيّ، و الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، و مصطفى صادق الرافعيّ، و المحامي توفيق الفكيكيّ، و العلّامة الطباطبائيّ و آخرين.

ذهب إلى القول بالصّرفة، جماعة من معاصري الشريف و ممّن تأخّر عنه:

1- أبرزهم شيخه و شيخ الإماميّة، و أعظم متكلّميها على الإطلاق، أي الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان البغداديّ، المشهور بالشيخ المفيد (المتوفّى سنة 413 ه)، فقد صرّح في كتابه أوائل المقالات، الجامع لعقائده في أصول الدين و المذهب ب (إنّ جهة ذلك- أي إعجاز القرآن- هو الصّرف من اللّه تعالى لأهل الفصاحة و اللّسان، عن المعارضة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، و جعل انصرافهم عن الإتيان بمثله و إن كان في مقدورهم، دليلا على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله، و اللّطف مستمرّ في الصّرف عنه إلى آخر الزمان) «1».

و هذا القول تصريح منه رحمه اللّه لا لبس فيه بأنّه كان يعتقد بمذهب الصّرفة، فما نسبه إليه العلّامة المجلسيّ رحمه اللّه في بحار الأنوار «2»، و القطب الراونديّ في الخرائج

______________________________

(1) أوائل المقالات/ 63، طبعة مؤتمر الشيخ المفيد.

(2) بحار الأنوار 17/ 224.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 20

و الجرائح «1» أنّه تراجع عنه أخيرا، قول لم نعثر على دليل يسنده من تراث الشيخ المفيد المنشور.

اللّهم إلّا أن يكون الشيخ المفيد رحمه اللّه قد تراجع عن رأيه هذا في بعض رسائله التي فقدت و لم تصل إلينا، و وقف على محتواها المجلسيّ رحمه اللّه و القطب الراونديّ.

و معروف أنّ للمفيد رسالتين في موضوع إعجاز القرآن مفقودتين، هما: الكلام في وجوه إعجاز القرآن، و جوابات أبي الحسن

سبط المعافى بن زكريّا في إعجاز القرآن «2».

2- الشيخ أبو جعفر الطوسيّ رحمه اللّه فإنّه حينما أقدم على شرح القسم النظريّ من كتاب الشريف، الموسوم ب جمل العلم و العمل ذهب إلى القول بالصّرفة، لكنّه تراجع عنه بعدئذ، و صرّح بذلك في كتابه الاقتصاد «3» بقوله:

«كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصّرفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه اللّه، حيث شرحت كتابه، فلم يحسن خلاف مذهبه».

3- أبو الصّلاح تقيّ الدين الحلبيّ (المتوفّى سنة 447 ه) صرح بذلك في كتابه تقريب المعارف «4» بقوله: «... ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين ... و التحدّي واقع بهما (أي الفصاحة و النظم معا)، و عن الجمع بينهما كان الصّرف».

4- الأمير عبد اللّه بن سنان الخفاجيّ (المتوفّى سنة 466 ه)، حيث صرّح بقوله «5»:

______________________________

(1) الخرائج و الجرائح 3/ 981.

(2) رجال النجاشيّ/ 400، طبعة جماعة المدرّسين.

(3) الاقتصاد/ 173.

(4) تقريب المعارف/ 107.

(5) لاحظ الإعجاز في دراسات السابقين، لعبد الكريم الخطيب/ 373.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 21

«إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة، في وقت مرامهم ذلك».

5- قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراونديّ (المتوفّى سنة 573 ه)، فقد اختار مذهب الصّرفة، و صرّح بذلك في كتاب الخرائج و الجرائح «1» في فصل عقدة في باب إعجاز القرآن سمّاه (في أن التعجيز هو الإعجاز)، ثمّ طرح في الباب الذي لحقه أقوال مخالفي الصّرفة، و دافع عن مذهب الصّرفة، و يستشمّ من مجموع الكلام في الباب أنّه اختار مذهب الصّرفة.

هذا، و قد نسب القول بالصّرفة إلى جماعة، منهم: أبو مسلم محمّد بن بحر الأصفهانيّ (المتوفّى

سنة 322 ه)، و عليّ بن عيسى الرّمّانيّ (المتوفّى سنة 386 ه)، و الخواجه نصير الدين الطوسيّ (المتوفّى سنة 672 ه)، و فخر الدين الرازيّ (المتوفّى سنة 606 ه)، و لكن لم نجد تصريحا بذلك في مصنّفاتهم.

*** وصف كتاب (الموضح عن جهة إعجاز القرآن)

يظهر لمن درس مراحل حياة الشريف المرتضى أنّه من الشخصيّات المتعدّدة الجوانب؛ فهو فقيه و أصوليّ و متكلّم و شاعر و مفسّر و ... و له كتب و رسائل و آراء في جميع هذه العلوم، و لكنّه كان قبل كلّ شي ء فقيها، حيث بدأ حياته العلميّة بقراءة الفقه على الشيخ المفيد، و استمرّ يمارس الفقه و يدرّسه طيلة حياته، و ختم مسيرته أيضا بالفقه، فقد توفّاه اللّه سبحانه و تعالى حينما كان شيخا و مرجعا للفتيا للطائفة الإماميّة، إلّا أنّ شهرته كانت في علم الكلام و تضلّعه في

______________________________

(1) الخرائج و الجرائح 3/ 981- 994.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 22

بحوث أصول الدين، حتّى طغت على بقيّة مواهبه و ملكاته، و من هنا عدّ فقيها متكلّما أو متكلّما فقيها. و لعلّ لهذه الشهرة نصيبا كبيرا من الحقيقة، إذ حينما نلاحظ فهرس مؤلّفات الشريف، نجد أنّ علم الكلام و المناظرة و الجدل و مباحث أصول الدين، يمثل حيّزا كبيرا منها، فقد كتب و ألّف كتبا و رسائل عديدة حول مواضيع كلاميّة مهمّة كانت مطروحة عند المتكلّمين و أصحاب المذاهب الكلاميّة و مناصريهم في تلك القرون. و من خلال مراجعة سريعة لتراث المرتضى الكلاميّ، يبرز لنا نشاطه و قوّة اندفاعه في متابعة آراء خصوم الإمامية، و الإجابة عنها بما يطابق المذهب الكلاميّ الإماميّ. و لعلّ جانبا من هذا النشاط، و قوّة الاندفاع، و سرعة الإجابة، أو اتّخاذ المواقف، يعود

إلى موقعه و منصبه في المجتمع البغداديّ، و عند طائفته، حيث كان زعيم الشيعة بلا منازع، منذ أن توفّي شيخه و سلفه في الزّعامة، الشيخ المفيد عام 413 ه. و استمرّ في زعامته إلى حين وفاته عام 436 ه، أي مدّة تزيد على عقدين، فقد كان موقعه يقتضيه إبداء رأيه في كثير من القضايا المثارة في تلك الأزمنة، و ما أكثرها! و من القضايا التي كانت مثارة في تلك العهود موضوع إعجاز القرآن، و هو موضوع من الأهميّة بمكان، و قد كتبت و ألّفت عنه أسفار كثيرة. و لمّا كان المصنّف يتبنّى رأيا خاصّا في هذا الموضوع ينفرد به، هو قوله بالصّرفة، استلزم الأمر أن يوضّح اعتقاده، و يبيّن غرضه و مراده، فعقد في عدد من كتبه فصولا و أبوابا لتوضيح هذا الأمر. و يبدو أنّ الشريف أحسّ أخيرا بعدم وفاء ما عقده من الفصول و الأبواب ببيان غرضه و توضيح مرامه، فأقدم على تصنيف كتاب جامع مستقلّ في هذا الموضوع، يحتوي على كلّ ما يتعلّق به، سمّاه كتاب (الموضح عن جهة إعجاز القرآن)، و سمّاه ملخّصا (كتاب الصّرفة). و يعدّ هذا الكتاب من تراث

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 23

الشريف الذي سلم معظمه من عوادي الدهر، و وصلت الينا نسخة يتيمة منه، تعدّ من نوادر المخطوطات. و يعدّ كتاب الصّرفة أوسع مؤلّف كتب في هذا المجال، و هو فريد في بابه، حيث لم يصنّف غيره- حسبما راجعنا في كتب الفهارس- في هذا الموضوع عند الإماميّة و غيرهم.

نسبة الكتاب إلى المصنّف

لا شكّ أنّ المرتضى ألّف كتابا سمّاه (الموضح عن جهة إعجاز القرآن)، و سمّاه باختصار (كتاب الصّرفة)، و قد ذكر كلّ من ترجم له هذا

الكتاب في فهرست مؤلّفاته. و أقدم من ذكره تلميذه الشيخ الطوسيّ رحمه اللّه في: فهرسته عن مصنّفي كتب الشيعة و أصولهم «1»، قال: و له كتاب الصّرفة.

ثمّ تبعه النجاشيّ (المتوفّى سنة 450 ه) في رجاله «2» بقوله: كتاب الموضح عن جهة إعجاز القرآن، و هو الكتاب المعروف بالصّرفة.

و غيرهم ممّن ترجم للشريف، آخرهم الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ في الذريعة «3»، قال: كتاب الصّرفة الموسوم ب الموضح عن جهة إعجاز القرآن، للسيّد المرتضى أبي القاسم عليّ بن الحسين بن موسى الموسويّ المتوفّى سنة 436 ه ...

و عبّر السيّد نفسه عن هذا الكتاب بالصّرف في كتابه جمل العلم و العمل، و كرّر التعريف بالكتاب في مدخل (الموضح) «4».

و من جهة أخرى فإنّ الشريف نفسه قد أشار إلى هذا الكتاب مرارا في ثنايا

______________________________

(1) الفهرست/ 290، طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم السّلام.

(2) رجال النجاشيّ/ 270، طبعة جماعة المدرّسين.

(3) الذريعة 15/ 42.

(4) الذريعة 23/ 267.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 24

بعض كتبه و رسائله، و قال إنّه قد استوفى البحث عن مذهب الصرفة فيه، منها:

كتاب جمل العلم و العمل، و كذلك كتاب الذخيرة «1»، حيث قال فيه: «و له نصرت في كتابي المعروف ب الموضح عن جهة إعجاز القرآن»، و غيرهما.

هذا، فضلا عن أنّ نصّ كتاب الموضح يماثل كثيرا نصّ الفصل الذي عقده الشريف في إعجاز القرآن في الذخيرة؛ إذ أنّ التماثل بينهما في العبارات، و النمط الفكريّ، و الأسلوب و المحتوى و الأمثلة، واضح إلى درجة التطابق في بعض الأحيان بحيث يطمئنّ القارئ و يتأكّد له أنّهما صادران من كاتب واحد. و في الحقيقة يمكن عدّ هذا الفصل من الذخيرة تلخيصا للأقسام الأولى من كتاب الموضح.

كما توجد

قرينة أخرى هي أنّ الشريف قال في الذخيرة «2»: «و هذا ممّا اعتقده صاحب الكتاب المعروف ب المغني، و نقضناه عليه في كتابنا الموسوم ب الموضح عن جهة إعجاز القرآن.

و قد وفى الشريف بوعده هذا في نسختنا، حيث نلاحظ أنّه تعرّض لأقوال القاضي و طرحها و نقدها بالتفصيل، و جاء في الورقة (54 أ):

«فصل في بليغ ما ذكره صاحب الكتاب، المعروف ب المغني ممّا يتعلّق بالصّرفة. قال الشريف المرتضى رضوان اللّه تعالى عليه: قال صاحب هذا الكتاب في فصل وسمه ...».

و هذا تصريح من كاتب النسخة باسم الشريف، و أنّ الردّ على «المغني» يعود اليه، و هو أكبر دليل على انتساب الكتاب الى الشريف.

______________________________

(1) الذخيرة/ 378 و 388.

(2) الذخيرة/ 388.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 25

نسخة الكتاب

لا يتوفّر لهذا الكتاب القيّم و التراث الغالي النفيس إلّا نسخة يتيمة واحدة، سلمت من عوادي الدهر و حوادث الزمان التي أتلفت كمّا هائلا من مصنّفات أعلام القرون الأولى. و المتتبّع في تراث الشريف المرتضى يواجه ظاهرة غريبة، هي أنّ جميع مؤلّفاته الكبيرة و المتوسّطة و الصغيرة و حتّى رسائله العديدة التي لا يتعدى حجم بعضها وريقات، كانت متداولة، و لها نسخ عديدة حسب القرون المتأخّرة، و يظهر من تأريخ كتابة النّسخ و التملّكات التي عليها أنّ الأصحاب كانوا يتعاهدونها بالقراءة و المقابلة و التعليق و التلخيص و الشرح، بل إنّ بعض كتب المرتضى رحمه اللّه لها عدّة شروح، مثل: جمل العلم و العمل، و الذريعة إلى أصول الشريعة، إلّا كتاب الموضح، فإنّه لم يشر إليه أحد من المفهرسين إشارة تنمّ عن رؤيته للكتاب مباشرة و عيانا بعد عصر تلميذه الطوسيّ، و النجاشيّ المتوفّى سنة 450 ه،

و لم ينقل أحد عنه مباشرة، و هما يدلّان على أنّ الكتاب لم يكن في متناول أيدي الجميع مدّة ألف سنة. و لعلّ الكتاب اختفى مباشرة بعد سنوات قليلة من تأليفه، لأسباب غير معروفة. و يبدو أنّ الأوهام التي أثيرت حول معتقدي مذهب الصّرفة من أنّهم لا يعتقدون بإعجاز نصّ القرآن، كانت أحد الأسباب في عدم الاهتمام بالكتاب.

و إليك مواصفات النسخة التي هي من نفائس مخطوطات خزانة مكتبة الإمام الرضا عليه السّلام بخراسان (- كتابخانه آستان قدس رضوى):

رقم 12409، قياس 17+ 21، عدد الأوراق 102، عدد الأسطر 21، و هي نسخة نظيفة بخط نسخ مشرقيّ جميل مشكول، و يظهر منها أنّها كانت محفوظة مدّة عشرة قرون بأيد أمينة، حيث لم ير عليها أثر للخرم أو الرطوبة، و لم تشوّه

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 26

النسخة كتابة الهوامش و التعليقات و الذكريات و التملّكات و غيرها.

جاء في آخرها قول الناسخ رحمه اللّه:

«تمّ الكتاب، كتبه محمّد بن الحسين بن حمير الجشميّ «1»، حامدا للّه تعالى على نعمه، و مصلّيا على النبيّ محمّد و عترته، و مستغفرا من ذنوبه، و فرغ منه يوم الأربعاء منتصف المحرّم سنة ثمان و سبعين و أربعمائة».

و الملاحظ أنّ كاتب النسخة، برغم كونه رجلا عالما فاضلا، و حاول إخراج نسخة مطابقة لأصل المصنّف، لكن وقع في إخطاء و هفوات، وردت الاشارة إليها في الهامش.

و يبدو من البلاغات الموجودة في جوانب أوراق النسخة- من أوّلها إلى آخرها- أن ناسخها قابلها بعد كتابتها بنسخة الأصل، و أضاف الكلمات المفردة الساقطة بين الأسطر و على موضع السقوط. و وضع الكلمات أو الجمل الطويلة في هامش النسخة، مع الإشارة إلى التصحيح تارة، و عدم الإشارة

إليه أخرى، و لكن في كلّ الأحوال يتطابق قلم ناسخ الأصل مع قلم المصحّح. كما أنّ بدايات الأبواب و الفصول و المسائل و الأقوال قد كتبت على نحو بارز و بماء الذهب.

و لا نمتلك معلومات تفصيليّة تعيننا على معرفة الكاتب. أمّا الجشميّ فهو إمّا أن يكون منسوبا إلى قبائل جشم التي ذكر السمعاني (الأنساب 2: 61- 62) أنّ منها طائفة من العلماء و الأعيان، أو منسوبا إلى منطقة جشم التي لم يذكر عنها ياقوت الحمويّ (معجم البلدان 2/ 141) إلّا أنّها من قرى بيهق من أعمال نيسابور

______________________________

(1) ضبط كلمة (الجشميّ) في آخر النسخة، هو بفتح الجيم و ضمّ الشين المعجمة، لكن الصحيح هو ضمّ الجيم و فتح الشين المعجمة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 27

بخراسان «1».

و قد خرّجت هذه القرية الصغيرة في تلك الفترة (القرن الخامس الهجريّ) جماعة من الفضلاء الأعلام، منهم: الحاكم أبو سعد محسّن بن كرّامة الجشميّ الزيديّ المقتول بمكّة غيلة سنة 494 ه، صاحب التصانيف العديدة، و شيخ الزمخشريّ في التفسير. و ولده الحاكم محمّد بن أبي سعد الجشميّ، و أحفاده عفيف القضاة الحاكم الهادي، و الحاكم الموفّق الجشميّان. و لعلّ صاحبنا من هذه العائلة النبيلة الكريمة الشريفة التي ينتهي نسبها إلى محمّد بن الحنفيّة ابن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و ينبغي لنا أن نطلب لهذا العالم الجليل من اللّه سبحانه و تعالى الرحمة و الغفران، إذ حفظ لنا كنزا ثمينا، و تراثا علميّا لا يعوّض.

و ممّا يوسف له أنه قد سقطت بداية النسخة، و لا نعرف حجم الأوراق الساقطة، لكن أشرت في بداية الكتاب إلى أنّ الساقط لا يتعدّى وريقات قليلة، لعلّها لا تتجاوز المقدّمة، و بعض الكلام عن

التنبيهات و الأوّليّات عن مذهب الصّرفة، و معنى الفصاحة و مفهومها، حيث يشير المصنّف إليه في الورقة 4 ب/ بقوله: «فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي»، ثمّ يشرع المصنّف بعده مباشرة بالحديث عن الصّرفة و معناها.

______________________________

(1) من قرى ربع (گاه) على جانب قرية بروغن، كما ذكره ابن فندق (ت 565 ه) في كتابه تاريخ بيهق 38. و القرية لا زالت موجودة بالاسم نفسه في رستاق گاه و داورزن من محالّ مدينة سبزوار بالقرب من قرية بروغن، و قد ورد اسمها في المراجع الرسميّة الإيرانيّة، مثل: لغت نامه دهخدا/ حرف ج، و فرهنگ آبادى هاى كشور 4، و سبزوار 49، و غيرها.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 28

فصول الكتاب و أبوابه

سبق أن أشرنا إلى وجود نقص في بداية النسخة، فلو أغمضنا الطّرف عنه فإنّه يمكن أن نقول: إنّ كتاب الموضح ينقسم إلى ستّة أقسام أو فصول، أراد المصنّف من خلال مجموعها إثبات نظريّته، و هي:

1- بيان مذهب المصنّف في القول بالصّرفة، و دفع ما يرد عليه من الاعتراضات و الشّبهات، و ذلك من صفحة 1 لغاية 75.

2- في ردّ مذهب جماعة المعتزلة من صفحة 76 لغاية 94.

3- فصل في بيان ما يلزم مخالفي الصّرفة، و ردّ بعض الشّبهات، مثل ما قيل إنّ القرآن لعلّه للجنّ، من صفحة 95 لغاية 153.

4- عرض لأقوال القاضي عبد الجبّار في كتابه المغني و نقده لها، من صفحة 166 لغاية 250.

5- مسألتان متعلّقتان بدفع بعض الشّبهات المتعلّقة بالصّرفة، من صفحة 251 لغاية 260.

6- أربعة فصول تتضمّن أبحاثا تتعلّق بأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد تحدّي بالقرآن و تعذّرت معارضته، من صفحة 261 إلى آخر الكتاب.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ أوسع أقسام

الكتاب هو الفصل الأوّل و الرابع، و هما يستوعبان نصف الكتاب.

عملنا في تحقيق هذا الكتاب

لمّا كانت النيّة معقودة- بحول اللّه و قوّته- على إخراج هذا التراث العلميّ الثمين إلى الملأ العلميّ، و إبرازه بما يناسب مكانته من تاريخ علم الكلام الإسلاميّ، قمت بالخطوات اللازمة في مثل هذه الكتب، و هي:

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 29

1- قراءة النصّ أولا قراءة تدقيق و تأمّل، لاستيعاب محتوى الكتاب، و من ثمّ مقارنته بسائر مؤلّفات الشريف المرتضى، لأجل العثور على بعض المقارنات التي تعينني في فهم النصّ و التعليق عليه. حيث راجعت جلّ مؤلّفات المرتضى الكلاميّة، من كتب و رسائل، و خاصة كتابه الذخيرة الذي يعدّ فصله في إعجاز القرآن تلخيصا لفصول هامّة من كتاب الموضح، بل إنّ بعض مقاطع الكتابين متطابقة تماما كما تراه مثبتا في الهامش.

2- تقويم النصّ و تقطيعه بحسب ما هو متعارف عند أهل الفنّ، و لمّا كانت النسخة المعتمدة مشكولة، ارتأيت أن أقدّم النصّ إلى القارئ كما هو مثبّت في الأصل مع الحركات الإعرابيّة، بعد تصحيح ما يحتاج إلى التصحيح.

3- تخريج ما أمكن تخريجه من الآيات و الأحاديث و الأشعار و الأرجاز و الاقوال التي استشهد بها المؤلّف، و تقديم تعريف موجز بالأعلام الواردة أسماؤهم في النصّ.

4- بالنسبة الى الرسم الإملائيّ قمت بكتابة النصّ على الرسم المتعارف عليه اليوم، لا على ما جرى عليه المؤلّف و الناسخ قبل ألف عام، إيثارا للتسهيل على من يطالع الكتاب، و جريا على ما هو المتعارف عليه الآن.

5- قراءة متأنّية للكتاب مرّات عديدة، تفاديا لوجود أغلاط مطبعية، و أملا في تقديم نص صحيح، خاصّة و أنّ النّص المطبوع ملي ء بالحركات الإعرابيّة.

6- تصدير الكتاب بمقدّمة تشتمل على ترجمة المصنّف

رحمه اللّه، و دراسة حول نظريّة الصّرفة في إعجاز القرآن، و حقيقة مذهب الشريف، و بنسخة الكتاب، و ما يتعلّق بها.

*** و أخيرا لا يفوتني أن أنوّه بجميل من آزرني في إنجاز هذا العمل، و أخصّ

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 30

بالذكر ابن عمّنا المحقّق الفاضل، و الخبير بعلم الكلام الإسلاميّ، عضو مؤسّسة دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى، الأستاذ حسن الأنصاريّ الذي يرجع إليه الفضل في العثور على هذه المخطوطة الثمينة، و التعريف بها في مقال علميّ رصين «1»، و الحثّ على تحقيقها و إخراجها.

كما يجب أن أقدّم جزيل شكري و عرفاني للمحقق القدير الأستاذ علي البصري- مدير قسم الكلام في مجمع البحوث الاسلامية- الذي راجع الكتاب مراجعة دقيقة فاحصة، و أبدى ملاحظات و تصحيحات قيّمة ممّا زاد في تقويم النّص و صحته.

و أتقدّم أيضا بوافر الشكر و التقدير لسماحة حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ علي أكبر إلهيّ الخراساني مدير مجمع البحوث الإسلاميّة الذي بادرني بالمباركة على اختياري الكتاب للتحقيق، و هيّأ لي- متفضّلا- صورة عن المخطوطة، و ظلّ يتابع بجدّ سير العمل الى مرحلته الأخيرة. أسأل اللّه سبحانه له التوفيق الدائم لخدمة العلوم الإسلاميّة.

و في الختام أحمد اللّه العليّ القدير على توفيقه إيّاي أن أعيش في رحاب هذا الكتاب المبارك، و أسأله تعالى أن يتقبّل عملي، و يخلص نيّتي، و يجعله ذخرا لي يوم لا ينفع مال و لا بنون، آمين.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين غرّة جمادى الآخرة سنة 1423 ه محمّد رضا الأنصاريّ القمّيّ

______________________________

(1) مجلة نشر دانش، السنة السابعة عشرة، العدد الثالث، خريف 1379 ش، ص 33.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 33

[في بيان مذهب الصّرفة]

....... «1»

و كذلك لو

كانوا منعوا بما يرفع التمكّن من الكلام، ممّا يختصّ الآلة و البنية.

و ليس هذا مذهبكم فنطنب في ردّه.

و إن كانوا سلبوا العلوم فليس يخلون من أن يكونوا سلبوها عند ظهور القرآن و التّحدّي به؛ و قد كانت من قبل حاصلة لهم، أو يكونوا لم يزالوا فاقدين لها.

فإن أردتم الثّاني، فهو مؤكّد لقولنا، بل هو نصّ مذهبنا؛ لأنّ القرآن يكون حينئذ خارقا للعادة بفصاحته، من حيث لم يمكّن أحد من الفصحاء- في ماض و لا مستقبل- من العلوم الّتي يقع معها مثله.

و إن أردتم الأوّل، فقد كان يجب أن يقع لنا و لغيرنا الفرق بين كلام العرب و أشعارها قبل زمان التّحدّي و بعد زمانه، و نجد بينهما تفاوتا، و ليس نجد ذلك.

و يجب أيضا: أن يكون ما ذكرتموه من اللّبس الواقع على من ضمّ شيئا من

______________________________

(1) نقص في نسخة «الأصل» بمقدار وريقات، لعلّه لا يتجاوز المقدّمة و بعض الكلام عن التنبيهات و الأوّليّات من مذهب الصّرفة، و معنى الفصاحة و مفهومها، حيث يشير المصنّف إلى هذه الأمور في الورقة 4 ب بقوله: «فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 34

القرآن إلى فصيح كلام العرب، إنّما هو في كلامهم قبل زمان التحدّي، فأمّا فيما وقع منهم بعده فالأمر ظاهر، و الفرق واضح. و هذا ممّا يعلمون ضرورة خلافه؛ لأنّنا لا نجد من الفرق بين ما نضمّه إلى القرآن من كلام العرب و أشعارها قبل التّحدّي إلّا ما نجده بينه و بين كلامهم بعد ظهور القرآن و وقوع التّحدّي به.

و هذا متى لم تسلّموه، و زعمتم أنّ بين كلامهم قبل التّحدّي و بعده هذا الفرق العظيم، و أحلتم بمعرفته

على غيركم أو ادّعيتموها لأنفسكم، طرّقتم على دليلكم الّذي قدّمتموه ما يهدمه؛ لأنّه معقود بهذا المعنى و مبنيّ عليه.

و إن كانت دواعيهم التي صرفت عن المعارضة، فذلك فاسد من وجوه:

أحدها: إنّا نعلم- نحن و كلّ أحد- توفّر دواعي القوم «1» إلى المعارضة و شدّة حرصهم و كلبهم «2» عليها. و لو كانت دواعيهم إلى المعارضة مصروفة لما علم ما ذكرناه منهم.

و منها: أنّ الدّواعي إلى المعارضة ليست أكثر من علمهم بتمكّنهم منها، و ما يعود بها من النّفع، و يندفع من الضّرر. و كلّ هذا يعلمه القوم ضرورة، بل العلم به ممّا يعدّ من كمال العقل؛ فليس يصرفهم عن هذه الدّواعي «3» إلّا ما أخرجهم من كمال عقولهم و ألحقه بأهل النّقص و الجنون، و لم يكن القوم كذلك.

و منها: أنّ ما صرف عن المعارضة لا بدّ أن يكون صارفا عمّا في معناها، و عمّا يكون الدّواعي إليه داعيا إليها. و قد علمنا أنّهم لم ينصرفوا عن السّبّ و الهجاء و عن المعارضة، ممّا لا يشتبه على عاقل جهل من عارض بمثله و سخفه،

______________________________

(1) يقصد بهم كفّار قريش و المشركين في جزيرة العرب، الذين كانوا يعارضون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يناوءون دعوته بشتّى الوسائل.

(2) يقال: رجل كلب، إذا اشتدّ حرصه على الشي ء.

(3) في الأصل: الدعاوى، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 35

كالقصص بأخبار رستم و اسفنديار.

و الصّارف عن المعارضة صارف عن هذا؛ لأنّ ما يصرف عن المعارضة «1» إنّما يرى أنّه لا غناء في فعلها، و لا طائل في تكلّفها. و أنّ الحظّ في الإضراب عنها و العدول إلى المناجزة بالحرب. و هذا لا محالة

يصرف عن جميع ما عددناه.

و متى لم تعنوا بالصّرفة أحد هذه الأقسام الّتي فصّلناها، فمذهبكم غير مفهوم، و أنتم إلى أن تفهمونا غرضكم فيه أحوج منكم إلى أن تدلّونا على صحّته.

قيل له: أوّل ما نحتاج إليه في جوابك أن نعلمك كنه مذهبنا في التّحدّي بالقرآن. و عندنا «2» أنّ التّحدّي وقع بالإتيان بمثله في فصاحته و طريقته في النّظم، و لم يكن بأحد الأمرين على ما تذهب- أنت و أصحابك- إليه، فلو وقعت المعارضة بشعر أو برجز موزون أو بمنثور من الكلام ليس له طريقة القرآن في النّظم، لم تكن واقعة موقعها.

و الصّرفة على هذا إنّما كانت بأن يسلب اللّه تعالى كلّ من رام المعارضة و فكّر

______________________________

(1) بعدها في الأصل: صارف عن هذا لأنّ ما يصرف عن المعارضة، و لعلّه تكرار من الناسخ.

(2) قال الشريف المرتضى في كتابه الذخيرة في علم الكلام/ 380: «فإن قيل: بيّنوا كيفيّة مذهبكم في الصّرفة، قلنا: الذي نذهب إليه أنّ اللّه تعالى صرف العرب عن أن يأتوا من الكلام بما يساوي أو يضاهي القرآن في فصاحته و طريقته و نظمه، بأن سلب كلّ من رام المعارضة العلوم التي يتأتّى ذلك بها، فإنّ العلوم التي بها يمكن ذلك ضروريّة من فعله تعالى فينا بمجرى العادة.

و هذه الجملة إنّما ينكشف بأن يدلّ على أنّ التحدّي وقع بالفصاحة و الطريقة في النظم، و أنّهم لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا فاعلين ما دعوا إليه، و أن يدلّ على اختصاص القرآن بطريقة في النظم مخالفة لنظوم كلّ كلامهم، و على أن القوم لو لم يصرفوا لعارضوا».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 36

في تكلّفها في الحال العلوم التي يتأتّى معها مثل فصاحة القرآن

و طريقته في النّظم.

و إذا لم يقصد المعارضة، و جرى على شاكلته في نظم الشّعر، و وصف «1» الخطب، و التّصرّف في ضروب الكلام، خلّي بينه و بين علومه، و لم يخلّ بينه و بين معرفته. و لهذا لا نصيب في شي ء من كلام العرب- منثوره و منظومه- ما يقارب القرآن في فصاحته، مع اختصاصه في النّظم بمثل طريقته.

و هذا الجواب لا يصحّ الأمر فيه إلّا بأن ندلّ على أنّ التّحدّي وقع بالفصاحة مع الطّريقة في النّظم، و على أنّ القرآن مختصّ بطريقة في النّظم مفارقة لسائر نظوم الكلام، و على أنّ القوم لو لم يصرفوا على الوجه الّذي ذكرناه لوقعت منهم المعارضة بما يساوي أو يقارب الوجه الذي ذكرناه، [و] لم يمكن أن يدّعى أنّ شعر الطائبيّين «2» و من جرى مجراهما من المحدثين- إذا قدّرنا ارتفاع من بينهما من ذوي الطّبقات؛ لأنّ التقارب و التّساوي فيما ذكرنا «3» أنّهم يتساوون فيه- يريد أن يكون خارقا للعادة و إن كان بائنا متقدّما.

على أنّ الدّعوى في فصاحة القرآن- أنّها و إن خرقت عادة العرب و بانت من فصاحتهم فليس بينها و بين فصيح كلامهم من التّباعد ما بين شعر امرئ القيس «4»

______________________________

(1) هكذا في الأصل، و لعلّه: رصف.

(2) الطائيّان هما:

1- أبو تمّام حبيب بن أوس الطائيّ، صاحب الحماسة و أحد أشهر شعراء العرب، قيل إنّه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب، و كان شيعيّا مواليا لأهل البيت عليه السّلام، توفّي بالموصل أيّام الواثق باللّه عام 231 (و قيل 238 ه).

2- البحتريّ، أبو عبادة، الوليد بن عبيد الطائيّ، الشاعر المشهور، ولد بمنبج من أعمال الشام، و مدح جماعة من الخلفاء أوّلهم المتوكّل، و

خلقا كثيرا من الرؤساء و الأكابر، توفّي عام 284 ه.

(3) في الأصل: ذكرنا، و المناسب ما أثبتناه.

(4) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكنديّ (نحو 130- 80 ق. ه)، شاعر جاهليّ، بل أشهر شعراء العرب على الإطلاق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 37

و شعر الطائبيّين- ظاهرة التّناقض؛ لأنّا قد علمنا أنّ الطائبيّين قد يقاربان و يساويان امرأ القيس من القصيدة في البيتين و الثّلاثة و إن تعذّر عليهما المساواة فيما جاوز هذا الحدّ. و نسبة ما يمكن أن تقع المساواة منهما فيه إلى جملة القصيدة نسبة محصّلة؛ لعلّها أن تكون العشر «1» و ما يقاربه؛ لأنّ القصيدة المتوسّطة في الطّول و القصر من أشعارهم ليس تتجاوز من ثلاثين إلى أربعين بيتا. و إذا أضفنا ذلك- على هذا الاعتبار- إلى جملة شعرهما و شعره، وجدنا أيضا ما يمكن أن يساوياه فيه من جملة شعرهما هذا المبلغ الذي ذكرناه بل أكثر منه، لأجل كثرة شعرهما و زيادته على شعر امرئ القيس.

و قد ثبت أنّ التحدّي للعرب استقرّ آخرا على مقدار ثلاث آيات قصار من عرض ستّة آلاف آية و كذا و كذا طوالا و قصارا، لأنّه وقع بسورة غير معيّنة، و أقصر السّور ما كان ثلاث آيات، فلا بدّ أن تكون العرب- على المذهب الّذي يردّ على القائلين به- غير متمكّنين من مساواته أو مقاربته في مقدار ثلاث آيات.

و لهذا عندهم «2» لم يروموا المعارضة و لم يتعاطوها.

و نحن نعلم أنّ نسبة ثلاث الآيات الّتي لم يتمكّنوا من مساواته و مقاربته فيها إلى جملة القرآن أقلّ و أنقص بأضعاف مضاعفة من نسبة ما يتمكّن الطائيّان من مساواة امرئ القيس أو مقاربته فيه، سواء أضفت ذلك

إلى كلّ قصيدة من شعر امرئ القيس أو أضفته إلى جملة شعره، بل كان ما يتمكّن العرب من مقاربة القرآن فيه- إذا أضفناه إلى ما يتمكّن المحدّثون من مقاربة المتقدّمين فيه- لا نسبة له إلى القرآن. و ليس هذا إلّا لأنّ التباعد بين القرآن و بين ممكن فصحاء العرب قد جاوز كلّ عادة، و خرج عن كلّ حدّ. و أنّه لم يفضل كلام فصيح فيما مضى و لا فيما يأتي

______________________________

(1) في الأصل: الشعر، و المناسب ما أثبتناه.

(2) كذا في الأصل، و لعلّه: عدّهم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 38

كلاما هو دونه في الرّتبة هذا الفضل و لا حصل بينهما هذا القدر، و إن كان أحدهما من الفصاحة في الذّروة العليا، و الآخر في المنزلة السّفلى.

هذا إذا فرضنا بطلان الصّرفة، و نسبنا تعذّر المعارضة على العرب إلى فرط فصاحة القرآن، فكيف يمكن مع ما كشفناه أن يدّعى أنّ ما بين القرآن و بين كلام فصحاء العرب من البعد في الفصاحة دون ما بين شعر الطائبيّين و شعر امرئ القيس؟! و ما أوردناه من الاعتبار يوجب أن يكون بينهما أكثر ممّا بين شعر المتقدّمين و المحدثين بأضعاف كثيرة. و أنّ ذلك لو لم يكن على ما قلنا، و كان على ما توهّمه الخصم، لوقعت المعارضة لا محالة. كما أنّ امرأ القيس لو تحدّى أحد الطائبيّين ببيت من عرض شعره لسارع إلى معارضته و لم يتخلّف عنها. و هذا ممّا لا إشكال في مثله.

*** و بعد، فإنّ من يدّعي أنّ خرق العادة بالقرآن إنّما كان من جهة فصاحته دون غيرها، لا يقدم على أن يقول: إنّ بين شي ء من الكلام الفصيح و إن تقدّم، و بين

غيره من الفصيح و إن تأخّر، من البعد أكثر ممّا بين القرآن و فصيح كلام العرب؛ لأنّه كالمنافي لأصله، و المنافر لقوله.

و إذا استحسن ارتكابه مستحسن، معتصما به ممّا تقدّم من إلزامنا، كان ما أوردناه مبطلا لقوله و مكذّبا لظنّه. و هذا واضح بحمد اللّه.

فإن قال: ما الّذي تريدون بقولكم: إنّهم صرفوا عن المعارضة؟ أ تريدون أنّهم أعجزوا عنها، أم سلبوا العلوم الّتي لا تتأتّى إلّا بها، أم شغلوا عنها، و صرفت هممهم و دواعيهم عن تعاطيها؟

فإن أردتم العجز فهو واضح الفساد؛ لأنّ العجز لا يختصّ بكلام دون كلام.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 39

و لو كانوا أعجزوا عن الكلام المساوي للقرآن في الفصاحة، لم يتأتّ منهم شي ء من الكلام في الفصاحة، و يماثل في طريقة النّظم، و نحن نفعل ذلك.

[قيل له]: أمّا ما يدلّ على أنّ التحدّي كان بالفصاحة و النّظم معا أنّا رأينا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسل التّحدّي إرسالا، و أطلقه إطلاقا من غير تخصيص يحصره، أو استثناء يقصره؛ فقال صلّى اللّه عليه و آله مخبرا عن ربّه تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1».

و قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2».

فترك القوم استفهامه عن مراده بالتحدّي و غرضه فيه، و هل أراد مثله في الفصاحة دون النّظم، أو فيهما معا، أو في غيرهما؟ فعل من قد سبق الفهم إلى قلبه و زال الرّيب عنه؛ لأنّهم لو ارتابوا لسألوا، و لو شكّوا لاستفهموا. و لم يجر ذلك على

هذا إلّا و التحدّي واقع بحسب عهدهم و عادتهم. و قد علمنا أنّ عاداتهم جارية في التحدّي باعتبار طريقة النّظم مع الفصاحة، و لهذا لا يتحدّى الشّاعر الخطيب الذي لا يتمكّن من الخطابة. و إنّما يتحدّى الشّاعر الشّاعر و الخطيب الخطيب. و وجدنا أكثرهم لا يقنع بأن يعارض القصيدة من الشّعر بقصيدة منه حتّى يجعلها من جنس عروضها، كأنّها إن كانت من الطويل جعلها من الطويل، و إن كانت من البسيط جعلها من البسيط. ثمّ لا يرضيه ذلك حتّى يساوي بينهما في القافية، ثمّ في حركة القافية.

و على هذا المذهب يجري التناقض «3» بين الشّعر، كمناقضة

______________________________

(1) سورة الإسراء: 88.

(2) سورة هود: 13.

(3) قال الخليل بن أحمد في كتاب العين: النّقض: إفساد ما أبرمت من حبل أو بناء.

و المناقضة في الأشياء، نحو الشعر، كشاعر ينقض قصيدة أخرى بغيرها. و من هذا نقائض جرير و الفرزدق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 40

جرير «1» للفرزدق «2»، و جرير للأخطل «3»، و غير هؤلاء ممّن لم نذكره، و هو معروف. و إذا كانت هذه عادتهم، فإنّما أحيلوا في التحدّي عليها «4».

فإن قال: عادة العرب و إن جرت في التحدّي بما ذكرتموه، فإنّه ليس يمتنع صحّة التّحدّي بالفصاحة دون طريقة النّظم، و لا سيّما و الفصاحة هي التي يصحّ فيها «5» التفاضل و التباين. و هي أولى بصحّة التحدّي من النّظم الّذي لا يقع فيه التفاضل.

و إذا كان ذلك كذلك غير ممتنع فما أنكرتم أن يكون النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحدّاهم بالفصاحة دون النّظم، فأفهمهم قصده فلهذا لم يستفهموه؟! قيل له: ليس يمنع أن يقع التحدّي بالفصاحة دون النّظم ممّن بيّن غرضه

______________________________

(1) هو جرير بن عطيّة

بن حذيفة الكلبي التميميّ (28- 110 ه) أشعر أهل عصره، ولد و مات في اليمامة. كان هجّاء مرّا، و له مساجلات مع شعراء عصره، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق و الأخطل.

(2) هو أبو فراس، همّام بن غالب، من أشهر شعراء العرب. له مساجلات معروفة مع جرير.

و هو صاحب الميميّة المشهورة يمدح بها الإمام زين العابدين عليه السّلام.

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته (3) الأخطل: هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبيّ (19- 90 ه)، شاعر بني أميّة النصرانيّ.

و المروّج لسياساتهم.

(4) قال الشريف المرتضى في الذخيرة في علم الكلام/ 380- 381: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله أطلق التّحدّي و أرسله، فيجب أن يكون إنّما أطلق تعويلا على عادة القوم في تحدّي بعضهم بعضا، فإنّها جرت باعتبار الفصاحة و طريقة النّظم، و لهذا ما كان يتحدّى الخطيب الشاعر و لا الشاعر الخطيب، و انّهم ما كانوا يرتضون في معارضة الشعر بمثله إلّا بالمساواة في عروضه و قافيته و حركة قافيته. و لو شكّ القوم في مراده بالتحدّي لاستفهموه. و ما رأيناهم فعلوا؛ لأنّهم فهموا أنّه صلّى اللّه عليه و آله جرى فيه على عاداتهم».

(5) في الأصل: تصحّ فيه، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 41

و أظهر مغزاه، و إنّما منعنا في التّحدّي بالقرآن من حيث أطلق التحدّي به، و عري ممّا يخصّه بوجه دون وجه، فحملناه على ما عهده القوم و ألفوه في التحدّي.

و لو كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أفهمهم تخصيص التحدّي- كما ادّعيت- بقول مسموع لوجب أن ينقل إلينا لفظه، و المقام الذي قامه الرسول صلّى اللّه عليه و آله فيه، و ليس نجد في ذلك نقلا.

و

كذلك لو كان اضطرّهم إلى قصده بمخارج الكلام، أو بما يجري مجرى مخارجه من الإشارات و غيرها، من غير لفظ مسموع، لوجب اتّصال ذلك أيضا بنا و حصول علمه لنا؛ لأنّ ما يدعو إلى نقل الألفاظ المسموعة يدعو إلى نقل ما يتّصل بها من مقاصد و مخارج، لا سيّما فيما تمسّ الحاجة إليه. أ لا ترى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا نفى النبوّة بعد نبوّته بقوله عليه السّلام: «لا نبيّ بعدي» «1»، ثمّ أفهم السّامعين مراده من

______________________________

(1) من الأحاديث المشهورة و المتواترة، و قد نصّ الجميع على صحّته، و رواه الشيعة و السّنّة في مجاميعهم الحديثيّة و مسانيدهم و صحاحهم، نقلا عن جماعة من أعيان الصحابة: كأبي سعيد الخدريّ، و سعد بن أبي وقّاص، و زيد بن أرقم، و جابر بن عبد اللّه، و أنس بن مالك، و ابن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود، و أسماء بنت عميس و غيرهم.

و إليك مصادر الحديث:

بحار الأنوار حيث رواه العلّامة المجلسيّ في مجلّدات عديدة، و يكفيك أن تراجع المجلّد 37 من ص 206 لغاية ص 337. و رواه أحمد بن حنبل في مسنده 1/ 170، 174، 177، 179، 182 و 3/ 32 و 6/ 369. و في فضائل الصحابة 2/ 598، 610، 633، 642، 670. و رواه البخاريّ في صحيحه 6/ 3 باب غزوة تبوك، و 5/ 19 باب مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام. و رواه مسلم في صحيحه 7/ 119، 120، 121. الترمذيّ في صحيحه 5/ 633 و 641. ابن المغازليّ في مناقبه 27، 28، 30، 31، 33، 34، 35، 36. و راجع أيضا: أسد الغابة 4/ 26، تاريخ دمشق لابن عساكر 1/

132، 225، مستدرك الصحيحين 3/ 150، الخصائص للنسائيّ 263، أنساب الأشراف 2/ 112، الغدير في الكتاب و السنّة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 42

هذا القول، و أنّه عنى به: لا نبيّ من البشر كلّهم، و أراد بالبعد عموم سائر الأوقات المستقبلة، قريبها و بعيدها، اتّصل ذلك بنا على حدّ اتّصال اللّفظ، حتّى شركنا سامعيه في معرفة الفرض، و كنّا في العلم به كأحدهم. و في ارتفاع كلّ ذلك من النّقل، دليل على صحّة قولنا.

على أنّ التّحدّي لو كان مقصورا على الفصاحة دون النّظم لوقعت المعارضة من القوم ببعض فصيح شعرهم أو بليغ كلامهم، لأنّا قد دللنا على أنّ خفاء الفرق علينا بين بعض قصار سور القرآن و فصيح كلام العرب، يدلّ على التقارب المزيل للإعجاز. و العرب بهذا أعلم و له أنقد، فكان يجب أن يعارضوا. و إذا لم يفعلوا، فلأنّهم فهموا من التحدّي الفصاحة و طريقة النّظم، و لم يجتمعا لهم.

فأمّا اختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر ضروب الكلام فأوضح من أن يتكلّف الدّلالة عليه. و كلّ سامع للشّعر الموزون و الكلام المنثور يعلم أنّ القرآن ليس من نمطهما، و لا يمكن إضافته إليهما. و الدّلالة إنّما تقصد بحيث يتطرّق الشّبهة، فأمّا في مثل هذا فلا.

و أمّا الّذي يدلّ على أنّهم لو لم يصرفوا لعارضوا في الفصاحة و النّظم جميعا، فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي «1».

و أمّا النّظم: فهو ما لا يصحّ التّفاضل فيه و التّزايد في معناه، و لهذا ترى

______________________________

5/ 363، 7/ 176، 10/ 278، و مصادر أخرى كثيرة. و لفظ الحديث المتّفق عليه عند الجميع، أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: «أنت منّي بمنزلة

هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».

(1) قال الشريف المرتضى رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 381: «و ممّا يبيّن أنّ التحدّي وقع بالنّظم مضافا إلى الفصاحة: أنّا قد بيّنا مقارنة كثير من القرآن لأفصح كلام العرب في الفصاحة، و لهذا خفي الفرق علينا من ذلك، و إن كان غير خاف علينا الفرق فيما ليس بينهما هذا التفاوت الشديد، فلو لا أنّ النظم معتبر لعارضوا بفصيح شعرهم و بليغ كلامهم».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 43

الشّاعرين يشتركان في النّظم الواحد، و كلام أحدهما فصيح شريف، و الآخر ركيك سخيف، و كذلك الخطيبين.

و إنّما كان هذا؛ لأنّه لا يصحّ المزيّة في النّظم حتّى يكون لأحد الشّاعرين و الخطيبين فضل في المعنى- الّذي به كان الشّعر شعرا، و الخطابة خطابة- على الآخر، كما يصحّ ذلك في الفصاحة، و جزالة الألفاظ، و كثرة المعاني و الفوائد.

و إذا صحّ هذا، فلم يبق إلّا أن يقال: إنّ السّبق إلى النّظم هو المعتبر. و ذلك غير صحيح؛ لأنّه يوجب أن يكون السّابق إلى قول الشّعر في ابتداء الظّهور قد أتى بمعجز، بل يجب أن يكون السّبق إلى كلّ عروض من أعاريضه، و وزن من أوزانه يقتضي ذلك. و هذا يؤدّي إلى أنّ أكثر الخلق أصحاب معجزات «1»! فإن قال: كيف يكون السّبق إلى الشّعر من المعجزات، و هو ممّا تقع فيه المساواة من المسبوق للسّابق، حتّى لا يزيد أحدهما على الآخر فيه، و المعجز ما تعذّر مثله على غير من اختصّ به؟ و ما أنكرتم أن يكون نظم القرآن معجزا من حيث لم تقع فيه مساواة؟

قيل له: هذا الذي يدلّ على أنّ السّبق إلى نوع من النّظم لا يكون

معجزا على وجه؛ لأنّه ممّا لا بدّ من وقوع المساواة فيه و المماثلة، كما وقعت في غيره من أوزان الشّعر و ضروب الكلام الّتي سبق إليها، ثمّ حصلت المساواة من بعد؛ لأنّا قد بيّنا أنّ النّظم ممّا لا يصحّ حصول المزيّة فيه و لا التّفاضل. و ليس ممّا يحتاج فيه إلى كثرة العلوم كما يحتاج إليها في الفصاحة، بل العلم ببعض أوزان الشّعر يمكن

______________________________

(1) قال الشريف المرتضى في كتاب الذخيرة/ 381: «و إذا لم يدخل في النّظم تفاضل فلم يبق إلّا أن يكون الفضل في السبق إليه، و هذا يقتضي أن يكون السابق ابتداء إلى نظم الشعر قد أتى بمعجز، و أن يكون كلّ من سبق إلى عروض من أعاريضه و وزن من أوزانه كذلك، و معلوم خلافه».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 44

معه التّصرّف في سائر أوزانه، و كذلك القول في منثور الكلام.

و لو لا أنّ الأمر على هذا لم ننكر أن يكون في الشّعراء من يختصّ بالقول في البسيط دون غيره من الأعاريض، من حيث قصر علمه عليه، و منع سائر الشّعراء منه، فلو اجتهد أن يقول بيتا من غير البسيط لتعذّر عليه، و لو اجتهد جميع الشّعراء في أن يقولوا بيتا منه لعجزوا عنه. و أن يكون فيهم من يختصّ بالقول في الطّويل على هذا الوجه، و هذا ممّا يعلم فساده. و هو دلالة على أنّ النّظوم لا اختصاص في بعضها، و أنّها ممّا يجب الاشتراك فيه «1».

فإن قال: ما أنكرتم أن يكون التّصرّف في الأوزان يحتاج إلى زيادة العلوم، و أن لا يكون العلم ببعضها علما بسائرها على ما ذكرتم، و أنّ المساواة الّتي وصفتموها بين الشّعراء في ضروب

الأوزان، إنّما وجبت من حيث أجرى اللّه العادة بأن يفعل لكلّ من علم وزنا من أوزان الشّعر، العلم بسائر الأوزان؛ فليس يمتنع- على هذا- أن يفعل اللّه تعالى كلاما له نظم لم يخصّ أحدا من الخلق بالعلم به، و يجعله علما لبعض أنبيائه؛ فلا يتمكّن أحد من البشر من مساواته فيه، من حيث فقدوا العلم بطريقة نظمه، و إن تمكّنوا من مساواة سائر ما يقع السّبق إليه من الشّعر و الخطب.

و كيف ننكر ذلك و قد رأينا كثيرا من الشّعراء المتصرّفين في ضروب الشّعر لا يهتدون لنظم الخطب، و كثيرا من الخطباء لا يقدرون على الشّعر؛ فما الّذي يمنع

______________________________

(1) قال الشريف المرتضى رحمه اللّه في الذخيرة/ 381- 382: «و ليس يجوز أن يتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره، و لا يحتاج ذلك إلى زيادة علوم، كما قلناه في الفصاحة. و لهذا كان كلّ من يقدر من الشعراء على أن يقول في الوزن الذي هو الطويل قدر على البسيط و غيره، و لو لم يكن إلّا على الاحتذاء، و إن خلا كلامه من فصاحة. و هذا الكلام قد فرغنا [منه] و استوفيناه في كتابنا في جهة إعجاز القرآن».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 45

من تعذّر نظم القرآن على العرب، كما تعذّر على خطيبهم الشّعر، و على شاعرهم الخطابة، و هذا يغني عن صرفتكم؟

قيل له: الحمد للّه الذي جعل مذاهب المختلفين في وجه الإعجاز- و إن تفرّعت و تنوّعت- فالقرآن غير خارج بينها من أن يكون معجزا للبريّة، و علما على النّبوّة. و جعل ما يتردّد بينهم فيه من المسائل و الجوابات- و إن قدحت في صحّة بعض مذاهبهم في

تفصيل الإعجاز- فإنّها غير قادحة في أصل الأعجاز و جملة الدّلالة؛ لأنّه لا فرق بين أن يكون خارقا للعادة بفصاحته دون طريقة نظمه، أو بنظمه دون فصاحته، أو يكون متضمّنا للإخبار عن الغيوب، أو بأن يكون اللّه تعالى صرف عنه العرب و سلبهم العلم به؛ في أنّه على الوجوه كلّها معجز دالّ على النّبوّة و صدق الدّعوة، و إن اختلف وجه دلالته بحسب اختلاف الطّرق.

و هذا من فضائل القرآن الشّريفة و مراتبه المنيفة، الّتي ليست لغيره من معجزات الأنبياء عليهم السّلام؛ لأنّه لا شي ء من معجزاتهم إلّا وجهة دلالته واحدة. و ما قدح في تلك الجهة أخرجه من الإعجاز. و لو ألحق هذا ملحق بوجوه إعجاز القرآن لم يكن مخطئا، و لكان قد ذهب مذهبا.

ثمّ نعود إلى الجواب عن السؤال، فنقول: إنّا لو أحلنا في هذا الباب كلّه- نعني في أنّ النّظم لا بدّ من وقوع المساواة فيه، و أنّه لا يصحّ أن ينفرد بنوع منه من لا يشركه فيه غيره- على موافقة الفريق الّذي كلامنا الآن «1» معهم، و هم الذّاهبون في خرق العادة به إلى الفصاحة، لكنّا قد وفّينا حجاجهم حقّه؛ لأنّهم معترفون معنا بأنّ النّظم ليس بمعجز، و دلالتنا في دفعه واحدة، لكنّا لا نقتصر على ذلك، و نورد ما يكون حجاجا للكلّ، و برهانا على الجميع.

______________________________

(1) في الأصل: أمان، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 46

[الدليل على أنّ نظم القرآن ليس بمعجز] و الذي يدلّ على أنّ نظم القرآن ليس بمعجز بنفسه: أنّا نعلم أنّ كلّ قادر على الكلام العربيّ، و متمكن من تقديم بعضه على بعض و تأخير بعضه عن بعض، لا يعجز أن يحتذي

نظم سور القرآن بكلام لا فصاحة له، بل لا فائدة فيه و لا معنى تحته، فإنّ ذلك لا يضرّ و لا يخلّ بالمساواة في طريقة النّظم. و قد رأينا كثيرا من السّخفاء و المجّان «1» يعارضون- على طريق العبث و المجون- الشّعراء المتقدّمين و الخطباء المجوّدين، فيوردون مثل القصيدة و الخطبة في الوزن و الطريقة، بكلام سخيف المعنى ركيك اللّفظ، بل ربّما لم يكن له معنى مفهوم. و قد فعل ذلك أبو العنبس الصّيمريّ «2» بالبحتريّ بين يدي المتوكّل «3»، فأجازه و وصله «4».

فالمساواة في النّظم حاصلة، و لكنّها في إصابة المعنى و جزالة اللّفظ متعذّرة.

و على هذا أكثر شعر الصّيمريّ «5»، و شعر أبي العبر «6»؛ فإنّ في أشعار هؤلاء

______________________________

(1) الماجن: الهازل، و الجمع مجّان و مجنة.

(2) هو محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الصّيمريّ، أبو العنبس الكوفيّ، ولي قضاء الصّيمرة فنسب إليها، نديم المتوكّل و المعتمد العبّاسيّين. كان أديبا ظريفا، و شاعرا هجّاء خبيث اللسان. و له مناظرة مع البحتريّ. توفّى سنة 275 ه.

(3) هو جعفر بن محمّد العبّاسيّ، أبو الفضل، الخليفة العبّاسيّ العاشر، ولد ببغداد عام 261 ه و مات غيلة عام 247 ه. كان فاسقا فاجرا يعادي أمير المؤمنين عليه السّلام و أهل بيته الطاهرين عليهم السّلام.

(4) انظر ما وقع بينهما في معجم الأدباء 18/ 12- 14.

(5) في الأصل: الطرميّ، و الظاهر أنّه الصّيمريّ المتقدّم ذكره.

(6) أبو العبر، محمّد بن أحمد العباسيّ، الهاشميّ، القرشيّ، البغداديّ (توفّي سنة 250 ه)، نديم شاعر، أديب، حافظ للأخبار، كان يمدح الخلفاء، من كتبه: جامع الحماقات و حاوي الرقاعات، و المنادمة، و أخلاق الخلفاء و الأمراء. كان في أوّل أمره يسلك في شعره الجدّ، ثمّ عدل الى

الهزل و الحماقة فنفق بذلك نفاقا كثيرا.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 47

و غيرهم ممّن سلك مسلكهم، الكثير ممّا له وزن الشّعر و عروضه، و لا معنى تحته يفهم.

و هذا الطّريق لو سلك على هذا الوجه في كلّ نظم لما تعذّر، و هو يكشف عن صحّة ما اعتمدناه.

فأمّا تعذّر الشّعر على الخطباء و الخطابة على الشعراء، فليس ينكر أن يكون في النّاس من لا ذوق له، و لا معرفة بالوزن، و لا يتأتّى منه الشّعر. و كذلك ربّما كان فيهم من ألف الموزون من الكلام، و مرن عليه، فلا يهتدي لنظم الخطب و الرّسائل.

و كما وجدنا ذلك فقد وجدنا من جمع بين الطريقين و برّز في المذهبين، و هم كثير. و ليس كلّ من لم يقل الشّعر فهو متعذّر عليه، بل ربّما أعرض عنه؛ لأنّه لا داعي له إليه، و لا حاجة له فيه. أو لأنّه ممّا لا يحبّه و يستحليه «1». أو لأنّه قد عرف بغيره و اشتهر بسواه. أو لأنّ الجيّد منه النادر لا يتّفق له؛ فقد قيل لبعضهم: لم لا تقول الشّعر؟ فقال: ما يأتي «2» جيّده و أأبى رديّه.

و لعلّ كثيرا ممّن «3» لا يقول الشّعر و لا يعرف به لو دعتهم إليه الحاجات.

و بعثتهم عليه الرّويّات، لأتوا منه بما يستحسن و يستطرف.

و قد قال بعض الشّعراء:

ما لقينا من جود فضل بن يحيى جعل النّاس كلّهم شعراء «4» و كلّ الدّواعي و البواعث، إذا أضفتها إلى دواعي العرب إلى المعارضة، رأيتها

______________________________

(1) في الأصل: و يستحيله، و المناسب ما أثبتناه.

(2) كذا في الأصل، و الظاهر: ما يتأتّى.

(3) في الأصل: ممّا، و المناسب ما أثبتناه.

(4) ورد البيت هكذا منسوبا إلى بعض الشعراء.

قاله في الفضل بن يحيى البرمكيّ. لاحظ:

وفيات الأعيان 4/ 35.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 48

تقلّ و تصغر. و أين الرغبة في المال، و مباهاة النّظراء، و التّقدّم عند الأمراء، من الضّرّ «1» بفراق الأوطان الّتي فيها نشئوا، و هجر الأديان الّتي عليها ولدوا؟! و أين فوت المال من فوت العزّ و حرمان الوجاهة عند بعض النّاس، من حرمان الرئاسة على جميع النّاس؟! و كلّ ذلك أصاب العرب و نزل بهم، و في بعض ما يظفر بكلّ نظم، و يهدي إلى كلّ قول.

على أنّا قد بيّنا أنّ نظم مثل بعض سور القرآن لا يتعذّر على من احتذاه ممّن «2» لا فصاحة له، و لا تصرّف له في أوزان الكلام؛ فأجدر أن يتأتّى للعرب، لو لم يصدّوا و لم يصرفوا.

فإن قال: فهبوا أنّ التّحدّي وقع بالإتيان بمثل القرآن في الفصاحة و النّظم معا حسب ما ذكرتم، و أنّ في كلامهم الفصيح ما يقارب بعضه مقاربة تزيل خرق العادة بفصاحته، و أنّ النّظم كانوا يتمكّنون منه على سبيل الاحتذاء، كما يتمكّن منه من تعاطاه منّا بغير كلام فصيح، لم أنكرتم أن يكون إنّما تعذّر عليهم ضمّ أحد الأمرين إلى الآخر، حتّى يوردوا فصاحتهم و ألفاظهم الجزلة، و معانيهم الحسنة الّتي يستعملونها في شعرهم و نثرهم، في مثل هذا النّظم، كما قد يكون بعض الشّعراء في بعض أوزان الشّعر و أعاريضه أفصح في غيره من الأوزان، و كلامه فيه أجزل، و معانيه أوقع، و إن كان قادرا على التّصرف في سائر الأوزان؟

و كما يكون من جمع بين النّظم و الخطابة، كلامه في أحدهما أفصح، و منزلته أعلى، مع تمكّنه من الأمرين؟! و إذا كان هذا ممّا

جرت العادة بمثله، فما الحاجة إلى الصّرفة؟

______________________________

(1) في الأصل: الضّنّ، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 49

قيل له: إذا سلّم أنّ القوم كانوا قادرين على الفصاحة و النّظم و عالمين بها، فليس يقعد بهم عن المعارضة قاعد؛ لأنّ المعارضة لا تحتاج إلى أكثر من التمكّن من الفصاحة و طريقة النّظم. و إنّما يتعذّر معارضة الكلام الفصيح المنظوم ضربا من النّظم على من لا يتمكّن من مثل فصاحته، أو من لا يتمكّن من احتذاء طريقة نظمه. و من تمكّن منها فليس يتعذّر عليه.

فأمّا تجويد بعض الشّعراء في بعض الأوزان، و علوّ كلامهم في بعض الأعاريض، فما لا ينكر، إلّا أنّه ليس يكون بين كلامهم فيما جوّدوا فيه و بينه فيما قصّروا فيه، تفاوت عظيم و تباعد شديد. و التّفاوت بين الكلامين في الفصاحة حاصل، و إن تقدّم أحدهما على الآخر فيها. و كذلك القول فيمن جمع بين الشّعر و الخطابة، و جوّد في أحدهما.

و لو لا أنّ الأمر على هذا لم ننكر أن يلحق شعر أحد الشّعراء- في بعض الأعاريض- بالطبقة العليا، و يكون شعره في باقي الأوزان في الطبقة السّفلى.

و هذا ممّا لا يشتبه بطلانه، فلو كانت حال العرب حال هؤلاء لوجب أن يكون بين فصاحتهم في أشعارهم و كلامهم و بينها، في نظم القرآن، فصل قريب قد جرت بمثله العادة، فكانت المعارضة حينئذ تقع لا محالة؛ لأنّهم دعوا إلى مقاربته لا مماثلته.

و إنّما يكون هذا السؤال نافعا للخصم، لو كان التفاضل الّذي ذكره بين شعر الشّعراء ينتهي إلى أن يكون الفاضل فصيحا، و المفضول لا حظّ له في الفصاحة؛ فيحمل تعذّر

معارضة القرآن على ذلك.

فأمّا و الأمر على ما بيّناه فأكثر ما فيه أن يكون بين كلام العرب، إذا لم يحتذوا نظم القرآن و بينه إذا احتذوه، مثل ما بين كلام أحد الشّعراء في بعض الأوزان الّتي يجوّد فيها، و كلامه في غيره من الأوزان؛ فكما أنّ من ساوى هذا الشّاعر في رتبة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 50

الفصاحة و جوّد في الوزن الّذي يقصّر هذا فيه لا يكون كلامه في هذا الوزن معجزا للمقصّر فيه و لا مانعا له من معارضته لو طالبه بمقاربته، فكذلك القول في القرآن.

و ليس يمكن أحدا أن يدّعي: أنّ العادة إن كانت جرت بين المتفاضل من الكلام بما ذكرناه فإنّ اللّه تعالى خرق هذه العادة في القرآن؛ لأنّه لا طريق يرجى «1» منه خرق العادة في هذا الموضع إلّا الصّرف الذي بيّناه. و إلّا ما ذا «2» يخرق العادة، و القوم متمكّنون من مثل فصاحته و نظمه، و لا مانع من المعارضة، و الدّواعي متوفّرة إليها؟! و هذا كلّه يوجب وقوع المعارضة، لو لا ما ذكرناه من الصّرف الذي به انخرقت العادة.

و إنّما يسوغ ادّعاء خرق العادة بغير الصّرف لمن جعل فصاحة القرآن مفاوتة «3» لسائر كلام العرب؛ حتّى أنّ أحدا منهم لا يتمكّن من مساواتها أو مقاربتها، من حيث لم يخصّوا بالعلوم الّتي تحتاج المعارضة إليها، أو قال في النّظم مثل ذلك. و هذا قد مضى ما فيه.

على أنّه لو كان ما ظنّه السّائل صحيحا لواقف القوم عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لقالوا له: أمّا «4» فصاحتنا في شعرنا و كلامنا فهي مساوية أو مقاربة لما جئت به و طريقته في النّظم؛ فنحن قادرون

عليها. و إن شككت فجرّبنا، إلّا أنّه ليس يتهيّأ لنا كلام يساوي ما أتيت به في الفصاحة و النّظم جميعا، حسب ما التمست منّا. كما لا يتهيّأ لبعض الشّعراء أن تكون فصاحته و استقامة معانيه في بعض أوزان الشّعر كما هي في غيره، و إن كان متمكّنا من القول في سائر الأوزان؟! و إذا كان هذا التفاضل

______________________________

(1) هكذا تقرأ هذه الكلمة، و هي محشورة بين السطرين السادس و السابع، و فوق الحرف كلمة: «منه» بحبر خفيف. و قد تقرأ: يراعى أو يدّعى.

(2) في الأصل: فيما ذا، و لعلّها سهو من الناسخ.

(3) أي مغايرة.

(4) في الأصل: ما، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 51

معهودا بيننا، فبأيّ شي ء فقتنا و فضلت علينا؟! و أين المعجز الّذي لا بدّ لمدّعي النّبوّة منه؟! و عن أيّ شي ء صرفنا؟! و في عدول القوم عن هذا- و فيه لو اعتذروا به أوضح العذر و أكبر الحجّة- دليل على صحّة طريقتنا.

فإن قال: أراكم تسومون «1» العرب من الاحتجاج و المواقفة، بما لا يهتدي إليه إلّا حذّاق المتكلّمين و أولو التدقيق منهم؛ لأنّ العلم بالفصل بين ما يتعذّر على الخلق و لا يكون معجزا و لا خارقا للعادة و بين ما يتعذّر عليهم و يكون كذلك، و التمييز بين التفاضل المعتاد و التفاضل الّذي ليس يعتاد «2»، أمر موقوف على النظر الّذي ليس من شأن القوم، و لا يحسنونه. و إنّما وجدوا ما دعاهم إلى الإتيان بمثله، فتعذّر عليهم، و لم يبحثوا عن علّة هذا التعذّر و سببه، و هل العادة جارية بمثله، أم غير جارية؟ فلهذا لم يواقفوا.

قيل له: ليس يفتقر ما ذكرناه إلى دقيق النّظر كما

ظننت، بل العلم به قريب من أوائل العقول الّتي لا اختصاص فيها بين العقلاء، و ذلك أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ النّبيّ لا بدّ أن يبين «3» من غيره، و يختصّ بما لا يشركه فيه من ليس بنبيّ.

و يعلم أيضا: أنّ الذي يبين به لا يجوز أن يكون أمرا معتادا؛ لأنّ المعتاد لا إبانة فيه. و لو أنّه ممّا يقع به الإبانة لوقعت بكلّ معتاد حتّى يدّعى بالأكل و الشّرب، و القعود و النهوض، و هذا ممّا يعلمه جميع العقلاء. و العرب لا محالة عالمون به، و عاقلون أيضا بأنّ شاعرهم قد يجوّد في بعض الأوزان، و يقصّر في غيرها. و هذا ممّا إليهم المرجع في علمه.

فلو كانت حال القرآن في تعذّره على سائرهم حال ما يقصّر فيه بعض الشّعراء

______________________________

(1) سامه الأمر: أي كلّفه إيّاه، و ألزمه به.

(2) هكذا في الأصل، و لعلّه: بمعتاد.

(3) أي يبرز و يتشخّص عن غيره.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 52

من الأوزان- مع تجويده في غيره لتسارعوا إلى مواقفته، على أنّ ما بان منهم به ليس بمعجز و لا خارق للعادة، و لا مقتض للصّرف، و أنّه ممّا قد جرت العادات بمثله. و ما رأيتهم فعلوا.

و بعد، فقد قال اللّه تعالى مخبرا عنهم: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «1».

و تظاهرت

الأخبار بأنّهم طالبوه بإحياء عبد المطّلب، و نقل جبال مكّة عن أماكنها. و هذا اقتراح من يفرّق بين المعجزات و غيرها، و يميّز بين أبهرها «2» و أظهرها إعجازا، و بين ما يلتبس أمره و يدخل الشّبهة في مثله. فكيف يذهب عليهم ما ذكره السّائل؟! على أنّ هذا السؤال عائد على من ذهب في إعجاز القرآن إلى فرط الفصاحة الخارجة عن العادة؛ لأنّه إذا اعترض فقيل له: بأيّ شي ء تنكر أن يكون بين القرآن و بين فصيح كلام العرب فصل قريب قد جرت بمثله العادة؟ و أنّ التحدّي لمّا وقع أشفق فصحاء العرب من معارضته؛ لعلمهم بأنّ ما يأتون به ليس بمماثل له، و ظنّوا أنّهم إنّما دعوا إلى مماثلته لا مقاربته، و لم يكن عندهم ما عندكم من أنّ المقاربة- في إخراجه من أن يكون خارقا للعادة- كالمماثلة، و لا اهتدوا إلى أن يقولوا إنّ فضل كلامك على كلامنا كفضل كلام بعضنا على كلام بعض، و أنّ هذا لا يوجب لك الإبانة و التخصيص، كما لا يوجب لفاضلنا على متوسّطنا؛ لأنّ ذلك ممّا لا يقف

______________________________

(1) الإسراء 90- 93.

(2) أكثرها تفوّقا و غلبة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 53

عليه إلّا النّظّارون المتكلّمون، و ليس العرب منهم، و هذا يخرج القرآن من أن يكون معجزا! لم يجد مفزعا إلّا الكشف عن أنّ مثل ذلك لا بدّ أن تعرفه العرب، و من هو أنقص معرفة من العرب. و أنّه ممّا يحوج إلى العلم بالنّظر و لطيف الكلام، و هو الذي اعتمدناه في الجواب.

فإن قال: كيف يصحّ ما ذكرتموه من سلب من رام المعارضة في الحال، العلم بالفصاحة و النّظم، و العلوم يجوز عليها البقاء. و

إذا كانت باقية فليس تنتفي عن العالم إلّا بوجود ضدّها، و هو الجهل- بخروج المحلّ من صحّة حلولها فيه-.

و الجهل قبيح لا يجوز أن يفعله القديم تعالى؛ لأنّه غنيّ عنه عالم بقبحه! و لو فسد المحلّ و خرج من صحّة حلول العلم بالفصاحة فيه، لانتفت عنه سائر العلوم؛ فكان يجب أن يكون كلّ من قصد المعارضة، مختلس العقل «1»، فاقدا لجميع علومه، لاحقا بالمجانين و البهائم! بل يجب على هذا أن يكون أنقص من المجانين و البهائم؛ لأنّ في هؤلاء علوما ببعض الأشياء. و هذا يخرج من أن يكون عالما بكلّ شي ء. و ما أظنّكم تبلغون إلى ادّعاء كلّ هذا! قيل له: الصّحيح عندنا أنّ العلوم لا يجوز عليها البقاء، و أنّ العالم إنّما يستمرّ كونه عالما و يدوم لتجدّد علوم تحدث في كلّ حال. و إنّما يصرف اللّه تعالى عن المعارضة بأن لا يجدوا العلم بالفصاحة في تلك الحال، فيتعذّر ما كان مع حصول العلم متأتّيا. و هذا يأتي على ما تضمّنه سؤالك.

على أنّ العلم لو كان باقيا- كما ادّعيت- لصحّ أن ينتفي عن العالم بضدّ من أضداده سوى الجهل، كالظنّ و السّهو و الشّكّ و النسيان، و ليس شي ء من هذه

______________________________

(1) أي فاقد العقل و مسلوبه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 54

قبيحا فننزّه اللّه عن فعله. و كلّ واحد منها ينفي العلم، كما ينفيه الجهل و السّهو و الشّكّ و النّسيان؛ و إن كان في إثباتها معاني خلاف و كلام ربّما التبس.

قال: ليس في الظنّ معنى، و الصّحيح أنّه جنس مضادّ للاعتقاد، لعلمنا باستحالة كون أحدنا ظانّا للشي ء و عالما به في حال واحد، كما يستحيل كونه عالما به و جاهلا؛

فما دلّ على أنّ الجهل ضدّ العلم هو دالّ على أنّ الظنّ ضدّ له أيضا. و لأنّ أحدنا يميّز بين كونه معتقدا للشي ء و ظانّا له، و يفرّق بين حاليه في ذلك. و لو لا أنّه مضادّ للاعتقاد لم يقع هذا الفرق و التمييز، فقد سقط السؤال على كلّ حال.

فإن قال: إذا كان الصّحيح عندكم استحالة البقاء على العلوم، و إنّ «1» العرب إنّما صرفوا عن المعارضة بأن لم يفعل لهم العلم بها في الحال؛ فأيّ معجز هاهنا؟

و أين ما يوصف بأنّه دلالة على صدق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله؟ و الصّرفة على هذا ليست أكثر من عدم العلوم بالفصاحة الّتي لم تكن موجودة ثمّ عدمت، بل عدمها مستمرّ.

و الموجود إنّما كان أمثالها؛ فكيف توصف بأنّها المعجز، و المعجز ما وقع موقع قول القائل للمدّعي عليه: صدقت. و ليس يقع هذا الموقع إلّا ما كان فعلا واقعا أيضا على وجه مخصوص! قيل له: المعجز- في دلالته على صدق الرّسول- كأحد الدلائل الدّالّة على ضروب المدلولات. و ليس من حدّ الدّلالة أن تكون ذاتا موجودة، أو فعلا حادثا على الحقيقة، بل الدّلالة ما أمكن أن يستدلّ بها على ما هي دلالة عليه.

و إن كان قد ألحق قوم بهذا الحدّ: أن يكون لفاعلها «2» أن يستدلّ بها و لها، ما يستدلّ بعدم الغرض على حدوثه، و بتعذّر الفعل على أنّ من تعذّر عليه ليس بقادر.

______________________________

(1) في الأصل: و إنّما، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: فاعلها، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 55

و بتعذّره عليه حكمنا «1» على أنّه ليس بعالم. و إن لم يكن ما استدللنا به من ذلك

ذوات قائمة واقعا لا حادثة. و إذا صحّ هذا فالمعجز إنّما يدلّ على صدق الرّسول إذا حصل على وجه لم تجر به العادة.

و لا فرق بين أن يكون فعلا لم تجر العادة بوجوده على وجه مخصوص، و بين أن يكون عدم فعل لم تجر العادة بانتفائه على وجه مخصوص؛ لأنّ اللّه تعالى إذا كان قد أجرى العادة بأن يفعل في كلّ حال للفصحاء العلم بالفصاحة كما يفعل لهم بسائر الضّرورات من الصّنائع و غيرها، فلا بدّ أن يكون منعه لهم في بعض الأحوال هذا العلم الذي تقتضي العادة استمرار تجدّده دالّا على النّبوّة، إذا وافق هذا المنع دعوة مدّع للرّسالة.

و يحتجّ بأنّ اللّه تعالى يمنع من ذلك لأجله، و على وجه التصديق له، كما أنّه لمّا أجرى العادة بأن لا يمكّن الفصحاء إلّا من قدر من العلوم يقع لأجلها منهم قدر من الفصاحة معلوم، كان تمكينه لبعض عباده- من العلوم التي يقع بها ما يتجاوز المبلغ الّذي جرت به العادة تجاوزا كثيرا- دالّا على النّبوّة، إذا وقع عقيب الدّعوى و الاحتجاج.

و كذلك لمّا كانت العادة جارية بطلوع الشّمس من المشرق. و لا فرق في الدّلالة على النّبوّة بين اطلاعها من المغرب إذا ادّعى ذلك بعض الرّسل، و بين أن لا يطلعها جملة، إذا ادّعى الرّسول أنّ اللّه تعالى لا يطلعها تصديقا له، و علمنا أنّ المتولّي لاطلاعها و تسييرها هو اللّه تعالى.

و لو كان أيضا ما يراه بعض المتكلّمين من أنّ العلم الحاصل عند الأخبار المتواترة، ضروريّ من فعل اللّه تعالى، و أنّه أجرى العادة بأن يفعله للعقلاء عند

______________________________

(1) في الأصل: محكما، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 56

سماع الأخبار

صحيحا، يجري مجرى ما ذكرناه؛ حتّى لو احتجّ محتجّ بأنّ اللّه تعالى لا يفعل لأكثر العقلاء العلم بمخبر الأخبار المتواترة، مع تكرّرها على أسماعهم و كمال عقولهم، و وقع ذلك حسب ما ادّعى، لكان دليلا على صدقه.

و هكذا القول في جميع ما جرت به العادات؛ لا فرق في الدلالة على النّبوّة بين ثبوت ما جرت بانتفائه و بين انتفاء ما جرت بثبوته؛ لأنّه إنّما دلّ من حيث كان خارقا للعادة فمن أيّ الجهتين خرقها هو دالّ.

و ممّا يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّ دلالة المعجزات على النّبوّات محمولة على تصديق أحدنا لغيره فيما يدّعيه عليه، إمّا بقول يدلّ على التّصديق، أو بفعل ما يقوم مقامه. و قد علمنا أنّ أحدنا لو ادّعى عليه بعض أصحابه دعوى ما و التمس تصديقه فيها، فقال له: إن كنت صادقا عليك فحرّك يدك في جهة مخصوصة، أو ضعها على رأسك، أو طالبه بغير ذلك ممّا يعلم أنّه لم يفعله مستمرّا على عادة له، لكان إذا فعله دالّا على صدقه، و يجري فعله مجرى قوله: صدقت. و كذلك لو طالبه بدلا ممّا ذكرناه بأن يمتنع من فعل قد جرت عادته باستمراره عليه فامتنع منه، لقام مقام التّصديق بالقول.

و إذا لم يختلف الحال في تصديق أحدنا لغيره على الوجهين جميعا، لم يختلف أيضا في تصديق الرّسل بالمعجزات على كلا الوجهين.

فإن قال: ما أنكرتم أن يكون عدم طلوع الشّمس- على الوجه الّذي ذكرتموه- ليس بمعجز و لا دلالة، و أن تكون الدّلالة هناك- في الحقيقة- سكون الشّمس في الموضع الّذي سكنت فيه، و لم تحرّك منه للطّلوع على مجرى العادة. و ليس مثل هذا معكم في منع العرب عن المعارضة؟! قيل له: هذا

في نهاية البعد، و من أين للمستدلّ على النّبوّة أنّ الشّمس إذا غابت عن بلدة فلا بدّ من أن تكون باقية، تقطع الأماكن حتّى تنتهي إلى أفق

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 57

المشرق ببلدة؟

وهب أنّ هذا حقّ بالأدلّة عليه، ليس جهل المستدلّ على النّبوّة في ذلك أو شكّه فيه بمخرج له من صحّة الاستدلال- بتأخّر الشّمس عن الطّلوع- على النبوّة إذا وقع على الوجه الّذي كان ذكرناه.

و لو كان المعجز ما ذكرته لكان من فقد العلم به لا يتمكّن من الاستدلال على صدق الرّسول، و إن عدم طلوع الشّمس على الوجه الّذي ادّعاه و احتجّ به، و قد علمنا خلاف ذلك.

و بعد، فلو كان المعجز هو سكون الشّمس في بعض المواضع الغائبة عن أبصارنا لوجب أن يكون ذلك معجزا، و إن أطلع اللّه تعالى شمسا غيرها على هيئتها و جميع أوصافها من المشرق. و نحن نعلم أنّه لو فعل ذلك لم يكن سكونها في الموضع الّذي سكنت فيه معجزا، و لا ممّا يدلّ على النّبوّة.

فإن قال: إنّما لم يكن سكونها- و الحال على ما قدّرتموه- معجزا و لا دليلا، من حيث كان المستدلّ يجوّز أن تكون هي الطّالعة عليه لا مثلها. و إذا جوّز ذلك لم يعلم صدق الخبر بأنّها لا تطلع.

و لو كان له سبيل إلى العلم بأنّ الشّمس الّتي جرت العادة بطلوعها قد سكنت في بعض المواضع الغائبة عنه- و إن طلع مثلها عليه- لأمكنه الاستدلال على صدق المدّعي.

قيل له: كان سكون الشّمس في الموضع الغائب إنّما يكون دلالة على النّبوّة إذا لم تطلع شمس أخرى مكانها. و إذا جاز هذا أمكن أن يقال في مقابلته:

و المعجز أيضا للنّبيّ صلّى اللّه

عليه و آله هو العلوم الّتي يفعلها اللّه تعالى في العرب بالمدركات و الصّناعات و غيرها من العلوم الضّروريّة، منفردة عن العلم بالفصاحة و طريقة النّظم؛ إذا راموا المعارضة فتعذّرت عليهم؛ لأنّه كان تعالى قد أجرى العادة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 58

بأن يجدّد لهم في كلّ حال العلم بما ذكرناه، و بالفصاحة و التصرّف في ضروب الكلام، ثمّ منعهم- عند تعاطي المعارضة- العلم بالفصاحة، و جدّد لهم ما سواها، كانت هذه العلوم الواقعة- منفصلة عن العلوم بالفصاحة، و قد جرت العادة بتجدّد الجميع على حدّ سواء- هي المعجز، و يكون وقوعها. على الحدّ الذي ذكرناه، كالوجه في صحّة دلالتها على النّبوّة، إذا لم تطلع شمس أخرى.

على أنّ المعجز لو وجد بشرائطه كلّها- من غير دعوة مدّع و لا احتجاج محتجّ- لم يكن دالّا على النّبوّة. و كذلك لو وقع عند ارتفاع التكليف و انتقاض العادات لم يكن دالّا، فصار وقوعه- مع بقاء العادات- موافقا لدعوى مدّع له و محتجّ به، كالوجه في صحّة دلالته على النّبوّة، فلا يمتنع أيضا أن يجدّد العلوم التي ذكرناها- من غير أن تتجدّد معها العلوم بالفصاحة على مجرى العادة- دلالة على النّبوّة.

و لو تجدّد الجميع لم يكن دلالة؛ لأنّ خرق العادة- الّذي هو المراعى في دلالة النّبوّة- حاصل لا محالة.

و هذا الكلام إنّما أوردناه في مقابلة السائل على سبيل الاستظهار في الحجّة و إقامتها من كلّ وجه، و إلّا فما قدّمناه من أنّه لا فرق في الدّلالة على النّبوّة بين ثبوت ما تقتضي العادة انتفاءه و بين انتفاء ما يقتضي ثبوته، يغني عن غيره.

فإن قال: أ ليس قد شرط بعض المتكلّمين في الدّلالة أن تكون حادثة على

وجه مخصوص، فكيف يكون المعجز عدم العلوم بالفصاحة مع ذلك؟

قيل له: هذا ينكسر بما قدّمناه من دلالة عدم الغرض على حدوثه، و تعذّر الفعل «1» على [أنّ] من تعذّر عليه ليس بقادر، إلى غير ذلك ممّا ذكرناه.

اللّهمّ إلّا أن يكون من شرط ذلك لم يرد «2» الحدوث الحقيقيّ الّذي هو الخروج

______________________________

(1) في الأصل: الفصل، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: يرو، و الصحيح ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 59

من العدم إلى الوجود، بل أراد ما يعقل من معنى الحدوث و التّجدّد؛ فيكون ما تكلّمنا عليه غير خارج عن شرطه، لأنّا نعقل من تجدّد انتفاء العلوم بالفصاحة- على من قصد المعارضة- ما لو لا تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لم يكن.

فإن قال: أيّ تجدّد يفعل في الموضع الذي ادّعيتموه؟! و العلوم التي انتفت عمّن رام المعارضة لم تكن موجودة ثمّ عدمت، بل انتفاؤها مستمرّ غير متجدّد.

و ليس كذلك عدم العرض الذي يستدلّ به على حدوثه، لأنّا نعلم عدمه بعد وجوده متجدّد في الحقيقة.

قيل له: هذه العلوم و إن لم تكن انتفت بعد أن وجدت على الحقيقة، فهي من حيث اقتضت العادة وجودها- لو لا تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله- في حكم الموجود، و إن لم يوجد؛ فجرى انتفاؤها في تجدّده مجرى ما وجد على الحقيقة ثمّ عدم.

و إنّما قلنا: «في حكم الموجود» «1»، لأنّا نعلم أنّ وجودها كان واجبا لا محالة، [حسب] مقتضى العادة؛ فإذا خرق اللّه تعالى العادة في أن يوجدها و استمرّ انتفاؤها، جرى مجرى ما طرأ عليه الانتفاء من الوجه الّذي ذكرناه. و هذا بيّن لا إشكال «2» فيه.

على أنّا قد نستدلّ بجواز عدم العرض

على حدوثه، و إن لم يحصل العدم و يتجدّد. و ليس كونه ممّا يجوز أن يعدم متجدّدا على وجه، و هذا يبيّن أنّ الشرط الّذي ذكر ليس بمستمرّ في جميع الدّلائل.

فإن قال: ما أنكرتم أن يكون الاشتراط في الدّلالة أن تكون حادثة هو في أصول الأدلّة؛ لأنّ مرجع جميع الأدلّة إلى الأفعال الّتي لا بدّ أن تكون حادثة؟! و أن يكون ما ذكرتموه من الاستدلال على حدوث العرض- بعدمه، و بتعذّر الفعل

______________________________

(1) في الأصل: الوجود، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) في الأصل: الأشكال، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 60

على من تعذّر عليه ليس بقادر- يرجع جميعه إلى دلالة الفعل، غير أنّه دالّ عليه بواسطة؛ لأنّ عدم العرض أو جواز عدمه، لا يعلم إلّا بالفعل الّذي هو تحريك الشي ء بعد تسكينه، أو تسكينه بعد تحريكه. و كذلك تعذّر الفعل على زيد، يدلّ على أنّه ليس بقادر، من حيث علم بالفعل أنّ الفاعل من حيث صحّ منه يجب أن يكون قادرا، فقد عادت أصول الأدلّة كلّها إلى الأفعال.

قيل له: هذا إذا صحّ لم يؤثّر في طريقتنا؛ لأنّا نتمكّن من ردّ الدّلالة في الموضع الّذي ذكرناه أيضا، إلى الفعل على هذا الوجه.

فنقول: إذا اتّفقت العلوم بالفصاحة عند القصد إلى المعارضة، و قد كانت- لو لا النّبوّة- واقعة لا محالة على العادة فقد عادت دلالة ذلك إلى الفعل أيضا؛ لأنّ فعل العلوم لو لم يكن واجبا بالعادة لما دلّ انتفاؤها على شي ء، فالمرجع إذا الفعل في الدّلالة، كما خرج ذلك في تعذّر الفعل و غيره.

فإن قيل: خبّرونا عن التّحدّي بالإتيان بمثل القرآن، ما المراد به؟ لأنّكم ليس تذهبون إلى أنّ العادة انخرقت بفصاحته

كما نذهب، فيكون المثل الملتمس ما أخرجه من أن يكون خارقا للعادة و ألحقه بالعناد. و يتساوى فيه المماثل في الحقيقة و المقارب.

وهب أنّ طريقة النّظم قصدت أيضا بالتحدّي- على حسب ما اقتضته عاداتهم في تحدّي بعضهم بعضا- لا بدّ أن تكون الفصاحة مقصودة، و هي الأصل في التحدّي.

و الدّعاء إلى الإتيان بالمثل- إذا لم تصحّ طريقتنا- محتمل، فقد يجوز على هذا أن يكونوا ظنّوا أنّهم دعوا إلى مماثلته في الفصاحة على الحقيقة لا مقاربته، فتعذّر عليهم المعارضة لا للصّرفة بل لعلوّ منزلته في الفصاحة عليهم، و تقدّم كلامه لكلامهم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 61

قيل له: المثل في الفصاحة- الذي دعوا إلى الإتيان به- هو ما كان المعلوم من حالهم تمكّنهم منه و قدرتهم عليه، و هو المقارب و المداني لا المماثل على التحقيق الّذي ربّما أشكل كيف حالهم في التمكّن منه، فالّذي يكشف عن ذلك أنّه:

ليس يخلو القرآن في الأصل من أن تكون العادة انخرقت بفصاحته، و يكون التحدّي بإتيان مثله «1» مصروفا إلى ما أدخله في المعتاد، و أخرجه من انخراق العادة به. أو أن يكون معتادا، و التحدّي وقع بالصّرف عن معارضته. و يكون دعاؤهم إلى فعل مثله ليمتنعوا، فتنكشف الحال في الصّرفة.

فإن كان الأوّل فقد دللنا فيما تقدّم على أنّ العادة لم تنخرق به، و أنّ خفاء الفرق بين بعض ما وقع به القرب «2» منه، و بين فصيح كلام العرب يدلّ على التماثل و التقارب المخرج له من أن يكون خارقا للعادة، و أشبعنا القول في ذلك. و إن كان الأمر جرى على الوجه الثّاني فهو الذي نصرناه.

و ليس يخلو المثل الذي دعوا إلى الإتيان به بعد

هذا من أن يكون هو الذي قد علم من حالهم أنّهم متمكّنون منه، و أنّه الغالب على كلامهم و الظّاهر على ألسنتهم، فذاك المقارب لا المماثل على التّحقيق؛ لأنّ المماثل ممّا لا يظهر تمكّنهم منه هذا الظّهور. و لو كانوا إلى ذلك دعوا لوجب أن يعارضوا. و إذا لم يفعلوا- مع توفّر الدّواعي- فلأنّهم صرفوا. و يكون ما دعوا إلى فعله هو المماثل على الحقيقة.

فإن كانوا دعوا إلى ذلك لم يخل حالهم فيه من أمرين: إمّا أن يكونوا قادرين عليه و متمكّنين منه، أو غير متمكّنين.

و لو قدروا و تمكّنوا، لوجب أن يفعلوا. و إن كانوا غير متمكّنين- لا لأنّهم صرفوا عن ذلك و أفقدوا العلم به في الحال، بل بقصورهم عن نظمه في الفصاحة،

______________________________

(1) في الأصل: إتيان بمثله، و المناسب ما أثبتناه.

(2) هكذا تقرأ الكلمة في الأصل، و قد تقرأ: «الفرق».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 62

أو لأنّه تعمّل «1» له زمانا طويلا، و طالبهم بتعجيل معارضته، أو غير ذلك ممّا قد جرت العادات بمثله، و لا اختصاص لأحد فيه- فقد كان يجب أن يواقفوا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يقولوا له: ليس في قصورنا عن «2» معارضتك دليل على نبوّتك و صدقك فيما ادّعيته من صرف اللّه تعالى لنا عن المعارضة؛ لأنّك إنّما دعوتنا إلى مماثلتك فيما أتيت به. و قد يتعذّر مماثلة الفاضل عمّن لم يكن في طبقته، لمجرى العادة من غير صرف. و إذا كنت إنّما تدّعي النّبوّة لا الفضيلة المعتادة الّتي يدّعيها بعضنا على بعض فلا حجّة فيما أظهرته. و ما رأيناهم فعلوا ذلك و لا احتجّوا به.

و بعد، فقد كان لهم أن يقولوا له في

الأصل: إن كان التحدّي وقع بالمماثلة- سواء قدروا على مماثلته أو نكلوا عنها- فدعاؤك «3» لنا إلى المماثلة طريق «4» الشّغب و باب العبث؛ لأنّ العلم بأنّ الكلامين متماثلان على التحديد ممّا لا يضبطه البشر، و لا يقف عليه إلّا علّام الغيوب جلّ و عزّ، فلو استفرغنا كلّ وسع في معارضتك، لكان لك أن تقول: ليس هذا مماثلا لما جئت به، و قد بقي عليكم ما لم تساووا فيه! فقد دلّ ما ذكرناه على أنّ الّذي دعوا إلى فعله و المعارضة به هو المقارب الّذي يظهر تمكّنهم منه. و لو كانوا دعوا إلى المماثل أيضا لم يخلّ ذلك بصحّة طريقتنا من الوجه المتقدّم.

و قد بيّنا قبل هذا أنّ العرب و إن لم يكونوا نظّارين «5» و لا متكلّمين، فقد كان يجب أن يواقفوا على مثل ما ذكرناه، من حيث علموا في الجملة أنّ النّبيّ لا بدّ أن يبين بما ليس بمعتاد.

______________________________

(1) أي اعتنى و اجتهد و تكلّف العمل له.

(2) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: و دعاؤك.

(4) في الأصل: و طريق.

(5) أي أهل نظر و جدل و احتجاج.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 63

و ليس لأحد أن يقول: إنّهم شكّوا في لفظ «التحدّي»، و هل المراد به المماثلة أو المقاربة؟ لأنّا قد دللنا فيما مضى على أنّهم لو شكّوا في ذلك لاستفهموا عنه، سيّما مع تمادي زمان التحدّي و تطاوله و تكرّر التقريع على أسماعهم، و قد بلغوا من إعناتهم «1» للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تتبّعه في أقواله و أفعاله ما كان أيسر منه سؤاله عن مراده بالتحدّي الّذي هو آكد حججه و أظهر دلائله.

و بعد، فقد

كان يجب مع الشكّ أن يعارضوا ما يقدرون عليه؛ فإن وقع موقعه فقد أنجحوا. و إن قال لهم: أردت بالمثل كذا و لم أرد كذا، عملوا على ما يوجبه التّفهيم، و عذرهم عند النّاس فيما أوردوه احتمال القول الذي خوطبوا به و أشباهه.

و نحن نعلم أنّ الاستفهام مع الشكّ، أو المعارضة بالممكن إلى أن يصحّ الأمر و ينكشف المراد أشبه بالعقلاء من العدول إلى السّيف الذي لا يعدل إليه إلّا ضيق الحالة، و توجّه الحجّة! فإن قال: فاعملوا على أنّ المماثلة على التحديد- حتّى لا يغادر أحد الكلامين الآخر في شي ء- لا يعلمها إلّا علّام الغيوب تعالى عمّا ذكرتم، و لا يصحّ التحدّي بها، لم أنكرتم أن تكون المماثلة الملتمسة منهم هي التي يطبّق بها العلماء بين الشّاعرين و البليغين، و الكاتبين و الصّانعين. و إن لم يعلموا أنّ فعل كلّ واحد مماثل لفعل الآخر من جميع أطرافه و حدوده؟

قيل له: قد بيّنّا أنّ التحدّي لا يجوز أن يكون واقعا بأمر لا يعلم تعذّره أو تسهّله. و أنّه لا بدّ أن يكون ما دعوا إلى فعله ممّا يرتفع الشّكّ في أمره و يزول الإشكال عنه.

و دللنا على ذلك بأنّهم لو طولبوا بما يشكّك و يلتبس، و لا تظهر براءة ذمّتهم

______________________________

(1) أي إيقاعهم الأذى به صلّى اللّه عليه و آله.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 64

عند الإتيان به، لوقفوا على أنّهم قد أعنتوا و كلّفوا ما لم يطيقوا.

و المماثلة الّتي ذكرتها بين الشّاعرين و غيرهما، و إن لم تكن على التحديد و التّحقيق، بل لأجل اشتباه الكلامين و شدّة تقاربهما، وصفا بأنّهما مثلان؛ فالإشكال الّذي ذكرناه في ذلك أيضا حاصل، و الخلاف ثابت. و

لهذا ما اختلف النّاس في تطبيق الشّعراء و تنزيلهم و تفضيل بعضهم على بعض، قديما و حديثا.

و اختلفت في ذلك مذاهبهم، و تضادّت أقوالهم، و جرى في هذا المعنى من التّنازع ما لم يستقرّ إلى الآن، فمن ذاك أنّ أكثر المطبّقين «1» جعلوا الأعشى «2» في الطبقة الأولى رابعا، و قوم منهم جعلوا طرفة «3» الرّابع، و آخرون جعلوه الخامس.

و اختلفوا أيضا في تفضيلهم؛ فمنهم من فضّل امرأ القيس على الجماعة، و منهم من فضّل زهيرا «4»، و منهم من فضّل النّابغة «5». و قد فضّل قوم الأعشى

______________________________

(1) أي الذين قسّموا الشعراء إلى طبقات ..

(2) هو ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة، يعدّ من شعراء الطبقة الأولى في الجاهليّة، و أحد أصحاب المعلّقات، و لقّب بالأعشى الأكبر، و أعشى بكر بن وائل.

توفّي سنة 7 ه. الموضح عن جهة إعجاز القرآن النص 64 [في بيان مذهب الصرفة]

(3) هو عمرو بن العبد بن سفيان البكريّ الوائليّ، شاعر جاهليّ من الطبقة الأولى، و من أصحاب المعلّقات.

(4) هو زهير بن أبي سلمى، ربيعة بن رياح المزنيّ المضريّ، وصف بأنّه حكيم الشعراء في الجاهليّة، و في أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافّة، ولد ببلاد مزينة بنواحي المدينة، لكنّه أقام بديار نجد، و سيرته و أشعاره و معلّقته مشهورة معروفة. توفّي سنة 13 قبل الهجرة.

(5) النّابغة الذّبيانيّ، زياد بن معاوية الذبيانيّ المضريّ، شاعر جاهليّ، من الطبقة الأولى، و هو من أهل الحجاز، كانت تضرب له قبّة بسوق عكاظ فتقصده الشعراء فتعرض عليه أشعارها. و يعدّ من الأشراف في الجاهليّة، و كان حظيّا عند النعمان بن المنذر، و له شعر كثير. عاش طويلا، و توفّي نحو

سنة 18 قبل الهجرة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 65

على أهل طبقته؛ لكثرة فنون شعره.

فأمّا جرير و الفرزدق فالاختلاف في تفضيلهما أيضا مشهور؛ فبعض العلماء و الرّواة يفضّل جريرا، و بعض آخر يفضّل الفرزدق. و آخرون يفضّلون الأخطل على الجميع، و يقولون: إنّه أشدّهم أسر شعر «1»، و أشبههم بمذهب الجاهليّة، و لكلّ فيما ذهب إليه قول و احتجاج.

و من تأمّل أقوال الناس في هذه المعاني حقّ تأمّلها علم أنّها كالمتكافئة المتقابلة، و أنّه لا مذهب منها إلّا و له مخرج و فيه تأوّل، و أنّ الحقّ المحض لو التمس في خلالها لتعذّر وجوده.

و قد علمنا أنّ هؤلاء، و إن اختلفوا فيما حكيناه، فلا اختلاف بينهم في أنّ كلام الجماعة يقارب بعضه بعضا. و كلّ من فضّل أحدهم على غيره يقرّ بأنّ كلام المفضول مقارب لكلام الفاضل. و ليس هذا ممّا تدخل الشّبهة فيه دخولها في الأوّل، و لا ممّا يصحّ أن يعتقد فيه المذاهب المختلفة؛ فقد عاد الأمر إلى أنّه لو كان صلّى اللّه عليه و آله تحدّاهم بأن يأتوا بمثل ما أتى به على هذا الوجه لكان متحدّيا بما لا سبيل إلى علمه، و مطالبا لهم بما لو أحضروه لم يخرجوا عن التّبعة.

و قد مضى أنّهم لو كانوا فهموا ذلك من التحدّي لما صبروا تحته، و لا أمسكوا عن المواقفة عليه؛ فقد دلّ ما ذكرناه على أنّ التحدّي إنّما كان بإيراد ما هو ظاهر في كلامهم، و معلوم من حالهم.

و بعد، فلو كان التماثل الّذي عناه السائل ممّا لا يعترض فيه شك، و كان أمره واضحا جليّا- و ليس كذلك في الحقيقة- لم يقدح «2» الاعتراض بالتحدّي به في إعجاز القرآن

على مذهبنا؛ لأنّا قد بيّنا قبل هذا الموضع أنّهم لو تحدّوا بذلك

______________________________

(1) أي أحكمهم صناعة للشّعر.

(2) في الأصل: يقدم، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 66

و تمكّنوا منه لعارضوا، و لو لم يتمكّنوا لوجه من الوجوه المعتادة لوقفوا و تنبّهوا على سقوط الحجّة عنهم؛ فكلامنا مستقيم من كلّ وجه.

فإن قال: كيف يكون تماثل الكلامين و تفضيل أحدهما على الآخر غير مضبوطين، و الأقوال فيهما متكافئة حسبما ادّعيتم. و قد رأينا الشّعراء و غيرهم من أهل الصّنائع يتحدّى بعضه بعضا، و يستفرغون الوسع فيما يظهرونه من صنائعهم.

و إنّما غرضهم في ذلك أن يفضّلوا على نظرائهم، و يجعلوا في طبقات صنعتهم، و يشهد لهم بالتقدّم، و يسلّم إليهم الحذق. و لو كان ما قصدوا إليه من ذلك لا ينضبط و الخلاف فيه لا ينقطع، لما أتعبوا نفوسهم و أبدانهم فيما لا وصول إليه.

قيل له: إنّما تجشّم من ذكرت من الشّعراء و أهل الصّنائع ما تجشّموه من التحدّي و المباهاة و المفاخرة؛ لأنّ غايتهم القصوى التي يجرون إليها أن يغلب في الظّنون فضلهم، و يعتقد أكثر العلماء- أو طائفة منهم على الجملة- تقدّمهم. و هذا حاصل لهم و إن كان أمر بعضهم فيه أظهر فيه من بعض.

و ليس في الدّنيا عاقل من الشّعراء و لا من غيرهم، يريد أن يقطع النّاس بفضله على عديله و يطبّقه مع نظيره، من جهة العلم اليقين. بل أحسن أحوالهم و أكبر آمالهم أن يظنّ ذلك فيهم، و يكون حالهم به أشبه و أليق؛ لأنّه لا مجال للعلم في هذا، و إنّما يعمل فيه على الظنّ و غالبه. و ليس هذا من دلائل النبوّة في شي ء؛ لأنّها مبنيّة

على العلم دون الظنّ.

و إنّما يعلم صدق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الخبر بأنّهم لا يعارضونه و يدلّ على أنّهم مصروفون بأن نعلم يقينا أنّ المعارضة لم تقع من أحد منهم، و أنّ من تعاطى من القوم- ما ادّعى أنّه معارضة- متعاط لما لم يدع إليه، و يتكلّف «1» ما لا حجّة فيه.

______________________________

(1) كذا في الأصل، و لعلّها: و متكلّف.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 67

و متى لم نعلم ذلك و نقطع على صحّته، لم تستقم الدّلالة على النّبوّة، و هذا ممّا لا يقوم غالب الظنّ فيه مقام العلم، كما قام مقامه في تطبيق الشّاعر و تفضيله على أهل طبقته. إلّا أنّ التطبيق و المفاضلة بين الفاضلين- و إن كانا مظنونين- فالتّقارب بين الجماعة معلوم غير مظنون. و لهذا لا نرى أحدا من أهل القرية «1» تشاكل عليه مقاربة كلام المفضول للفاضل؛ و إن علت طبقة أحدهما على صاحبه.

و لا يصحّ اعتراض الشكّ في أنّ كلّ واحد من الكلامين مستبدّ بحظّ من الفصاحة، و إن زاد في أحدهما و نقص في الآخر، حتّى يقع في ذلك الخلاف و التّنازع، و يعتقد فيه المذاهب، و يصنّف فيه الكتب، كما جرى كلّ ما ذكرناه في التّطبيق و المفاضلة بين النظيرين.

فقد وضح أنّ التحدّي لم يقع إلّا بأمر يصحّ العلم به و القطع عليه، دون ما يغلب في الظنّ، و لا يؤمن ثبوت الخلاف فيه.

فإن قال: فيجب على مذهبكم هذا أن يكون القرآن في الحقيقة غير معجز، و أن يكون المعجز هو الصّرف عن معارضته! قيل له: هذا سؤال من قد عدل عن الحجاج إلى الشّناعة «2»، و استنفار من يستبشع الألفاظ من غير

معرفة معانيها من العامّة و المقلّدين. و قلّ ما يفعل ذلك إلّا عند انقطاع الحجّة و نفاد الحيلة. و ما أولى أهل العلم و المتحرّمين «3» به، بتنكّب هذه السّجيّة و بتجنّبها! و نحن نكشف عمّا في هذا الكلام.

أمّا «المعجز» في أصل اللّغة و وضعها، فهو «4»: أن يكون من جعل غيره عاجزا، كما أنّ «المقدر»- الّذي هو في وزنه- من جعل غيره قادرا، و «المكرم» من جعله كريما و فعل له كرامة.

______________________________

(1) كذا في الأصل، و لعلّها: العربيّة.

(2) أي التشنيع و التقبيح.

(3) تحرّم بحرمة: تمنّع و تحمّى.

(4) في الأصل: فهي، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 68

فإن كانوا قد استعملوا لفظة «مقدر» فيمن مكّن غيره من الأسباب و الآلات من غير أن يفعل له قدرة في الحقيقة، فكذلك «1» استعملوا لفظة «معجز» فيمن فعل ما يقدر معه [على] الفعل، من سلب آلة و ما جرى مجراها و إن لم يكن فعل عجزا، غير أنّ التعارف و الاصطلاح قد ينقل «2» هذه اللّفظة- أعني لفظة «معجز»- عن أصل وضعها، و جعلوها مستعملة فيما تعذّر على العباد مثله، سواء كان التعذّر لأنّهم غير قادرين على جنسه، أو لأنّهم غير متمكّنين من فعل مثله في صفته.

و كذلك كان نقل الجبال عن أماكنها، و منع الأفلاك من حركاتها معجزا، كما كان إحياء الموتى، و إعادة جوارح العمي و الزّمنى معجزا، و إن كان جنس الأوّل مقدورا لهم، و جنس الثّاني غير مقدور.

و إذا صحّ هذا لم يمتنع القول بأنّ القرآن معجز، من حيث كان وجود مثله في فصاحته و طريقة نظمه متعذّرا على الخلق، لا اعتبار بما له تعذّر؛ فإنّ ذلك و إن

كان مردودا عندنا إلى الصّرف، فالتّعذّر حاصل. كما لم يختلف ما تعذّر فعل جنسه، و ما تعذّر فعل مثله في بعض صفاته في الوصف بالإعجاز، و إن كان سبب التعذّر مختلفا.

فإن قال: الأمر و إن كان في لفظة «معجز» أو أصلها و ما انتقلت إليه، على ما ذكرتموه؛ فإنّ المعجز من شرطه- في الاصطلاح- أن يكون خارقا للعادة، و إلّا لم يكمل له الوصف بأنّه معجز. و ليس القرآن عندكم خارقا للعادة، اللّهمّ إلّا أن تحملوا نفوسكم على ادّعاء ذلك، و تتأوّلوا أنّ مثله في الفصاحة و النّظم لمّا لم يقع يجب أن يكون خارقا للعادة. و هذا من التأويل البعيد؛ لأنّ فصاحته عندكم معتادة فلا كلام فيها، و طريقته في النّظم- و إن لم تعهد- فهي كالمعهودة من حيث كان

______________________________

(1) في الأصل: كذلك، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: يقال، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 69

النّاس قبل التحدّي و الصّرف متمكّنين من السّبق إليها، و غير ممنوعين منها.

و كلّ شي ء وقع التمكّن منه فهو في حكم المعتاد المعهود و إن لم يوجد، فكيف يصحّ الجواب مع ما ذكرناه؟

قيل له: إذا أجبناك إلى جميع ما اقترحته في سؤالك فقد أسقطنا شناعتك الّتي قصدتها؛ لأنّ أكثر ما في كلامك أن يكون القرآن على مذهبنا غير خارق للعادة من حيث فصاحته و نظمه. و أن يكون خرق العادة راجعا إلى الصّرف عن معارضته. و العامّة و أصحاب الجمل لا يعرفون ما المراد بهذا اللّفظ، أعني: «خرق العادة»، و لا يعهدون استعماله، فكيف يستشنعون بعض المذاهب فيه؟ و إنّما ينكر أمثال هؤلاء ما قد عرفوه و ألفوه، إذا قيل فيه بخلاف

قولهم.

فإن سامجتنا في هذا الموضع و منعتنا من إطلاق لفظة «معجز» على القرآن، مع قولنا: إنّه غير خارق للعادة من حيث شرطت في «المعجز» أن يكون خارقا للعادة، جاز أن نستفسرك في أوّل الكلام، فنقول لك: ما تريد بقولك: فيجب أن يكون القرآن غير معجز؟

أ تريد: يجب أن يكون الخلق- أو بعضهم- متمكّنين من معارضته و مساواته، أو يكون «1» ممّا يستدلّ به على نبوّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صدق دعوته؟

أم تريد أنّه يجب أن لا يكون خارقا للعادة بفصاحته و نظمه، و لا علما على النبوّة بنفسه، لكنّ قصور الفصحاء عنه يدلّ على الصّرف الّذي هو العلم في الحقيقة؟

و إن أردت الأوّل: فقد ظلمت؛ لأنّا قد دللنا على أنّ معارضة القرآن متعذّرة على سائر الخلق، و أنّ ذلك ممّا قد انحسمت «2» عنه الأطماع، و انقطعت

______________________________

(1) كذا في الأصل، و لعلّه: فلا يكون.

(2) انحسم: انقطع و امتنع.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 70

فيه الآمال.

و دللنا أيضا على أنّ التحدّي بالقرآن و قعود العرب عن المعارضة يدلّان على تعذّرها عليهم، و أنّ التعذر لا بدّ أن يكون منسوبا إلى صرفهم عن المعارضة؛ فالاستدلال به من هذا الوجه على النبوّة صحيح مستقيم.

و إن أردت القسم الثّاني: فهو قولنا، و ما يأبى ما «1» رسمناه إذا قيّدناه هذا التّقييد، و فسّرناه بهذا التّفسير.

و قد زالت الشّناعة على كلّ حال؛ لأنّ القوم الّذين قصدت إلى تقبيح مذهبنا في نفوسهم، إنّما ينكرون أن يكون القرآن غير معجز، و يشنّعون من يضاف مثل ذلك إليه. على تأويل أن يكون ممّا يتمكّن البشر من مساواته و معارضته، أو يكون لا حظّ له في الدّلالة على النبوّة،

و نحن بريئون من ذلك و من قائليه.

فأمّا ما بعد هذا من التفصيل فموقوف على المتكلّمين و غيرهم، لا ما تتخيّله، فضلا عن أن تبطله و لا تصحّحه! فإن قال: الشّناعة باقية؛ لأنّ المسلمين بأسرهم ينكرون قول من نفى كون القرآن علما للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما تنكرون ما ذكرتموه و تبرّأتم منه من نفي دلالته جملة، و القول بأنّه ممكن غير متعذّر؟! «2»

______________________________

(1) في الأصل: إذا، و المناسب للسياق ما أثبتناه.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 382: «فإن قيل: هذا المذهب يقتضي أنّ القرآن ليس بمعجز على الحقيقة، و أنّ الصّرف عن معارضته هو المعجز، و هذا خلاف الإجماع.

قلنا: لا يجوز ادّعاء الإجماع في مسألة فيها خلاف بين العلماء المتكلّمين! و لفظة «معجز» و إن كان لها معنى معروف في اللغة، فالمراد بالمعنى في عرفنا ما له حظّ في دلالة صدق من اختصّ به. و القرآن على مذهب أهل الصرفة بهذه الصفة، فيجوز أن يوصف بأنّه معجز.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 71

قيل له: من هؤلاء المسلمون الّذين ينكرون ما ادّعيته؟

فإن قال: هم النظّارون و المتكلّمون.

قيل له: معاذ اللّه أن ينكر هؤلاء إلّا ما أقاموا البرهان على بطلانه و قطعوا العذر في فساده؛ فإن كانوا منكرين لذلك- حسب ما ادّعيت- فهات حجّتهم في دفعه، لنسلّم لها بعد الوقوف على صحّتها. و ما نراك إلّا أن تسلك طريق الاحتجاج.

و إن قال: هم الفقهاء، و أصحاب الحديث، و العامّة، و من جرى مجراهم.

قيل له: و كيف ينكر هؤلاء ما لا يفهمونه؟! و لعلّه لم يخطر قطّ لأحدهم ببال.

و الإنكار للشي ء و التصحيح له إنّما يكون بعد المعرفة به و التبيين

لمعناه. فإن أنكر هذا- ممّن ذكرته- منكر؛ فلأنّه يستغربه و يستبدع «1» الخوض فيه، لا لأنّه يعتقده كفرا و ضلالا، كما ينكر أكثر الفقهاء و جميع العامّة ذكر الجوهر و العرض و الحدوث و القدم، و إن كان كثير منهم يتسرّع إلى الحكم في كلّ ما لا يعرفه و يألفه بأنّه كفر و ضلال! إلّا أنّنا ما نظنّ أنّك تقاضينا إلى أمثال هؤلاء و تحاجّنا بإنكارهم، فإنّنا لو رجعنا إليهم أو صغينا إلى أقوالهم لخرجنا «2» عن الدّين و العقل معا، و حصلنا على محض العناد و التجاهل! و بعد، فمتى قيل لمنكر هذا من الفقهاء و العامّة- ما نريد بقولنا: «إنّ القرآن ليس بعلم» إخراجه من الدّلالة على النبوّة، و لا أنّ معارضته يمكن أحدا من البشر

______________________________

و إنّما تنكر العامّة و أصحاب الجمل القول بأنّ القرآن ليس بمعجز، إذا أريد به أنّه لا يدلّ على النبوّة، و أنّ البشر يقدرون على مثله. فأمّا كونه معجزا، بمعنى أنّه في نفسه خارق للعادة دون ما هو مسند إليه و دالّ عليه من الصّرف عن معارضته، فممّا لا يعرفه من يراد الشناعة عندهم. و الكلام في ذلك وقف على المتكلّمين».

(1) أي ينسبه إلى البدعة.

(2) في الأصل: يخرجنا، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 72

أن يأتي بها «1»، و إنّما أردنا كذا و كذا- رجع عن إنكاره، و علم أنّ الّذي نقوله بعد ذلك فيه ليس ممّا يهتدي أمثاله إلى تصحيحه أو إبطاله، و أنّ غيره أقوم به منه. اللّهمّ إلّا أن يكون مستحكم الجهل قليل الفطنة، فهذا من لا ينجع فيه تفهيم و لا تعليم، و لا اعتبار بأمثاله حسب ما قدّمناه.

فإن

قال: ما عنيت إلّا العلماء النظّارين؛ فإنّهم بأسرهم يعترفون بأنّ القرآن علم على النبوّة، و ينكرون قول من أبى ذلك.

و أمّا التماسكم ذكر حجّتهم في ذلك فحجّتهم هي الإجماع الّذي هو أكبر الحجج. و الفقهاء المقتصرون على الفقه، و أصحاب الحديث و العامّة، و إن لم يعرف في ذلك أقوالهم متجرّدة، فهم تابعون للعلماء و المتكلّمين.

و لو ذهبنا إلى اعتبار أقوال العوامّ و من جرى مجراهم في الإجماع طال علينا، و لم نتمكّن- نحن و لا أنتم- من تصحيح دلالة الإجماع في باب واحد! قيل له: كيف يسوغ لك ادّعاء إجماع أهل النظر، و النّظّام «2» و جميع من وافقه، و عبّاد بن سليمان «3»، و هشام بن عمرو الفوطيّ «4» و أصحابهما

______________________________

(1) في الأصل: أو يأتي به، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) هو أبو اسحاق إبراهيم بن سيّار البصريّ النظّام، من أئمّة المعتزلة و رءوسها، نشأ بالبصرة ثمّ رحل إلى بغداد و اشتهر، و صارت له مدرسة و تلامذة و أتباع. كان نابها فطنا فحارب الدهريّة و الأشاعرة و الحشويّة و أهل الحديث و المرجئة و المجبرة. كان يقول بأنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحاربته المذاهب السنّية و اتّهموه و وصفوه باقترافه الموبقات. كان شاعرا فقيها جدليّا. توفّي ببغداد ما بين سنتي 220- 230 ه. له مصنّفات عديدة.

(3) عبّاد بن سليمان من أعلام المعتزلة و منظّريها، و كان من أصحاب هشام بن عمرو الفوطيّ. له كتاب باسم «الأبواب».

(4) هشام بن عمرو الفوطيّ البصريّ، من أصحاب أبي الهذيل العلّاف، ولد بالبصرة و نشأ بها

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 73

خارجون عنه.

فأمّا

النّظّام فمذهبه في ذلك معروف. و أمّا هشام و عبّاد، فكانا يذهبان إلى أنّ الأعراض لا تدلّ على شي ء؛ فالقرآن- على مذهبهما- لا يصحّ أن يكون دالّا على النّبوّة و لا غيرها. و قد صار هشام و عبّاد إلى الموضع المستشنع الذي رمت أيّها السّائل أن تنحله أصحاب الصّرفة. و إذا خرج هؤلاء عن الجملة لم يعدّ القول إجماعا من المتكلّمين.

و بعد، فلو لم يخرج من ذكرنا لم يكن إجماعا أيضا؛ لأنّ المتكلّمين ليس هم الأمّة بأسرها. و إذا كنّا قد بيّنا أنّ من عدا المتكلّمين لا يعرف هذا، و ربّما لم يفهمه، و أنّ فيهم من إذا سمع الخفض «1» في هذا القرآن- علم أو ليس يعلم- استبدع أيّ قول قيل في ذلك، و اعتقد أنّ من قوّة «2» الدّين و صحّة العزيمة فيه الإضراب عن تكلّف أمثال هذه الأقوال. و فيهم من إذا فهمه رضي بعض المذاهب فيه، و سخط بعضا. فكان من ليس بمتكلّم من سائر المسلمين لا قول له في هذا الباب، و لا اتّباع و لا رضى.

و إنّما لم تحصل أقوال العامّة و أصحاب الجمل في مسائل الإجماع كما حصلنا أقوال الخاصّة و آراءها، لعلمنا بتسليمهم ذلك للخاصّة، و اتّباعهم فيه؛ فيكون هذا الاتّباع و الانقياد قائما مقام القول الموافق لأقوالهم. و ليس هذه حالهم فيما سأل عنه السّائل. و كلّ إجماع لم يكن هكذا، فهو غير صحيح.

و من صار إلى ادّعاء الإجماع في مسائل الكلام اللّطيفة الّتي تخفى عن كثير من العقول كمسألتنا هذه، فعجزه ظاهر.

______________________________

ثمّ سافر إلى بلدان عديدة، و كان معتزليّا من دعاة الاعتزال، و له آراء يختصّ بها. له مصنّفات عديدة على مذهب الاعتزال.

(1) أي التنقيص

و التقليل من شأنه.

(2) في الأصل: مرفوعة، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 74

ثمّ يقال له «1»: أنت أيّها السّائل و أصحابك، تقولون: إنّ القرآن ليس بمعجز، و لا علم على النبوّة؛ لأنّه موجود قبل مولد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في السّماء. و إنّما المعجز عندكم بنزول جبرئيل عليه السّلام به إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فالتّشنيع الذي ذكرته لازم لمذهبك.

فإن قال: نحن و إن قلنا إنّ القرآن لم يكن علما و معجزا قبل إنزاله و اختصاص النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فإنّا نصفه بعد النزول و الاختصاص بأنّه علم و معجز.

قيل له: قد علمنا ذلك من قولك: إنّ الّذين أردت التّشنيع علينا عندهم لا يرتضون القول بأنّ القرآن لم يكن علما و معجزا، ثمّ صار كذلك. و هو موجود في الحالين، و عندهم أنّ في ذلك تصغيرا من شأنه و حطّا عن قدره.

فإن قلت: إنّني إذا فهّمتهم المراد بهذا القول كان المعجز يجب أن يكون ناقضا للعادة، و من شرطه كذا و كذا. و لمّا كان القرآن موجودا في السّماء لم تنتقض به عادة، و لم يحصل له شروط الأعلام و الآيات، و أنّه إنّما صار كذلك بعد النزول؛ أزلت الشّناعة.

قيل لك: و نحن أيضا إذا أوقفناهم على الفرض في قولنا، و كشفناه الكشف الّذي قدّمناه، زال ما خامر قلوبهم من أنّ ذلك كالطّعن في دلالة القرآن، و أنسوا به.

و ربّما اعتقده منهم من فهمه.

و يقال له: على أيّ وجه يصحّ قولكم: إنّ القرآن لم يكن علما معجزا قبل نزول جبرئيل عليه السّلام به، ثمّ صار كذلك؟! و المعجز- في الحقيقة- هو الحادث عند

دعوى النبوّة ليكون متعلّقا بها تعلّق التصديق، و لهذا لا يكون ما حدث قبل نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- بالمدد الطويلة، أو تأخّر عنها- علما له و لا معجزا، فكيف يكون

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 382: «و من ذهب إلى أنّ القرآن موجود في السّماء قبل النبوّة، لا يمكنه أن يجعل القرآن هو العلم المعجز القائم مقام التصديق؛ لأنّ العلم على صدق الدّعوى لا يجوز أن يتقدّمها، بل لا بدّ من حدوثه مطابقا لها».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 75

القرآن على هذا معجزا، و وجوده متقدّم للنّبوّة؟! فإن قال: القرآن- و إن تقدّم وجوده- فإنّما يصير معجزا لنزول جبرئيل عليه السّلام به، و اختصاصه بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على وجه لم تجر العادة بمثله؛ فتحلّ في هذا الباب، و إن كان محكيّا منقولا على المبتدأ للحدوث. كما أنّ القديم تعالى لو خلق حيوانا في جبل أصمّ، و جعل بعض الأنبياء علمه ظهور ذلك الحيوان من الجبل، فصدع اللّه تعالى الجبل و أظهر الحيوان، لكان ذلك معجزا، و إن كان خلق الحيوان متقدّما.

و لم يكن بين ظهوره على هذا الوجه و بين ابتداء خلقه في الحال فرق في باب الإعجاز؛ فكذلك القول في القرآن.

قيل له: إذا كان نزول جبرئيل عليه السّلام بالقرآن لم يجعله مبتدأ الحدوث، لأنّه و إن كان حادثا عند الحكاية من قبل أنّ البقاء لا يصحّ عليه، فليس بمبتدإ الحدوث.

و الحكاية له قائمة مقام نفس المحكيّ، حتّى لو أنّه ممّا يبقى لم يسمع إلّا كما سمعت بحكايته، فيجب أن لا يكون هو العلم في الحقيقة؛ لأنّه لم يبتدأ حدوثه عند الدّعوى فيتعلّق بها.

و يجب

على هذا المذهب أن يكون العلم المعجز هو نزول جبرئيل عليه السّلام به؛ لأنّ ذلك متجدّد مبتدأ الحدوث. و ليس الأمر في صدع الجبل عن الحيوان المتقدّم خلقه كما وقع لك؛ لأنّ المعجز في ذلك يجب أن يكون صدع الجبل؛ لأنّه الحادث عند الدّعوى، و المتعلّق بها تعلّق التّصديق. فأمّا خلق الحيوان إذا كان معلوما تقدّمه، فلا يجوز أن يكون هو المعجز.

و في نزول جبرئيل عليه السّلام بالقرآن، و هل يصحّ أن يكون معجزا أو لا يصحّ؟

و هل يكون العجز من فعل غير اللّه تعالى، كما تكون من فعله؟ كلام ستراه مستقصى فيما بعد، بمشيئة اللّه تعالى. و إنّما أوردنا هذا الكلام هاهنا لأنّ مذهب الخصوم يقتضيه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 76

فإن قال: كيف يكون نزول جبرئيل عليه السّلام بالقرآن علما لنا على النبوّة، و هو ممّا لا نعلمه و لا نقف على تجدّد حدوثه؟! و إنّما يصحّ أن يكون نزول جبرئيل عليه السّلام علما له عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، نستدلّ به على صدقه فيما يؤدّيه عن ربّه تعالى، فأمّا أن يكون علما للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تكليفنا العلم بنبوّته- و هو ممّا لا نقف عليه- فلا يصحّ! قيل له: لنا سبيل إلى الوقوف عليه؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا تحدّى بالقرآن فصحاء العرب فلم يعارضوه، و صرفت أنت و أهل مذهبك تعذّر المعارضة إلى خروج القرآن عن العادة في الفصاحة، لم تخل الحال عند النّاظر المستدلّ على النّبوّة من وجوه:

إمّا أن يكون اللّه تعالى ابتدأ حدوث القرآن على يده و خصّه به؛ فيكون المعجز حينئذ نفس القرآن. أو يكون أحدثه قبل نبوّته،

و أمر بعض الملائكة بإنزاله إليه، ليتحدّى به البشر فيكون المعجز نزول الملك به لا نفس القرآن الّذي تقدّم حدوثه.

أو يكون خصّه بعلوم تأتّى معها فعل القرآن، فيكون المعجز هو العلوم التي أبين «1» بها من غيره.

فالمرجع في القطع على أحد هذه الوجوه إليه صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّ العلم بصدقه حاصل بتعذّر المعارضة. و هي لا تتعذّر إلّا لأحد هذه الوجوه الّتي كلّ واحد منها يدلّ على صدقه صلّى اللّه عليه و آله.

و إذا تقدم العلم بصدقه معرفة المعجز بعينه، قطع عليه بخبره. و قد خبّر صلّى اللّه عليه و آله بأنّ القرآن نزل به جبرئيل عليه السّلام، و إن كان حادثا قبل الرّسالة فيجب عليك و على أهل مذهبك القول بأنّ القرآن ليس بعلم في الحقيقة و لا معجز! و هذا يعيد

______________________________

(1) في الأصل: أتين، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 77

الشّناعة إليك.

ثمّ يقال له: عرف العامّة ما تقوله أنت و أصحابك، بل أكثر محصّلي المتكلّمين، من أنّ جميع الخلق قادرون على مثل القرآن، و غير عاجزين عنه.

و اسمع قولهم في ذلك، فإنّه أشنع عندهم و أفحش من كلّ شي ء! فإن قال: هذا لا أطلقه؛ لأنّه يوهم أنّهم يتمكّنون من فعل مثله، و أنّه يتأتّى منهم متى راموه.

قيل له: قد أصبت في هذا الاحتراز و التقييد، إلّا أنّ المعنى مفهوم، و إن لم تطلق اللّفظ، و نحن أيضا لا نطلق أنّ القرآن ليس بمعجز و لا علم؛ لأنّه يوهم أنّ معارضته ممكنة غير متعذّرة، و أنّه لا دلالة فيه على النبوّة، فلا تسمنا «1» ذلك.

و اقنع منّا بما أقنعت به من طالبك بأنّ القرآن ... «2».

ثمّ يقال

لهم: أ لست أنت و أصحابك كنتم تجيزون- لو لا إخبار الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّ القرآن من كلام ربّه تعالى- أن يكون فعلا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟

فإذا قال: نعم.

قيل له: فلو لم يعلم ذلك من جهة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بقي الجواز على حاله، ما الّذي كان يكون المعجز في الحقيقة؟

فإن قال: القرآن هو المعجز على كلّ حال، و لا فرق بين أن يكون من فعل اللّه تعالى، و بين «3» أن يكون من فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

قيل له: فكيف يصحّ كونه علما للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معجزا، و هو من فعله؟ و العلم

______________________________

(1) أي لا تجعله مزيّة و علامة لنا.

(2) يبدو أن نسخة الأصل كان فيها بياض بمقدار كلمتين، فأضاف اليها من قام بمقابلة النسخة كلمتين هما: معذّبون عليه، و لعلّ المناسب: مقدور عليه.

(3) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 78

هو الواقع موقع التّصديق، و التّصديق يجب أن يقع ممّن تعلّقت الدّعوى به، و هو اللّه تعالى. و إذا كان من فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كان هو المصدّق نفسه، و هذا ظاهر الفساد.

فإن قال: إذا قدّرنا ارتفاع حصول العلم لنا من دين النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ القرآن من كلام اللّه تعالى، جوّزنا أن يكون القرآن هو المعجز، بأن يكون اللّه تعالى تولّى فعله.

و جوّزنا أن يكون من فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يكون المعجز إذ ذاك العلوم التي خصّ بها، فتأتّى معها فعل القرآن.

قيل له: أ فكان تجويزكم أن يكون القرآن غير معجز،

و أن يكون المعجز في الحقيقة غيره- مع علمكم بصدق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من جهة القرآن- يدخلكم في شناعة! فإذا قال: لا.

قيل: فعلى أيّ وجه ألزمتم أصحاب الصّرفة الشّناعة، و ما قالوا أكثر من هذا الّذي اعترفتم بأنّه لا شناعة فيه؟! فإن قال: لو جرى الأمر على ما قدّمتموه، لما حصل الإجماع على أنّ القرآن علم معجز. و لهذا لم يكن في القول بذلك شناعة. و إنّما ألزمنا أصحاب الصّرفة الشناعة الآن، بعد حصول الإجماع.

قيل له: و لا الآن حصل إجماع ذلك، كما ظننت، و قد مضى في ادّعاء الإجماع ما لا طائل في إعادته.

فإن قال: إذا كان فصحاء العرب- على مذهبكم- قادرين على ما يماثل القرآن في الفصاحة و النّظم. أو على ما إن لم يماثله في الفصاحة قاربه مقاربة تخرجه من أن يكون خارقا للعادة، فقد كانوا لا محالة عالمين بذلك من أنفسهم؛ لأنّه لا يجوز أن تعلموا أنتم ذلك و يخفى عليهم! فإذا علموه، فأحدهم إذا رام المعارضة فلم

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 79

يتأتّ له الكلام الفصيح الّذي يعهده من نفسه، حتّى إذا عدل عنها عدل إلى طبعه و جرى على عادته، لا بدّ أن يقف على سبب تلبّسه «1»، و الوجه الّذي منه و هي «2»، و يعلم أنّ ذلك هو تعاطي المعارضة، لا سيّما إذا جرّب نفسه مرّة بعد أخرى فوجد التعذّر مستمرّا عند القصد إلى المعارضة، و التسهّل حاصلا عند الانصراف عنها، فحينئذ لا يعارضه شك في ذلك، و لا يخالجه «3» ريب.

و إذا وجب هذا فأيّ شكّ يبقى لهم في النبوّة؟ و هل يعدل عنها منهم- و حالهم هذه- إلّا معاند مكابر

لنفسه و عقله؟! و قد علمنا أنّ من انحرف عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من العرب الفصحاء لم يكونوا بهذه الصّفة، بل قد كان منهم من يتديّن بمذهبه، و يتقرّب إلى اللّه تعالى بعبادته.

و الأظهر من حالهم [أنّ] عدولهم عن تصديقه إنّما كان لتمكّن الشّبه من قلوبهم، و لتقصيرهم في النّظر المفضي مستعمله إلى الحقّ. و هذا يكشف عن فساد ما ادّعيتموه.

قيل له «4»: العرب و إن كانوا لا بدّ أن يعرفوا مبلغ ما يتمكّنون منه من الكلام

______________________________

(1) اللفظة غير مقروءة في الأصل، و لعلّها ما أثبتناه.

(2) هكذا في الأصل، و لعلّها: دهي.

(3) في الأصل: و لا عالجه، و المناسب ما أثبتناه.

(4) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 383: «قلنا لا يبعد أن يعلموا تعذّر ما كان متأتّيا، و يجوز أن ينسبوه إلى الاتفاق، أو إلى أنّه سحرهم، فقد كانوا يرمونه بالسّحر، و كانوا يعتقدون للسّحر تأثيرا في أمثال هذه الأمور، و مذاهبهم في السحر و تصديقهم لتأثيراته معروفة، و كذلك الكهانة.

و لو تخلّصوا من ذلك كلّه و نسبوا المنع إلى اللّه تعالى، جاز أن يدخل عليهم شبهة في أنّه فعل للتصديق، و يعتقدوا أنّه ما فعله تصديقا، بل لمحنة العباد كما يعتقده كثير من المبطلين، أو فعل للجدّ و الدولة».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 80

الفصيح و مراتبه، فليس يجب- إذا امتنع عليهم عند القصد إلى المعارضة ما كان متأبّيا ثمّ عاد إلى التأتّي و التّسهّل مع العدل عنها- أن تعلموا أنّ سبب ذلك هو القصد إلى المعارضة. و إن علموا ذلك فليس يجب أن يعلموا أنّ المنع عنها من قبل اللّه تعالى، فإذا علموه فلا يجب أن يعلموا

أنّ اللّه فعله تصديقا للمدّعي للنّبوّة؛ لأنّهم قد يجوز أن ينسبوا ما يجدونه من التعذّر ثمّ التسهّل إلى الاتّفاق، أو إلى غيره من الأسباب.

فإذا عرفوا أنّه من أجل المعارضة جاز أن ينسبوه إلى السّحر، فقد كان القوم- إلّا قليلا منهم- يصدّقون به و يعتقدون فيه أنّه يبغّض الحبيب، و يحبّب البغيض، و يسهّل الصّعب، و يصعّب السّهل. و لهم في ذلك و في الكهانة مذاهب معروفة و أخبار مأثورة، و قد رموا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بشي ء من ذلك، و نطق به القرآن، فأكذبهم اللّه تعالى فيه، كما أكذبهم في غيره من ضروب القرف «1» و التخرّص.

فإذا وصلوا إلى أنّه من فعل اللّه تعالى و زالت الشّبهة في أنّه من فعل غيره، جاز أن يعتقدوا أنّه لم يكن للتّصديق، بل للجدّ و الدّولة و المحنة للعباد؛ فأكثر النّاس يرى أنّ اللّه تعالى إذا أراد إدالة «2» بعض عباده، و الإشادة بذكره، و الرّفع لقدره، سخّر له القلوب، و ذلّل له الرّقاب، و قبض الجوارح ليتمّ أمره، و ينتظم حاله.

و لا فرق في هذا بين الضالّ و المهتدي، و الصادق و الكاذب. و للّه تعالى أن يمتحن عباده على رأيهم بكلّ ذلك.

و الشّبه الّتي تعترض في كلّ قسم من الأقسام الّتي ذكرناها كثيرة جدّا. و قد استقصى الجواب عنه المتكلّمون في كتبهم، و إنّما أشرنا بما ذكرناه منها إلى ما

______________________________

(1) هكذا في الأصل: يقال: قرفه بكذا: نسبه إليه و عابه به. و لعلّ العبارة: من ضروب القذف؛ ففي الذخيرة 371: و استعمال السبّ و القذف.

(2) أدال فلانا على فلان: نصره و غلبه عليه، و أظفره به.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 81

هو

أشبه بأن يقع للعرب، و أقرب إلى أفهامهم و عقولهم.

و إذا كان العلم بأنّ القرآن معجز و علم على النّبوّة لا يخلص إلّا بعد العلم بما ذكرناه- و فيه من النّظر اللطيف ما فيه- فكيف يلزم أن يعرف العرب ذلك ببادي أفكارهم، و أوائل نظرهم؟! ثمّ يقال للسّائل «1»: إذا كان العرب عندك قد علموا مزيّة القرآن في الفصاحة على سائر الكلام، و عرفوا أيضا أنّ هذه المزيّة خارجة عن العادة، و أنّها لم تقع بين شي ء من الكلام؛ فقد استقرّ إذا عندهم أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مخصوص من بينهم بما لم تجر العادة به، فكيف لم يؤمن جميعهم مع هذا، و ينقد سائرهم، سيّما و لم يكن القوم معاندين، و لا في حدّ من يظهر خلاف ما يبطن؟! فإن قال: ليس يكفي في ذلك العلم بمزيّة القرآن و خروجه عن العادة؛ لأنّهم يحتاجون إلى أن يعلموا أنّ اللّه تعالى هو الخارق للعادة، و أنّه إنّما خرقها تصديقا للمدّعي للنّبوّة. و في هذا نظر طويل يقصر عنه أكثرهم.

قيل له: الأمر على ما ذكرت، و هذا بعينه جوابك عن سؤالك، فتأمّله! فإن قال «2»: لو كان اعجاز القرآن و قيام الحجّة به من قبل الصّرفة عنه لا لمزيّته في الفصاحة لوجب أن يجعل في أدون طبقات الفصاحة، بل كان الأولى

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 383: «قلنا: إذا كانت العرب علماء بخرق فصاحة القرآن لعاداتهم، و أنّ أفصح كلامهم لا يقاربه، فأيّ شبهة بقيت عليهم في أنّه من فعل اللّه تعالى صدّق (التصديق) نبيّه صلّى اللّه عليه و آله. فإذا قالوا: قد يتطرّق عليهم في هذا العلم شبهات كثيرة، لأنّهم يجب

أن يعلموا أنّ اللّه تعالى هو الخارق لهذه العادة بفصاحة القرآن، و أنّ وجه خرقه لها تصديق الدعوة للنّبوّة. و في هذا من الاعتراض ما لا يحصى».

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 383- 384: «فإن قيل: إن كان الصّرف هو المعجز، فألّا جعل القرآن من أركّ كلامه و أبعده من الفصاحة ليكون الصّرف عن معارضته أبهر؟».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 82

أن يسلبها جملة، و يجعل كلاما ركيكا متقاربا؛ لأنّه مع الصّرف عن معارضته، كلّما بعد عن الفصاحة و قرب ممّا «1» يتمكّن من مماثلته فيه المتقدّم و المتأخّر و الفصيح [و غير الفصيح]، لكانت «2» حاله في الإعجاز أظهر، و الحجّة به آكد، و ارتفعت في أمره كلّ شبهة، و زال كلّ ريب. و في إنزال اللّه تعالى له على غاية الفصاحة دليل على بطلان مذهبكم، و صحّة قولنا.

قيل له: «3»: هذا من ضعيف الأسئلة؛ لأنّ الأمر و إن كان لو جرى على ما قدّرته، لكانت الحجّة أظهر و الشّبهة أبعد؛ فليس يجب القطع على أنّ المصلحة تابعة لذلك! و غير ممتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في إنزال القرآن على هذا الوجه من الفصاحة المصلحة و اللّطف للمكلّفين ما ليس حاصلا عنده لو قلّل من فصاحته و ليّن من ألفاظه، فينزله على هذا الوجه. و لو علم أنّ المصلحة في خلاف ذلك لفعل ما فيه المصلحة و هذا كاف في جوابك.

ثمّ يقال للسائل «4»: أما يقدر القديم تعالى على كلام أفصح من القرآن؟

______________________________

(1) في الأصل: ما، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و لو كانت، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 384: «قلنا:

لا بدّ من مراعاة المصلحة في هذا الباب، فربّما ما كان ما هو أظهر دلالة و أقوى في باب الحجّة من غيره، و أصلح منه في باب الدين، فما المنكر من أن يكون إنزال القرآن على هذه الرتبة من الفصاحة أصلح في باب الدين، و إن كان لو قلّلت فصاحته عنه لكان الأمر أظهر فيه و أبهر».

(4) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 384: «فيقال له: اللّه تعالى قادر على ما هو أفصح من القرآن عندنا كلّنا. فألّا فعل ذلك الأفصح ليظهر مباينة القرآن لكلّ فصيح من كلام العرب، و تزول الشبهة عن كلّ أحد في أنّ القرآن يساوى و يقارب؟! فلا بدّ من ذكر المصلحة التي ذكرناها، فإن ارتكب بعض من لا يحصّل أمره أنّ القرآن قد بلغ أقصى ما في

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 83

فإن قال: لا، لأنّ فصاحة القرآن هي نهاية ما يمكن في اللّغة العربيّة.

قيل له: و من أين لك هذا؟ و ما الدّليل على أنّه لا نهاية بعدها؟

فإن رام أن يذكر دليلا على ذلك، لم يجد. و كلّ من له أدنى معرفة و إنصاف يعلم تعذّر الدّليل في هذا الموضع.

و إن قال: القديم تعالى يقدر على ما هو أفصح من القرآن.

قيل: فألّا فعل ذلك؟! فإنّا نعلم أنّه لو فعله لظهرت الحجّة و تأكّدت، و زالت الشّبهة و انحسمت، و لم يكن للرّيب طريق على أحد في أنّ القرآن غير مساو لكلام العرب و لا مقارب، و أنّه خارق لعاداتهم، خارج عن عهدهم.

فإن قال: قد يجوز أن يعلم تعالى أنّه لا مصلحة في ذلك، و أنّ المصلحة فيما فعله. و لو علم في خلافه المصلحة لفعله.

قيل له:

فبمثل هذا أجبناك.

على أنّا لو سلّمنا للسّائل ما يدّعيه من أنّ فصاحة القرآن قد بلغت النّهاية، و أنّ القديم تعالى لا يوصف بالقدرة على ما هو أفصح منه، لكان الكلام متوجّها أيضا، لأنّه ليس يمتنع أن يسلب اللّه تعالى الخلق في الأصل، العلوم التي يتمكّنون بها من الفصاحة الّتي نجدها ظاهرة في كلامهم و أشعارهم، و لا يمكّنهم منها. و إن مكّنهم

______________________________

المقدور من الفصاحة، فلا يوصف تعالى بالقدرة على ما هو أفصح منه! قلنا: هذا غلط فاحش، لأنّ الغايات التي ينتهي الكلام الفصيح إليها غير محصاة و لا متناهية. ثمّ لو انحصرت على ما ادّعى لتوجّه الكلام، لأنّ اللّه تعالى قادر بغير شبهة على أن يسلب العرب- في أصل العادة- العلوم التي يتمكّنون بها من الفصاحة التي نراها في كلامهم و أشعارهم، لا يمكنهم من هذه الغاية التي هم الآن عليها، فيظهر حينئذ مزيّة القرآن و خروجه عن العادة، ظهورا تزول معه الشبهات، و يجب معه التسليم. فألّا فعل ذلك إن كان الغرض ما هو أظهر و أبهر؟!».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 84

فمن الشي ء النزر اللّطيف الّذي لا يعتدّ بمثله، و ينسب فاعله فصحاؤنا العيّ «1» و البعد عن مذهب الفصاحة؛ فتظهر إذن مزيّة القرآن و خروجه عن العادة ظهورا يرفع الشّك، و يوجب اليقين. و ليس هذا ممّا لا يمكن أن يوصف اللّه تعالى بالقدرة عليه، كما أمكن ادّعاء ذلك في الأوّل.

ثمّ يقال له: خبّرنا، لو أنشر اللّه تعالى عند دعوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، جميع الأموات أو أكثرهم، أو أمات أكثر الأحياء أو سائرهم، و أهبط الملائكة إلى الأرض تنادي بتصديقه و تخاطب البشر بنبوّته. بل لو فعل-

جلّ و عزّ- ما اقترح على نبيّه عليه و آله السّلام من إحياء عبد المطّلب، و نقل جبال مكّة من أماكنها، إلى غير ذلك من ضروب ما استدعوه و اقترحوه، أما كان ذلك أثبت للحجّة و أنفى للشّبهة؟! «2» فلا بدّ من: نعم، و إلّا عدّ مكابرا.

فيقال له: فكيف لم يفعل ذلك أو بعضه؟

فإن قال: لأنّه تعالى علم المصلحة في خلافه! أو قال: لأنّه لو فعل ذلك لكان الخلق كالملجئين إلى تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و خرجوا من أن يستحقّوا بذلك الثّواب الّذي أجرى بالتّكليف إليه! قيل له: هذا صحيح، و هو جوابنا لك.

فإن قال: لو كان فصاحة القرآن غير خارجة عن العادة، و كان إعجازه من قبل الصّرف عنه- على ما ذهبتم إليه- لم يشهد الفصحاء المبرّزون بفضله و تقدّمه في

______________________________

(1) العيّ: العجز عن التعبير اللفظيّ و البيان.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 384: «فألّا فعل ذلك إن كان الغرض ما هو أظهر و أبهر، و ألّا أحيى اللّه تعالى عند دعوته الأموات أو أكثرهم و أمات الأحياء أو أكثرهم، و ألّا أحيى عبد المطّلب عليه السّلام و نقل جبال مكّة عن أماكنها، كما اقترح القوم عليه. فذلك كلّه أظهر و أبهر».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 85

الفصاحة، و لا قال الوليد بن المغيرة «1» و قد اجتمعت إليه قريش و سألته عن القرآن، فقال: قد سمعت الخطب و الشّعر و كلام الكهنة، و ليس هذا منه في شي ء.

ثمّ فكّر و نظر، و عبس و بسر «2» و قال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ! فاعترف بفضيلته، و أقرّ بمزيّته.

و قوله: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يشهد بذلك؛

لأنّه لمّا فرط استحسانه كلّه، و أعجب «3» به، و أحسّ من نفسه بالقصور عن مثله، نسبه إلى أنّه سحر، كما يقال فيما يستحسن و يستبدع من الكلام الحسن و الصّنائع الغريبة: هذا هو السّحر! و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ من الشّعر لحكما، و إنّ من البيان لسحرا» «4».

و كيف يكون الأمر على ما ذهبتم إليه، و قد انقاد للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله جلّة الشّعراء و أمراؤهم، كلبيد بن ربيعة «5»، و النّابغة الجعديّ «6»، و كعب بن

______________________________

(1) هو أبو عبد شمس، الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، هو أبو خالد بن الوليد و عمّ أبي جهل، كان من كبراء قريش و زعمائها و دهاتها قبل البعثة. جمع المتناقضات من صفات الخير و الشرّ، كان من ألدّ أعداء النبيّ و الإسلام، و لم يزل على عناده حتى مات كافرا. و دفن بالحجون بمكّة و عمره 95 سنة.

(2) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المدّثّر: الآية 17: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ* فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ.

(3) في الأصل: و أعجبه، و المناسب ما أثبتناه.

(4) بحار الأنوار 71/ 415، 79/ 290؛ سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر.

(5) هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامريّ، أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهليّة، و أحد أصحاب المعلّقات، كان من أهل نجد و أسلم، و كان من المؤلّفة قلوبهم. سكن الكوفة، و عاش عمرا طويلا، و توفّي سنة 41 ه.

(6) هو قيس بن عبد اللّه

العامريّ، صحابيّ و شاعر مفلق و مخضرم، و كان ممّن هجر الأوثان و نهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام، أسلم و صحب النبيّ ثمّ شارك مع

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 86

زهير؟! «1» و قد كان الأعشى «2»- أحد الأربعة الّذين جعلهم العلماء أوّل الطّبقات- و قد إلى مكّة، و عمل على قصد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و الإيمان به، و إنشاده القصيدة الّتي قالها فيه، و أوّلها:

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا «3»

فعاقه من ذلك ما هو معروف؛ و ذلك أنّه لمّا أتى مكّة، نزل على عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس «4»، فسمع بخبره أبو جهل بن هشام «5»، فأتاه في فتية من قريش،

______________________________

أمير المؤمنين عليه السّلام بصفّين، ثمّ سكن الكوفة، و هاجر أخيرا إلى أصفهان مع أحد ولاتها، و مات بها نحو سنة 50 ه، و قد كفّ بصره و كان قد جاوز المائة.

(1) هو كعب بن زهير بن أبي سلمى المازنيّ، شاعر من الطبقة العالية. كان مشهورا في الجاهليّة، و لمّا ظهر الإسلام هجا النبيّ و المسلمين فهدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دمه، لكنّه استأمن النبيّ و تاب و أسلم و أنشده لاميّته المشهورة: «بانت سعاد ...» فعفا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خلع عليه بردته. توفّي سنة 26 ه.

(2) هو ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة الوائليّ اليماميّ، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهليّة، و أحد أصحاب المعلّقات، توفّي سنة 7 ه.

(3) خزانة الأدب 1/ 177.

(4) أبو الوليد، من شخصيّات قريش و ساداتها في الجاهليّة، كان خطيبا مفوّها و عرف بالحلم و الدّهاء. أدرك الإسلام و لم

يسلم، بل طغى و تجبّر و أصبح من أعداء الإسلام و المسلمين و من المستهزئين بهم، شارك في وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة فقتله أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. اجتمع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تأثّر حينما سمع سورة «حم»، و أثنى على رسول اللّه في قصّة مشهورة.

(5) هو أبو الحكم عمرو بن هشام القرشيّ، الذي كنّاه المسلمون بأبي جهل، كان من رؤساء قريش بمكّة و زعمائها، معروفا بالشجاعة و الدهاء و المكر. كان من ألدّ أعداء الإسلام و خصومه، أكثر الكفّار إيذاء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين. شارك في جميع المؤامرات

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 87

و أهدى إليه هدايا، ثمّ سأله: ما الّذي جاء به؟

فقال: جئت إلى محمّد لأنظر ما يقول، و إلى ما يدعو.

فقال أبو جهل: إنّه يحرّم عليك الأطيبين: الخمر و الزّنا! قال: كبرت و ما لي في الزّنا من حاجة! قال: إنّه يحرّم عليك الخمر! قال: فما الذي يحلّ؟

فجعلوا يخبرونه بأسوإ الأقاويل. ثمّ قال له: أنشدنا ما قلت فيه.

فأنشدهم، حتّى أتى على آخرها، فقالوا له:

إنّك إن أنشدته لم يقبله منك! فلم يزالوا به حتّى يصدّوه، حتّى قال: إنّي منصرف عنه عامي هذا، و متلوّم «1» ما يكون. فانصرف إلى اليمامة، فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى مات.

و ليس يدّعي هؤلاء- و منزلتهم «2» في الفصاحة و العقل منزلتهم- أنّهم «3» يتمكّنون من مساواته في حجّته، و يقدرون على إظهار مثل معجزته، و لو لم يبهرهم أمره، و يعجزهم ما ظهر على يده لما فارقوا أديانهم، و أعطوا بأيديهم! «4»

______________________________

التي حيكت ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان يعذّب المسلمين،

و هو الذي تولّى قتل سميّة أمّ عمّار بن ياسر. و لم يزل على كفره و شكره حتّى قتل بوقعة بدر الكبرى. و كان عمره يوم هلك 70 سنة.

(1) أي متمكّث و متمهّل.

(2) في الأصل: منزلهم، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(3) في الأصل: لم، و المناسب ما أثبتناه.

(4) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 384: «فإن قيل: إذا لم يكن القرآن خارقا للعادة بفصاحته، كيف شهد له بالفصاحة متقدّمو العرب فيها كالوليد بن مغيرة و غيره؟ و كيف انقاد له صلّى اللّه عليه و آله و أجاب دعوته كبراء الشعراء، كالنابغة الجعديّ، و لبيد بن ربيعة،

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 88

قيل له: إنّما تكون الشّهادة بفضل القرآن في الفصاحة و علوّ مرتبته فيها ردّا على من نفى فصاحته جملة، أو من لم يعترف بأنّه منها في الذّروة العليا و الغاية القصوى، و ليس هذا مذهب أصحاب الصّرفة.

و إنّما أنكر القوم- مع الاعتراف له بهذا الفضل و التقدّم في الفصاحة- أن يكون بينه و بين فصيح كلام العرب ما بين المعجز و الممكن، و المعتاد و الخارق للعادة.

و ليس يحتاج- و لا كلّ من له حظّ من العلم بالفصاحة و إن قلّ- في المعرفة بفضل القرآن و علوّ مرتبته في الفصاحة إلى شهادة الوليد بن المغيرة و أضرابه، و إن كان قد يظهر لهم «1» من فضله ما لا يظهر لنا؛ لتقدّمهم في العلم بالفصاحة، إلّا أنّهم لو كتموا ما عرفوه من أمره و لم يشهدوا به، لم يخلّ ذلك بالمعرفة الّتي ذكرناها «2».

فأمّا قول الوليد بن المغيرة: «قد سمعت الخطب و الشّعر و كلام الكهنة، و ليس هذا منه في شي ء»

فيحتمل أن يكون مصروفا إلى أنّه مباين لما سمع في طريقة النّظم؛ لأنّه لم يعهد بشي ء من الكلام مثل نظم القرآن.

و قوله إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «3» إنّما عنى به ما وجد [في] نفسه من تعذّر

______________________________

و كعب بن زهير؟

و يقال: إنّ الأعشى الكبير توجّه ليدخل في الإسلام، فغاظه أبو جهل بن هشام، و قال: إنّه يحرّم عليك الأطيبين: الخمر و الزنا. و صدّه عن التوجّه. و كيف يجيب هؤلاء الفصحاء إلّا بعد أن بهرتهم فصاحة القرآن و أعجزتهم».

(1) في الأصل: لها و لا، و المناسب ما أثبتناه.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 385: «قلنا: ما شهد الفصحاء من فصاحة القرآن و عظم بلاغته إلّا بصحيح، و ما أنكر أصحاب الصرفة علوّ مرتبة القرآن في الفصاحة، قالوا: ليس بين فصاحته- و إن علت على كلّ كلام فصيح- قدر ما بين المعجز و الممكن، و الخارق للعادة و المعتاد، فليس في طرب الفصحاء بفصاحته، و شهادتهم ببراعته، ردّ على أصحاب الصرفة».

(3) سورة المدّثر: 24.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 89

المعارضة إذا رامها، مع تمكّنه من التّصرّف في الكلام الفصيح، و قدرته على ضروبه؛ لأنّه لمّا تعذّر عليه ما كان مثله على العادة ممكنا متأتّيا، ظنّ أنّه قد سحر! و يكون قوله: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إشارة إلى حاله و امتناع ما امتنع عليه، لا إلى القرآن.

و هذا أشبه بالقصّة ممّا تأوّله السّائل، و إن كان جواب ما ذكرناه و احتمال القول له يكفي في الجواب.

و أمّا دخول الشّعراء الّذين ذكرهم في الدّين، و تصديقهم للرّسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّما يقتضي أنّ ذلك لم يقع منهم- مع إبائهم و عزّة

نفسهم- إلّا لآية ظهرت، و حجّة عرفت. و أيّ آية أظهر! أو حجّة أكبر من وجدانهم ما يتسهّل عليهم من التصرّف في ضروب الفصاحة و النّظوم- إذا لم يقصدوا المعارضة- متعذّرا إذا قصدوها، و ممتنعا إذا تعاطوها! و هذا أبهر لهم، و أعظم في نفوسهم، و أحقّ بإيجاب الانقياد و التّسليم ممّا يظنّه السائل و أهل مذهبه! و إن قال: إذا كان الخلق عندكم مصروفين عن معارضة القرآن، فكيف تمكّن مسيلمة «1» منها، و كلامه و إن لم يكن مشبها للقرآن في الفصاحة و لا قريبا فهو مبطل لدعواكم أنّ الصّرف عامّة لجميع النّاس؟ «2»

______________________________

(1) هو أبو ثمامة الحنفيّ- نسبة إلى بني حنيفة- المشهور بمسيلمة الكذّاب، و ذلك بعد ما ادّعى النبوّة. ولد باليمامة و نشأ بها، و في أواخر سنة 10 ه قدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو شيخ كبير، و حينما عاد ادّعى النبوّة و أنّه شريك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في دعوته و نبوّته. و بعد أن توفّي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعلن عن دعوته باليمامة و استفحل أمره، فحاربه المسلمون سنة 11 أو 12 للهجرة، فقتل في المعركة و كان عمره حينذاك 150 سنة.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 385: «فإن قيل: كيف لم يصرف مسيلمة عمّا أتى به من المعارضة؟».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 90

قيل له: تمكين مسيلمة الكذّاب ممّا ادّعى أنّه معارضة من أدلّ دليل على صحّة مذهبنا في الصّرفة؛ لأنّه لم يمكّن من المعارضة إلّا من لا يشتبه على عاقل- فضلا على فصيح- بعد ما أتى به عن الفصاحة، و شهادته بجهله أو اضطراب

عقله.

و إنّما منع من المعارضة عندنا من الفصحاء من يقارب كلامه، و تشكل حاله.

و لو لم يكن الأمر على ما ذكرناه، و كانت [حال] الفصحاء بأسرهم، في التّخلية بينهم و بين المعارضة، حال مسيلمة و أمثاله؛ لوجب أن يقع منهم أو من بعضهم المعارضة، إمّا بما يقارب أو بما يدّعى فيه المقاربة المبطلة للإعجاز. و أنت تجد هذا المعنى مستوفى في الدّليل التالي لهذا الكلام، بمشيئة اللّه تعالى «1».

ثمّ يقال له: أ لست تعترف بأنّ معارضة القرآن لم تقع من أحد، و على هذا يبني جماعتنا دلالة إعجاز القرآن على اختلاف طرقهم؟

فإذا قال: نعم.

قيل له: فكيف تقول في معارضة مسيلمة: لا اعتراض بمثلها؟! و إنّما تبغي وقوع المعارضة المؤثّرة، و هي المماثلة أو المقاربة على وجه يوجب اللّبس و الإشكال! قيل له: و عن هذه المعارضة المؤثّرة صرف اللّه تعالى الخلق، فقد زال الطّعن بمسيلمة.

فإن قال: فأجيزوا على هذا المذهب أن يكون في كلام العرب ما هو أفصح من القرآن!

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 385: «قلنا: لا شي ء أبلغ في دلالة القرآن على النبوّة من تمكين مسيلمة من معارضته السخيفة، لأنّه لو لم يكن غيره من الفصحاء الذين يقارب كلامهم و يشكل حالهم مصروفا، لعارض كما عارض مسيلمة؛ فتمكين مسيلمة من معارضته دليل واضح على ما نقوله في الصرفة».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 91

قيل له: هذا لو أجزناه لم يقدح في إعجازه من الوجه الّذي ذكرناه، بل كان أدخل له في الإعجاز، غير أنّا قد علمنا بالامتحان و الاستقراء أنّه ليس في عالي فصيح العرب ما يتجاوز فصاحة القرآن، بل لم نجد في جميع كلامهم ما يساوي كثيرا من

القرآن، ممّا يظهر الفصاحة فيه خلاف ظهورها في غيره. و هذا موقوف على السّبر و الاختبار. و كلّ من كان في معرفة الفصاحة أقوى كان بما ذكرناه أعرف.

***

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 93

[في صرف اللّه تعالى العرب عن المعارضة]

و ممّا يدلّ على أنّ اللّه تعالى صرف فصحاء العرب عن معارضة القرآن، و حال بينهم و بين تعاطي مقابلته:

أنّ الأمر لو كان بخلاف ذلك- و كان تعذّر المعارضة المبتغاة و العدول عنها لعلمهم بفضله على سائر كلامهم في الفصاحة و تجاوزه له في الجزالة- لوجب أن تقع منهم على كلّ حال؛ لأنّ العرب الّذين خوطبوا بالتّحدّي و التّقريع، و وجهوا بالتّعنيف كانوا متى أضافوا فصاحة القرآن إلى فصاحتهم و قاسوا كلامه بكلامهم علموا أنّ المزيّة بينهما إنّما تظهر لهم دون غيرهم ممّن نقص عن طبقتهم و نزل عن درجتهم، و دون النّاس جميعا ممّن لا يعرف الفصاحة و لا يأنس بالعربيّة.

و كان ما عليه ذوو المعرفة بفصيح الكلام من أهل زماننا- من خفاء الفرق عليهم بين مواضع من القرآن و بين فقر العرب البديعة و كلمهم العربيّة- سابقا عندهم، متقرّرا في نفوسهم، فأيّ شي ء قعد بهم عن أن يعمدوا «1» إلى بعض أشعارهم الفصيحة و ألفاظهم المنثورة البليغة فيقابلوه به، و يدّعوا أنّه مماثل لفصاحته و زائد عليها، لا سيّما و خصمنا في هذه الطّريقة يدّعي أنّ التحدّي وقع

______________________________

(1) في الأصل: يعتمدوا، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 94

بالفصاحة دون النّظم و غيره من المعاني المدّعاة في هذا الموضع؟! فسواء حصلت المعارضة بمنظوم الكلام أو بمنثوره، فمن «1» هذا الّذي كان يكون الحكم في هذه الدّعوى، و جماعة الفصحاء أو جمهورهم كانوا حرب

النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من أهل الخلاف لدعوته و الصّدود عن محجّته؛ لا سيّما في بدو الأمر و أوّله، و قبل أوان استقرار الحجّة و ظهور الدّعوة و كثرة عدد الموافقين، و تظافر الأنصار و المهاجرين؟

و لا تعمل إلّا على هذه الدّعوى، (لو حصلت لردّها) «2» بالتّكذيب من كان في حرب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الفصحاء، أما كان اللّبس يحصل، و الشّبهة تقع لكلّ (من لم يساوها، و لا في المعرفة) «3» من المستجيبين للدّعوة و المنحرفين عنها من العرب، ثمّ لطوائف النّاس جميعا، كالفرس و الرّوم و التّرك، و من ماثلهم ممّن لا حظّ له في العربيّة؟

و عند تقابل الدّعاوى في وقوع المعارضة موقعها، و تعارض الأقوال في الإصابة بها مكانها، تتأكّد «4» الشّبهة، و تعظم المحنة، و يرتفع الطّريق إلى إصابة الحقّ؛ لأنّ النّاظر إذا رأى جلّ الفصحاء- و أكثرهم يدّعي وقوع المكافاة «5» و المماثلة، و قوما منهم ينكر ذلك و يدفعه- كان أحسن أحواله أن يشكّ في القولين، و يجوّز [على] كلّ واحد منهما «6» الصّدق و الكذب؛ فأيّ شي ء يبقى من

______________________________

(1) في الأصل: و من، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) كذا في الأصل، و لعلّه: و لو حصلت و ردّها.

(3) كذا في الأصل.

(4) في الأصل: ممّا تتأكّد، و المناسب ما أثبتناه.

(5) أي المساواة.

(6) في الأصل: منهم، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 95

المعجز بعد هذا؟! و الإعجاز لا يتمّ إلّا بالقطع على تعذّر المعارضة على القوم، و قصورهم عن المماثلة أو المقاربة.

و التّعذّر لا يعلم إلّا بعد حصول العلم بأنّ المعارضة لم تقع مع توفّر الدّواعي و قوّة

الأسباب؛ فكانت حينئذ لا تقع الاستجابة من عاقل، و لا المؤازرة من متديّن.

و ليس يحجز العرب عمّا ذكرناه ورع و لا حياء؛ لأنّا وجدناهم لم يرعووا عن السّبّ و الهجاء، و لم يستحيوا من القذف و الافتراء. و ليس في ذلك ما يكون حجّة و لا شبهة، بل هو كاشف عن شدّة حنقهم، و قوّة عداوتهم، و أنّ الحيرة قد بلغت بهم إلى استحسان القبيح الّذي كانت نفوسهم تأباه و تعافه، و طباعهم تشنأه و تنفر منه! و أخرجهم ضيق الخناق و قصر الباع إلى أن أحضر أحدهم «1» أخبار رستم و اسفنديار «2»، و جعل يقصّ بها، و يوهم النّاس أنّه قد عارض، و أنّ المطلوب بالتحدّي هو القصص و الأخبار!

______________________________

(1) هو النضر بن الحارث بن علقمة القرشيّ، من شخصيّات قريش و شجعانها في الجاهليّة، و ابن خالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. كان من ألدّ خصوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الإسلام، يقال إنّه كان مطّلعا على كتب الفرس و تواريخهم، حيث كان أكثر تجارته من بلاد فارس، فكان يسمع أخبار الفرس و تواريخهم فيقصّها و يرويها لقريش، و يقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد و ثمود، و أنا أحدّثكم بحديث رستم و اسفنديار و أخبار الأكاسرة، فكانوا يستملحون حديثه و يتركون استماع القرآن. و قد نزلت في حقّه عدّة آيات تذمّه و تردّ عليه. قتله أمير المؤمنين عليه السّلام يوم بدر صبرا.

(2) أمّا رستم فهو ابن دستان، من شجعان فارس المشهورين و من قادة جيوش الأكاسرة، و أمّا اسفنديار فهو من ملوك بلاد فارس. و يعدّان من شخصيات الفرس الأسطورية، و قد خلّد الشاعر الفارسي أبو القاسم

الفردوسيّ الطوسيّ ذكر وقائعهما و حروبهما في ملحمته العالميّة الخالدة المسمّاة ب (شاهنامه).

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 96

و ليس يبلغ بهم الأمر إلى هذا و هم متمكّنون ممّا يوقع الشّبهة، و يضعف أمر الدّعوة، فيعدلوا عنه مختارين، و أحلامهم و إن وفرت، و عقولهم و إن كملت، و ادّعي أنّها تمنع أمثالهم من الإقدام على المباهاة، و التّظاهر بالمكابرة، و ادّعاء ما تشهد أنفسهم ببطلانه، و توقن قلوبهم بفساده؛ فإنّ الحال الّتي دفعوا إليها حال تيسّر العسير، و تصغّر الكبير. و من أشرف على الهوان بعد العزّة و القصور بعد القدرة خفّ حلمه، و عزب «1» علمه، و ركب ما كان لا يرتكبه، و أقدم على ما كان لا يقدم عليه.

و ليس يمكن أحدا أن يدّعي أنّ ذلك ممّا لم يهتد إليه العرب، و أنّه لو اتّفق خطوره ببالهم لفعلوه، غير أنّه لم يتّفق؛ لأنّهم كانوا من الفطنة و اللّبابة على ما لا يخفى عليهم معه أنفذ الكيدين، و ألطف الحيلتين، فضلا عن أن يذهبوا عن الحيلة و هي بادية، و يعدلوا عن المكيدة و هي غير خافية.

هذا، مع صدق الحاجة و قوّتها، و ضيق الحال و شدّتها، و الحاجة تفتق الحيلة، و تبدي المكنون، و تظهر المصون.

و هب لم يفطنوا لذلك بالبديهة و قبل الفكرة، كيف لم يقعوا عليه مع التغلغل، و يظهروا به مع التّوصّل؟! و كيف لم يتّفق لهم مع فرط الذّكاء و جودة الآراء، من الكيد إلّا أضعفه، و من القول إلّا أسخفه؟! و هذا من قبيح الغفلة الّتي يتنزّه القوم عنها، و وصفهم اللّه تعالى بخلافها.

و ليس يرد مثل هذا الاعتراض من موافق في إعجاز القرآن، و

إنّما يصير إليه من خالفنا في الملّة، إذا بهرته الحجّة و أعجزته الحيلة، فيرمي العرب بالبله و الغفلة، و يقول: لعلّهم لم يعلموا أنّ المعارضة أنجع و أنفع، و طريق الحجّة

______________________________

(1) أيّ بعد.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 97

أصوب و أقرب؛ لأنّهم لم يكونوا أصحاب نظر و فكر! و إنّما كانت الفصاحة صنعتهم، و البلاغة طريقتهم، فعدلوا إلى الحرب الّتي هي أشفى للقوم، و أحسم للطّمع.

و هذا الاعتراض إذا ورد علينا، كانت كلمة جماعتنا واحدة في ردّه، و قلنا في جوابه: إنّ العرب و إن لم يكونوا نظّارين، فلم يكونوا غفلة مجانين، و في العقول كلّها- وافرها و ناقصها- أنّ مساواة المتحدّي في فعله و معارضته بمثله، أبلغ في الاحتجاج عليه من كلّ فعل، و أقوى في فلّ غربه «1» من كلّ قول.

و ليس يجوز أن تذهب العرب الألبّاء، عمّا لا يذهب عنه العامّة الأغبياء! و الحرب غير مانعة من المعارضة، و لا صارفة عن المقابلة. و قد كانوا يستعملون في حروبهم من الارتجاز ما لو جعلوا «2» مكانه معارضة القرآن كان أنفع لهم، و أجدى عليهم. مع أنّه قد تقدّم قبل أوان الحرب من الزّمان ما يتّسع بعضه للمعارضة، إن كانت الحرب شغلت عنها، و اقتطعت دونها.

و هذا بعينه كاف في جواب من يعدّ كفّهم عن المعارضة بما يقارب و يقع به اللّبس على غيرهم؛ لأنّهم لم يفطنوا لذلك و لم يتنبّهوا عليه، و لأنّ الحرب كانت عندهم أولى و أحرى.

على أنّهم لو قدّموا المعارضة أمام الحرب، و جعلوها مكان الهجاء و السبّ، لم يجتمع بإزائهم من يحتاجون إلى محاربته و يجتهدون في مغالبته، و لاستغنوا بها عن جميع ما تكلّفوه من

التعب، أو أكثره.

و في إطباق الكلّ على الإمساك عن المعارضة أكبر دليل على أنّهم عنها مصروفون، و عن تعاطيها مقتطعون.

______________________________

(1) فلّ غربه: أي ثلم حدّ سيفه، و التعبير مجازيّ، و يقصد به إفحامه.

(2) في الأصل: جعلوه، و الأنسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 98

و إنّما لم نذكر جميع ما يمكن الاعتراض به في هذا الدّليل، مثل قولهم:

فلعلّ العدول عن المعارضة، إنّما كان لاستصغارهم أمره، و استبعادهم تمام مثله، و أنّ الأمر لمّا استفحل و انتظم و تكاثر الأعوان و الأصحاب، علموا أنّ المعارضة لا تغني، و أنّ الحرب أنجز، فصاروا إليها. أو لأنّهم علموا زيادة كلامهم على كلامه، في معنى الفصاحة، و فضله في الجزالة، و أنّ بينهما من ذلك ما لا يكاد يخفى على أحد من الفصحاء. و رأوا من إقدامه على تحدّيهم و تقريعهم ما رأوا معه أنّ الحزم في الإمساك عنه و العدول عن مقابلته، كما يفعل أهل التّحصيل [مع] من تحدّاهم و قرّعهم بما لا يشتبه على أحد فضلهم فيه و تقدّمهم له؛ لو لا أنّهم أشفقوا من أن يعارضوه فيحصل الخلاف و التّجاذب في المساواة بالمعارضة أو المقاربة، و يتردّد في ذلك الكلام، و يمتدّ الزّمان، فتقوى شوكته و تكثر عدّته، فخرجوا إلى الحرب لقطع المادّة، أو لأنّهم علموا أنّ المعارضة إنّما تمكن «1» من علم فيها المماثلة أو المقاربة، و هم العدد اليسير، إذا أنصفوا أيضا من نفوسهم، و لم يتّبعوا أهواءهم.

فأمّا طوائف المتّبعين و عامّة المستجيبين الّذين بهم النّصرة و فيهم الكثرة، ممّن لا يعلم المفاضلة بين الفصاحتين؛ فإنّ المعارضة لا تكفّهم و لا يرفعون بمثلها رأسا؛ لأنّهم لم يستجيبوا بالحجّة، فتشكّكهم الشّبهة. و

إنّما انقادوا بالتّقليد و حسن الظنّ، أو لبعض أغراض الدّنيا. و مثل هؤلاء لا يفزع فيهم إلّا إلى السّيف؛ لأنّ هذه الاعتراضات و ما ماثلها متى صحّت، قدحت في أنّ ترك القوم للمعارضة المؤثّرة، إنّما كان للتّعذّر.

و إنّما وجّهنا دليلنا هذا إلى من يعترف معنا بأنّ هذه المعارضة لم تقع، و أنّها لم

______________________________

(1) في الأصل: ينبئ، و لعلّ المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 99

تقع للتعذّر دون شي ء من هذه الأعذار المدّعاة. و كان ما قصدنا «1» به إلى التعذّر إنّما هو للصّرفة لا لفرط الفصاحة، فليس يجوز أن تتعلّق بشي ء من ذلك و تجعله عذرا في ترك المعارضة الّتي ألزمنا وقوعها من يخالف في الصّرفة، و يوافق في جملة إعجاز القرآن، لأنّه راجع عليه و عائد إليه.

و الجواب عن هذه الشّبهة مستقصى في الكتب، و قد مضى في أثناء كلامنا في هذا الدليل ما إن حصّل أمكن أن تسقط به جميع هذه الشّبهات و نظائرها.

فإن قال قائل: إنّ العرب كانوا يعلمون ضرورة فرق ما بين فصيح كلامهم و فصاحة القرآن، فكيف تدّعون مع ذلك- في شي ء من كلامهم- أنّه مساواة، و الجمع الكثير من العقلاء لا يجوز عليهم ادّعاء ما يضطرّون إلى بطلانه، و إنكار ما يضطرّون إلى صحّته؟! و لو جاز على الجماعات مثل هذا لم ننكر أن يسأل إنسان بمدينة السّلام عن الجسر «2»، و يسترشد إليه، فيخبره جميع أهلها أو جمهورهم بأنّه في خلاف جهته، أو يجحدونه وجود الجسر جملة! و إذا استحال هذا فالأوّل مثله.

قيل له: هذه الدّعوى على النّاس الّتي ذكرتها، من المتكلّمين، و جعلوها أسّا و عمادا، و هي مع ذلك غير صحيحة، و

لا خافية الفساد.

و ليس يمتنع أن يجتمع العقلاء الكثيرون على إنكار ما يعلمونه ضرورة، و الإخبار بما يعلمون خلافه ضرورة، إذا اجتلبوا بذلك نفعا، أو دفعوا به ضررا. لأنّا

______________________________

(1) في الأصل: قصدنا، و الظاهر ما أثبتناه.

(2) يشقّ نهر دجلة مدينة السّلام بغداد و يجعلها نصفين: الكرخ في الجانب الغربيّ، و الرصافة في الجانب الشرقيّ، و يربط الجانبين جسر ورد ذكره في كتب التاريخ و الخطط، هو الذي أشار إليه عليّ بن الجهم في رائيّته المشهورة:

عيون المها بين الرّصافة و الجسرجلبن الهوى من حيث أدري و لا أدري

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 100

نعلم أنّ بعض السّلاطين الظّلمة لو بحث عن أموال رعيّته، و أراد معرفة أحوالهم، ليغلبهم عليها و يسلبهم، فاستدعى أهل بلدة و فيهم الكثرة الّتي تمنع من التواطؤ، ثمّ سأل كلّ واحد منهم على انفراد عن حاله فطالبه بماله، لكذّبه فيه، و لما صدقه عنه، و لامتنع من دلالته عليه و إرشاده إليه. و هو يعلم مكانه و يقف على مبلغه، و لكان شحّ القوم بالمال و إشفاقهم عليه يقوم مقام التواطؤ و الاتّفاق.

إلّا أنّه ليس يجوز- قياسا على ذلك- أن يخبروا بخبر واحد له صيغة واحدة، من غير مواطأة؛ لأنّ العادة تفرّق بين الأمرين لكذبه «1»، و توجب حاجة أحدهما إلى المواطأة، و استغناء الآخر عنها.

و في هذا كلام كثير قد أحكمه أصحابنا الإماميّة في مواضع، و فرّقوا بين الكتمان و الإخبار، و ما يحتاج من ذلك إلى تواطؤ و ما لا يحتاج، فلذلك اقتصرنا على هذه الجملة، و هي كافية.

و ليس لأحد أن يقول: إنّما جاز ما ذكرتموه في الجماعة الّتي يسألها «2» السّلطان عن أموالها، فتكتمها، أو

تدّعي فيها ما يعلم خلافه؛ لأنّ كلّ واحد منهم يخبر عن ماله، فإذا كذب في الخبر عنه فإنّما كذب في غير ما كذب الآخر فيه.

و مخبرات أخبارهم مختلفة، و إذا اختلفت جاز هذا فيها، و فارقت الإخبار عن الشّي ء الواحد و كتمانه.

و ذلك أنّ هذا الاستدراك لا يغني في دفع كلامنا؛ لأنّه كان يجب أيضا أن يدّعي كلّ واحد من الفصحاء في بعض الكلام أنّه معارضة للقرآن، و يكون ما يدّعي الواحد منهم أنّه معارضة غير الّذي ادّعى الآخر ذلك فيه. و لا يمنع كثرتهم من هذه الدّعوى؛ لأنّهم لم يخبروا عن شي ء واحد.

______________________________

(1) كذا في الأصل، و الظاهر وجود اضطراب في هذا الموضع.

(2) في الأصل: يسلبها، و ما أثبتناه هو المناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 101

على أنّه لو قدّرنا أنّ بين الجماعة الّتي وصفنا حالها و كثرتها نبيّا أو رجلا صالحا يتّفقون على ولايته و تعظيمه، و يتديّنون بدفع المكاره عنه، و أنّ بعض الظّالمين جمعهم و سألهم عن مكانه، و غلب في ظنونهم أنّهم إن دلّوه على موضعه قتله، لعلمنا أنّهم لا بدّ أن ينكروا معرفة مكانه، و يمتنعوا من الإرشاد إليه؛ و إن قوي في نفوسهم أنّ النّبيّ أو الصّالح لا ينجو من يد هذا الظّالم، و أنّه لا ينتهي عن البحث عنه و التنقير «1» عن مكانه إلّا بأن يخبروه بأنّه قد خرج عن بلدهم و بعد عنهم، لم يمتنع أيضا أن يخبره الجماعة بذلك.

فقد جاز على الجماعة الكثيرة أن تدّعي في الشّي ء الواحد ما يعلم خلافه، و تكتم الشّي ء الواحد الّذي يقف على مكانه.

فأمّا التشنيع بكتمان الجسر فإنّما يبعد كتمان مثله؛ لأنّه لا داعي يدعو إليه،

و لشهرة مكان الجسر أيضا، و أنّه ممّا يظهر عليه بأهون سعي و أيسر أمر، و لكثرة عدد المخبرين عنه و العارفين به. و ما يكون الكتمان نافيا لخبره و ماحيا لأثره ليس كذلك.

و لكن ليس ينكر أن يكون لأهل البلد في أحد جانبيه ذخائر جمّة و ودائع و تجارات كثيرة و بضائع، و يقصدهم من الجانب الآخر بعض الجائرين؛ فيسألهم عن مكان الجسر ليعبر عليه، فيحوز أموالهم. و هم يعلمون أنّ سؤاله لذلك لا لغيره، و أنّه لا يجد مخبرا عن الجسر سواهم، و ليس ممّن يطول مقامه بينهم فيقف على مكانه بنفسه أو ببعض أصحابه، فلا بدّ أن يتلقّوه «2» جميعهم بالجحود و الإنكار، سواء أفرد كلّ واحد منهم بالسؤال أو ضمّه إلى غيره. بل هؤلاء و حالهم هذه ملجئون إلى الكتمان و ترك الاعتراف.

______________________________

(1) نقرت عن الأمر: إذا بحثت عنه.

(2) في الأصل: أن يتلقّاهم، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 102

و إذا جاز هذا على الجماعات الكثيرة على وجه من الوجوه، فقد بطل ما اعترض به السّائل و زالت شناعته.

و بعد، فقد قال القوم للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو نشاء لقلنا مثل هذا؛ و هم يعلمون من أنفسهم ضرورة خلاف ذلك، و يعلمون أيضا أنّ كلّ سامع لهذا الكلام من الفصحاء يعلم كذبهم فيه، و لم يمنعهم- و هم كثير- العلم الضّروريّ من ادّعاء خلافه، فكذلك [لم] يمنعهم علمهم بفضل فصاحة القرآن على فصاحتهم من أن يدّعوا في بعض كلامهم أنّه مماثل له. بل إذا جاز عليهم الأوّل- و ليس ممّا يدخل به شبهة على أحد- كان الثّاني أولى بالجواز و أحرى، و هو ممّا

يوقع كلّ شبهة و يوجب كلّ شكّ. و هذا بيّن لناظر.

فإن قال: هذا القول- و هو: لو نشاء لقلنا مثل هذا- إنّما قاله «1» أميّة بن خلف الجمحيّ «2»، و الواحد يجوز عليه الإخبار بما يضطرّ إلى خلافه، إذا فرط غضبه و قويت عصبيّته. و ليس كذلك الجماعات الكثيرة، و كلامنا إنّما هو على جميع الفصحاء الّذين لا يجوز هذا عليهم! قيل له: إن كان قائل هذا هو أميّة بن خلف الجمحيّ- حسب ما ذكرت- فما رأينا أحدا من الفصحاء كذّبه و لا بكّته «3»، و قد سمعوا كلامه و اتّصل بهم! و الإمساك في مثل هذا الموضع و إظهار الرّضا يقوم مقام المشاركة في الدّعوى و التّصديق لها، فألّا وقعت المعارضة أيضا من أحدهم لقوّة الغضب

______________________________

(1) في الأصل: قال.

(2) هو أميّة بن خلف بن وهب الجمحيّ القرشيّ، من سادات قريش و جبابرتها في الجاهليّة، و أحد رءوس الشكّ و الضلال الذين عارضوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حاربوه إيذاء و تكذيبا و سخرية و تعذيبا للمسلمين. شارك في وقعة بدر فأسر، و تولّى قتله بلال و خبيب.

(3) بكّته: عيّره و قبّح فعله.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 103

و العصبيّة؟ فإنّ جميع الفصحاء حينئذ كانوا يمسكون عن تكذيبه و الرّدّ عليه، و يظهرون الرّضا بفعله و التّصديق لقوله، كما أمسكوا عن أميّة بن خلف و هم مضطرّون إلى تكذيبه و بهته.

و بعد، فلم يلزم أن تقع المعارضة من سائر الفصحاء حسب ما ظننت، و إنّما ألزمنا وقوعها في الجملة.

و خصومنا- إن أحالوا على الجمع الكثير الّذين لا يجوز عليهم التّلاقي و التواطؤ و الإخبار بما يضطرّون إلى بطلانه- فهم يجيزون ذلك

على النّفر و الجماعة الّتي يصحّ في مثلها التواطؤ، فكيف لم تقع المعارضة من عدّة هذه صفتهم؟

فإن عاد السّائل إلى أن يقول: لو عارض مثل هؤلاء بما لا يماثل في الحقيقة، لما وافقهم الباقون من الفصحاء، و لا أمسكوا عن تكذيبهم! قلنا لهم: فقد أظهروا موافقة أميّة بن خلف الجمحيّ و أمسكوا عن تكذيبه، اللّهمّ إلّا أن تريد ما كان يمسك عنهم من كان في جهة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فهذا ما قدّمنا فيه التّماثل.

على أنّا لو طالبناك- أيّها السّائل- بالدّلالة على أنّ عدّة الفصحاء الّذين يعلمون فضل فصاحة القرآن على فصاحتهم و خروجه عن عادتهم، كانت في ذلك الوقت كثيرة، يستحيل في مثلها التواطؤ؛ لأتعبناك أو أعجزناك؛ لأنّ الفصحاء و إن علمنا وفورهم في أزمان التحدّي و ظهورهم، فليس كلّ من جاد في الفصاحة طبعه، و علت منزلته، و تصرّف في النّثر و النّظم، يجب أن يعلم ما ذكرناه؛ لأنّا نرى في زماننا و فيما تقدّمه، من هذه صفته، و هو لا يفرّق بين مواضع من القرآن، و فصيح كلام العرب في الفصاحة. و ما لا يزال يقال في مثل هذا من أنّ أولئك كانوا على الفصاحة مطبوعين و من عادتهم لها مكتسبين، لا يغني شيئا.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 104

لأنّ القوم و إن كانوا مطبوعين على الفصاحة، فقد كانوا يتفاضلون فيها تفاضلا شديدا؛ فليس ينكر أن ينتهي بهم التفاضل إلى أن يكون الفاضل منهم هو الّذي يعلم مزيّة فصاحة القرآن و فضيلته، و المفضول لا يعلم ذلك و إن كان مطبوعا. و كما افترقوا في المنزلة و الطبقة مع اتّفاقهم في الطّبع، و كذلك يفترقون في هذه المعرفة

و إن اتّفقوا في الطّبع.

فإن قال: فلعلّ أميّة بن خلف لم يرد بقوله: «لو نشاء لقلنا مثل هذا» المماثلة في الفصاحة، و إنّما أراد مثله في بعض الوجوه الّتي يتمكّن فيها من مساواته، و هذا يسقط الاحتجاج بقوله.

قيل له: كيف يريد ذلك و هو يعلم ضرورة- و كلّ من سمع التّحدّي أو اتّصل به خبره- الفرض فيه، و أنّهم دعوا إلى الإتيان بمثل القرآن في الفصاحة، أو في النّظم و الفصاحة معا، حسب ما نصرناه؟

و هذا القول إنّما وقع منه عند التقريع بالقرآن و المطالبة بفعل مثله، فليس يكون إلّا مطابقا لمعنى التحدّي.

و لئن جاز أن يورد ذلك على سبيل التّمويه و التلبيس- فيطلق هذا اللّفظ الّذي ظاهره يدلّ على ادّعاء التمكّن من الإتيان بمثله في الوجه الذي وقع التّحدّي به- و لا يريد هذا بل يضمر شيئا آخر، ما اقتضاه التحدّي أيضا أن يدّعي هو أو غيره من العرب- في بعض الكلام الفصيح- أنّه معارضة للقرآن؛ و إن لم يكن مماثلا في الحقيقة و لا مقاربا. و يضمر أنّ ما ادّعى ذلك فيه مثل للقرآن من بعض الوجوه الّتي يساوي القرآن فيها غيره من الكلام، ممّا لم يتوجّه التحدّي و التقريع به.

و قد فعل قريبا من هذا النّضر بن الحارث؛ فإنّه ادّعى معارضة القرآن بأخبار رستم و اسفنديار، و أوهم أنّ التحدّي وقع بالقصص و الإخبار عن الأمم السّالفة و القرون الغابرة، و لم يمنعه علمه- بأنّ الّذي أتى به ليس بمعارضة عند أحد من

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 105

الفصحاء- من الإقدام على دعواه.

و إذا جاز أن يعارض النضر بن الحارث بما ليس بمعارضة للقرآن عند أحد من العقلاء- فصيحا كان

أو أعجميّا- من حيث لم يطابق ما أتى به من معنى التحدّي المعلوم ضرورة، جاز أيضا أن يعارض غيره من القوم ببعض الشّعر الفصيح أو الكلام البليغ، و يدّعي فيه المماثلة في الوجه المقصود بالتحدّي، و يكون هذا المعارض أعذر عند النّاس من النضر بن الحارث، و أمره أقرب إلى اللّبس و الاشتباه؛ لأنّ بهته و كذبه لا يظهر إلّا لأهل الطّبقة العليا في الفصاحة أو لجماعتهم، حسب ما يقترحه خصومنا.

و النّصر بن الحارث كذبه ظاهر لكلّ من عرف الغرض بالتحدّي بالقرآن، و هم العرب و العجم جميعا. و هذا يؤكّد القول بالصّرفة و يوضحه.

فإن قال: كيف لم يصرف النّضر بن الحارث عمّا ادّعاه من المعارضة، و صرف غيره من الفصحاء؟

قيل له: هذا ممّا قد تقدّم الجواب عنه، عند الاعتراض بمسيلمة.

و إنّما صرف عندنا عن المعارضة من يحصل بمعارضته بعض الشّبهة. و لهذا لم يمكّن أحد من الفصحاء من معارضته، ممّا له مع طريقته في النّظم أدنى فصاحة، من حيث جاز أن يقع عند ذلك الشّبهة لمن لا قوّة له في العلم بالفصاحة.

فأمّا من لا شبهة على أحد بمعارضته و لا شكّ لعاقل في أمره، فليس في صرفه فائدة، بل تمكينه من فعله برهان على أنّ غيره مصروف عن المعارضة، إذ لو كانت حاله في التخلية كحالة لساواه في الإتيان بالمعارضة.

و قد قلنا في الردّ على من ذهب في إعجاز القرآن إلى خرق العادة بفصاحته، و نسب تعذّر المعارضة إلى أنّ اللّه تعالى لم يجر العادة بفعل العلوم الّتي يتمكّن بها من مثله، قولا كافيا. و أوردنا على أنفسنا من الزيادات و المسائل ما لا نشكّ في

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 106

أنّه

لم يخطر لأحد من أهل هذا المذهب ببال.

و الحقّ- بحمد اللّه- لا يزداد على البحث و شدّة الفحص إلّا قوّة و وضوحا، و الباطل لا يلبث أن ينهتك ستره، و يظهر أمره.

و نحن الآن رادّون على المذاهب الأخر الّتي حكيناها، ليخلص القول بالصّرفة، و تكمل في صحّته الحجّة، و من اللّه تعالى نستمدّ المعونة و حسن التّوفيق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 107

[مذهب جماعة المعتزلة]

[إعجاز القرآن في نظمه]

أمّا المذهب الذي حكاه أبو القاسم البلخيّ «1» عن جماعة المعتزلة، و قوّاه و نصره من أنّ نظم القرآن و تأليفه يستحيلان من العباد، كاستحالة إحداث الأجسام، و إبراء الأكمه و الأبرص. و لو لا ذلك لجاز أن يلحق هذا القول بالمذهب الأوّل، و إن كان لم يصرّح به؛ لأنّ من بدأنا بذكرهم لا يمتنعون من القول بأنّ القرآن غير مقدور للعباد، على التأويل الصّحيح. و هم أيضا يدفعون أن يكون هناك منع، أو عجز عن المعارضة- حسب ما حكى أبو القاسم- غير أنّ التأكيد بالمقال الّذي ذكره يمنع من ذلك «2».

و الّذي يبطل هذا المذهب: أنّ القرآن لا نظم له و لا تأليف على الحقيقة، و إنّما

______________________________

(1) هو أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد الكعبيّ البلخيّ، أصله من بلخ- مدينة في خراسان القديمة و افغانستان الحاليّة- عاش ببغداد و تتلمذ بها على أبي الحسين الخيّاط مدّة طويلة. يعدّ من منظّري المعتزلة و أئمّتها، له آراء خاصّة و تلاميذ و أتباع عرفوا باسم (الكعبيّة)، و له مصنّفات في الدفاع عن مذهبه و آرائه. توفّي ببلخ سنة 317 أو 319 ه.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 400: «و أمّا مذهب البلخيّ فباطل؛ لأنّه قال: إنّ نظم القرآن و تأليفه

مستحيلان من العباد، كاستحالة إحداث الأجسام، و إبراء الأكمه و الأبرص».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 108

تستعار هذه اللّفظة في الكلام من حيث حدث بعضه في إثر بعض، فشبّه لذلك بتأليف الجواهر.

و إذا لم يكن في الكلام معنى زائد على ذوات الحروف، فكيف يصحّ أن تتعلّق به قدرة أو عجز، حتّى يقال: إنّ تأليف القرآن يستحيل من العباد كاستحالة كذا و كذا؟ «1» فأمّا الحروف فهي- أجمع- في مقدورنا، و من قدر على بعض أجناسها فلا بدّ أن يكون قادرا على سائرها.

و الكلام كلّه- فصيحه و أعجميّه- يتركّب من حروف المعجم الّتي يقدر على جميعها كلّ قادر على الكلام. و إذا كانت ألفاظ القرآن غير خارجة عن حروف المعجم الّتي نقدر عليها، لم يصحّ قول من جعله مستحيلا منّا كاستحالة الأجسام و غيرها من الأجناس الّتي لا يقدر المحدثون عليها! «2» فإن قال قائل: ما أنكرتم أنّ المراد بقول من جعل النّظم مستحيلا منّا، غير ما ظننتموه من أنّ هناك معنى غير الحروف، حسب ما يجب في تأليف الجواهر، و أن يكون المراد بذلك وقوعه على هذا الترتيب.

و هذا الوجه من الفصاحة هو المستحيل منّا، من غير إشارة إلى نظم في الحقيقة- هو غيره- أو تأليف، و لذلك تعذّر «3» الشّعر على المفحم، و الفصاحة

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 400: «و إذا كان القرآن لا نظم له على الحقيقة و لا تأليف، و إنّما يستعار فيه هذا اللفظ من حيث حدث بعضه في إثر بعض، تشبيها بتأليف الجواهر، فكيف يصحّ أن يقال تأليف القرآن مستحيل؟!».

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 400: «و أمّا الحروف: فهي كلّها في مقدورنا،

و الكلام يتركّب من حروف المعجم التي يقدر عليها كلّ قادر على الكلام. و ألفاظ القرآن غير خارجة من حروف المعجم التي يقدر عليها كلّ متكلّم».

(3) في الأصل: ما تعذّر، و هو غير مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 109

على الألكن، و إن كانا قادرين على جميع أجناس الحروف «1».

و لو كان ما ذكرتموه- من أنّ الحروف إذا كانت مقدورة لكلّ أحد و لم يرجع بالكلام إلّا إليها، فيجب أن يكون جميع ضروبه مقدورة- صحيحا لوجب أن لا يتعذّر الشّعر على ناطق، و لا الكلام الفصيح على متكلّم، و قد علمنا خلاف ذلك.

قيل له: إذا كان المراد بالنّظم و التأليف ما ذكرته و نشرته فهو صحيح غير مدفوع، و الذي أنكرناه غيره.

و قد قلنا في كلامنا: إنّ النّظم يستعمل في الكلام، و يراد به توالي حروفه.

و قد يقال: إنّ نظم الشّعر مخالف لنظم [النّثر] «2»، بمعنى أنّ حدوث كلمات كلّ واحد منهما- في التقدّم و التأخّر و الترتيب- يخالف الآخر، إلّا أنّ ذلك لا يوجب كون نظم القرآن على هذا التفسير مستحيلا من العباد و غير مقدور لهم؛ لأنّ من يقدر على الحروف هو قادر على تقديم إحداثها و تأخيره، و ضمّ بعضها إلى بعض و تفريقه.

و إنّما يتعذّر ذلك على من يتعذّر عليه لفقد العلم بكيفيّة تقديم بعض الحروف على بعض الوجوه «3» الّتي إذا حدثت عليها كان الكلام شعرا أو خطابة، أو غير ذلك.

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 401: «و ليس لهم أن يقولوا: إنّ مرادي بالنظم و التأليف هو الترتيب و الفصاحة اللذان وقع القرآن عليهما، من غير إشارة إلى تأليف كتأليف الأجسام. و أن يكون

تعذّره كتعذّر الشعر على المفحم، و الفصاحة على الألكن؛ و إن كانا قادرين على أجناس الحروف».

(2) سقطت من الأصل، و أضفناها لاقتضاء السياق.

(3) غير واضحة في الأصل: فقد تقرأ: الواجه، أو الوجه. و لعلّ المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 110

يبيّن ما ذكرناه أنّ الأمّيّ يقدر على الكتابة؛ لأنّ الكتابة ليست أكثر من حركات يده و اعتماداتها بالآلة، و هو قادر على سائر أجناس الحركات و الاعتمادات، و إنّما يتعذّر عليه الكتابة لفقد العلم.

و تعذّر الشّعر على المفحم و الفصاحة على الألكن من هذا الباب أيضا؛ لأنّ الشّعر لم يتعذّر على المفحم من حيث لم يكن قادرا على حروفه، أو على إحداثها متقدّمة أو متأخّرة حتّى يقع شعرا، و إنّما تعذّر ذلك عليه من حيث فقد العلم بكيفيّة تقديم الحروف و تأخيرها، و ضمّها و تفريقها.

فإن كان المعنى الّذي ذكرناه و فصّلناه «1» هو الّذي عناه أبو القاسم البلخيّ و ذهب إليه، فهو مخالف للفظ حكايته، و ملحق له بالمذهب الّذي رددناه عليه «2».

و قد وجدت له في كتابه الموسوم ب «عيون المسائل و الجوابات» «3»، كلاما في هذا الباب، يدلّ على أنّه أراد شيئا فأساء العبارة عنه، لأنّه قال:

«و احتجّ الّذين ذهبوا إلى [أنّ] نظمه- يعني القرآن- ليس بمعجز، إلّا أنّ اللّه تعالى أعجز عنه- فإنّه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه- بأنّه حروف قد جعل بعضها إلى جنب بعض. و إذا كان الإنسان قادرا على أن يقول: «الحمد»،

______________________________

(1) في الأصل: و فصّلنا، و المناسب ما أثبتناه.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 401: «إذا أردنا ما ذكره [و] فسّره، فقد عبّر عنه بغير عبارته، لأنّ الشعر لا

يتعذّر على المفحم و الفصاحة على الألكن، لأنّ جنسيهما غير مقدور لهما. و إنّما يتعذّر ذلك منهما لفقد العلم بكيفيّة تقديم الحروف و تأخيرها، كما تتعذّر الكتابة على الأمّيّ لفقد العلم لا لفقد القدرة، فقد لحق مذهب أبي القاسم بالمذهب الأوّل الذي أبطلناه، و إن كان أخطأ في العبارة عنه».

(3) يعدّ هذا الكتاب من تراث أبي القاسم البلخيّ المفقود، راجع الفهرست لابن النديم/ 219.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 111

فهو قادر على أن يقول: «للّه» «1»، ثمّ كذلك القول في كلّ حرف. و إذا كان هذا هكذا فالجميع مقدور عليه، لو لا أنّ اللّه تعالى أعجز عنه «2».

ثمّ قال: قيل لهم: أوّل ما في هذا أنّ الأمر لو كان على ما ذهبتم إليه لكان الواجب أن يسخف نظمه، و يجعله أدون ما يجوز في مثله، ليكون العجز عنه أعظم في «3» الأعجوبة، و أبلغ في الحجّة.

ثمّ يقال لهم: و كذلك قول الشّاعر «4»:

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم لا يسألون عن السّواد المقبل إنّما هو حروف، لا يمتنع على أحد من أهل اللّغة أن يأتي بالحرف بعد الحرف منها؛ فقد يجب أن يكون كلّ من قدر على ذلك، فقد يجوز أن يقدر على مثل هذا الشّعر و أن لا يمتنع عليه.

فإن مرّوا على هذا وضح باطلهم، و إن اعتلّوا بشي ء كان مثله فيما تعلّقوا به» «5».

______________________________

(1) في الأصل: اللّه، و المناسب ما أثبتناه وفقا لما في الذخيرة/ 401.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 401: «و وجدت له في كتابه الموسوم- ب (عيون المسائل و الجوابات) ما يدلّ على أنّه أراد غير ما دلّ لفظه الذي حكيناه عليه، لأنّه قال:

و احتجّ من ذهب إلى

أنّ نظم القرآن ليس بمعجز عنه: إلّا أنّ اللّه تعالى أعجز عنه، و أنّه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه؛ بأنّه حروف جعل بعضها إلى جنب بعض، فإذا قدره الإنسان على أن يقول «الحمد» فهو قادر على أن يقول «الحمد للّه»، ثمّ كذلك كلّ حرف».

(3) في الأصل: من، و ما أثبتناه أنسب للسياق.

(4) هو حسّان بن ثابت، و البيت له، راجع ديوانه المطبوع 1/ 74.

(5) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 401: «ثمّ قال البلخيّ، يقال له: و كذلك قول الشاعر:

يعشون حتّى ما تهرّ كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل إنّما هو حروف، لا يمتنع على أحد من أهل اللغة أن يأتي بالحرف منها بعد الحرف، فقد كان يجب أن يكون كلّ من قدر على الحروف لا يمتنع عليه الشعر».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 112

و قد حكينا كلامه على وجهه و بألفاظه، و هو دالّ على أنّ تعذّر مثل القرآن على العرب يجري مجرى تعذّر الشّعر الفصيح على المفحم. و الشّعر الفصيح ليس يتعذّر على المفحم لأنّه مستحيل منه نظمه و ترتيبه، حسب ما ذكرناه.

فإن كان ما يقال في تعذّر الشّعر كقوله «1» هو في تعذّر القرآن فيجب بأن يصرّح بأنّ القرآن إنّما تعذّر لفقد العلم بمثل فصاحته و نظمه، كما صرّح القوم الّذين رددنا عليهم، و لا يعبّر عن ذلك بعبارة تدلّ على خلافه. اللّهمّ إلّا أن يكون يعتقد أيضا أنّ الشّعر مستحيل من المفحم، و هو غير قادر عليه. و يظنّ أنّه يجاب عن اعتراضه بتعذّر الشّعر بمثل هذا؛ فذاك أسوأ لحاله، و أشدّ لتخليطه! فكيف يكون الشّعر مستحيلا من المفحم، و قد يعود المفحم شاعرا، بعد أن كان

مفحما. و لو كان ذلك مستحيلا لما صحّ أن يقدر عليه في حال، كما لا يصحّ أن يقدر على الجواهر و الألوان في حال.

و لو كان الشّعر غير مستحيل من المفحم، لكنّه غير مقدور له لم ينفعه ذلك أيضا في تصحيح كلامه؛ لأنّه لم يرض في القرآن بأن يقول: إنّه غير مقدور، بل زعم أنّه يستحيل كاستحالة إحداث الأجسام منّا، فكيف يحمل تعذّر الشّعر على تعذّر القرآن و يدّعي أنّ ما يعتلّ به في أحد الأمرين يعتلّ بمثله في الآخر، و أحدهما مستحيل، و الآخر جائز و إن كان غير مقدور؟! و لو قيل له في جواب اعتراضه: الشّعر إنّما يتعذّر على المفحم- لا من جهة أنّه يستحيل منه- بل لأنّه غير قادر عليه الآن، و جائز أن يقدره اللّه تعالى عليه في المستقبل، أ ليس ما كان يتمكّن من المقابلة بمثل ذلك في القرآن؟! على أنّا قد بيّنّا قبل حكاية كلامه أنّ المفحم قادر على الشّعر، و أنّ الشّعر ليس

______________________________

(1) في الأصل: بقوله، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 113

بأكثر من حروف يتقدّم بعضها و يتأخّر بعض. و المفحم قادر على جميع ذلك، و إنّما يتعذّر عليه الشّعر لفقد العلم بتقديم هذه الحروف و تأخيرها و ضمّها و تفريقها، كما يتعذّر على الأمّيّ الكتابة لذلك، لا لأنّه ليس بقادر على الحركات و الاعتمادات «1».

و ممّا يكشف عمّا ذكرناه [أنّ] الشّعر لو كان يتعذّر على المفحم، لأنّه [غير] قادر عليه، لم يتأتّ منه على سبيل الحكاية. و في تأتّيه منه- إذا كان حاكيا- دليل على أنّه قادر. و إنّما تعذّر ابتداؤه له لفقد العلم؛ لأنّ ما يتعذّر لارتفاع القدرة عليه

لا يقع على وجه من الوجوه، ما دامت مرتفعة، أ لا ترى أنّ من حلّ إحدى يديه عجز عن الحركة، لا يقع منه تحريك هذه اليد ابتداء و لا احتذاء! «2» و بعد، فهذا القول يؤدّي إلى أنّ جميع الصّنائع و الأفعال الواقعة على الوجوه المختلفة غير مقدورة لمن تعذّرت عليه. و لو صحّ ذلك لارتفع الدّليل على إثبات العالم عالما؛ لأنّا إنّما نستدلّ على إثبات العالم عالما للكتابة و ما شاكلها من الأفعال المحكيّة عن «3» بعض الفاعلين دون بعض مع اشتراك مع تعذّر عليه و من

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 401- 402: «و هذا الكلام يدلّ منه على أنّ تعذّر معارضة القرآن هو جهة تعذّر الشعر على المفحم. و الشعر لا يتعذّر من المفحم، لا لأنّه مستحيل منه، و لا لفقد قدرته عليه. و إنّما يتعذّر لفقد علمه بكيفيّة نظمه و ترتيبه. فإن ارتكب أنّ الشعر مستحيل من المفحم و هو قادر عليه فحش خطأه، و قيل له: قد يعود المفحم شاعرا، و لو كان الشعر يستحيل منه لما جاز أن يقدر في حال من الأحوال عليه.

و قد بيّنا أنّ الشعر ليس بأكثر من حروف تقدّم بعضها على بعض. و جنس الحروف مقدور لكلّ قادر على الكلام من مفحم و غيره، فكيف يكون ذلك مستحيلا؟! و إنّما أوجب تعذّر الشّعر على المفحم فقد العلم بغير شبهة».

(2) يقال احتديت به، إذا اقتديت به في أموره.

(3) في الأصل: المحكمة على، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 114

تأتّى منه في سائر الأوصاف الّتي أحدها كونهما قادرين على الفعل، فلو كان من تعذّر عليه الفعل على بعض الوجوه غير

قادر عليه، نسبنا تعذّره إلى ارتفاع القدرة.

و تأتّيه إلى حصولها لم يفتقر إلى العلم أصلا، و لا كان لنا في إثباته سبيل. و في هذا نقض لأصول التّوحيد و العدل، على سائر المذاهب و جميع الطّرق.

و أمّا قوله: لو كان الأمر على ما ذهبتم إليه لكان الواجب أن يسخف نظمه؛ فقد سألنا أنفسنا عن هذا فيما تقدّم على آكد الوجوه و أبلغها، و استقصينا الجواب عنه.

ثمّ قال أبو القاسم، بعد الكلام الذي حكيناه عنه:

«و يقال لهم: إنّا لسنا ننكر أن يكون اللّه تعالى صرف العرب عن المعارضة بلطف من ألطافه، و إلّا فإنّه لم يكن بعجيب أن يقدم جماعة على أن يأتوا بكلام يقدرون عليه، ثمّ يدّعون أنّه مثل القرآن في نظمه. فأمّا القدرة على مثل القرآن في الحقيقة فالقول فيه ما قلنا».

و هذا اعتراف منه بالصّرفة على بعض الوجوه، و إذعان شطر مذهب القائلين بها. و لو قال في الجميع قولا واحدا، و جعل تعذّر المعارضة على الوجهين جميعا للصّرفة لاستراح من التلزيق «1» الّذي لا يثبت على نظر و لا فحص! و أمّا من ذهب في إعجاز القرآن إلى اختصاصه بنظم مخالف للمعهود فقد تقدّم كلامنا عليهم عند اعتراضنا بمذهبهم على أنفسنا، و بيّنا أنّ التحدّي لو وقع بطريقة النّظم فقط لوقعت «2» المعارضة من حيث كان النّظم لا يصحّ في معناه التّزايد و التّفاضل. و لا وجه يصحّ التحدّي به إلّا السّبق إليه، و دللنا على أنّ السّبق إلى ما يجب وقوع المشاركة فيه لا تأثير له، و مثّلنا ذلك بالسّبق إلى قول الشّعر في

______________________________

(1) لزق، يلزق، لزوقا و تلزيقا: أي فعله من غير إحكام و لا إتقان.

(2) في الأصل: لو وقعت.

الموضح

عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 115

الابتداء، و إلى كلّ عروض من أعاريضه، و أنّه ممّا لا يصحّ ادّعاء الإعجاز به، لأنّ المساواة فيه ممكنة. و دللنا على أنّ طريقة القرآن في النّظم لا يتعذّر احتذاؤها و لو بالكلام الّذي لا فصاحة له و لا فائدة فيه. و أنّه و لو بان من نظوم كلامهم المعهود، فنظمه كالمعهود من حيث تمكّن من مساواته «1». و استقصينا ذلك استقصاء شديدا، و لا طائل في إعادة ما مضى.

و ممّا يبطل هذا المذهب- و إن كان ظاهر البطلان- ما قدّمناه و دللنا على صحّته من أنّ التحدّي وقع بحسب عرف القوم و عادتهم من حيث أطلق اللّفظ به و أحيلوا في معرفة الفرض على ما تقرّر في عادتهم.

و قد علمنا أنّه لا عهد لهم و لا عادة بأن يتحدّى بعضهم بعضا بطريقة نظم الكلام دون فصاحته و معانيه، و أنّ الفصاحة هي المقدّمة عندهم في التّحدّي، و النّظم تابع لها.

و ما نظنّ أنّ مميّزا يخفى عليه أنّ معارضة القرآن لو وقعت بالكلام الّذي لا فصاحة له و لا فائدة لدخل في معنى الهذيان، و [لو كان] له مع ذلك طريقة القرآن في النّظم لكانت غير مؤثّرة و لا واقعة الموقع المبتغى، و أنّ المطلوب بالتحدّي لم يكن هذا المعنى، و أنّ الفصاحة إن لم تكن هي المقصودة بالتحدّي دون غيرها، فلا بدّ من أن تكون مقصودة مع غيرها.

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 402: «أمّا من ذهب الذاهب في جهة إعجاز القرآن إلى النّظم، فربّما فسّر الذاهب إلى هذا المذهب قوله بما يرجع إلى الفصاحة و المعاني دون نفس النظم المخصوص. و من فسّر بما

يرجع إلى الفصاحة، كان قوله داخلا فيما تقدّم فساده. و إن صرّح بأنّه أراد الطريقة و الأسلوب، فقد بيّنا أنّ طريقة النّظم لا يقع فيها تزايد و لا تفاضل، و لا يصحّ التحدّي فيها إلّا بالسبق إليها، و أنّ السبق لا بدّ فيه من وقوع المشاركة بمجرى العادة، و أنّ كلّ نظم من النظوم لا يعجز أحد عن احتذائه و مساواته، و إن كان بكلام قبيح خال من فصاحة. و مضى من هذا ما فيه كفاية».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 116

و هذا المذهب إنّما يكون منفصلا ممّا تقدّم من المذهبين إذا عنى الذاهبون إليه بنظم القرآن طريقته في النظم التي بان بها «1» من الشّعر المنظوم و ضروب الكلام المنثور «2». كما نقول إنّ نظم الشّعر مفارق لنظم الخطب، و نظم الخطب مخالف لنظم الرّسائل، و لا نعني بذلك الفصاحة، و لا ما يتعلّق بالمعاني.

فأمّا إن هم عنوا بذلك الفصاحة، أو ما يرجع إلى معنى الفصاحة، بطل تمييز مذهبهم ممّا حكيناه و لحق بالمذهب الأوّل إن ذهبوا إلى أنّ تعذّره لفقد العلم لا لفقد القدرة، و بالمذهب الثّاني إن ذهبوا إلى استحالته على كلّ وجه، على حدّ ما حكاه البلخيّ عن نفسه و أصحابه.

[إعجاز القرآن في إخباره عن الغيوب]

و أمّا من جعل وجه إعجازه اختصاصهم بالإخبار عن الغيوب:

فإنّ قولهم يصحّ إذا ذهبوا إلى أنّ ذلك أحد وجوه جملة إعجاز القرآن، و ضرب من ضروب دلائله على النّبوّة؛ لأنّا لا ندفع هذا و لا ننكره، و هو من وجوه دلائل القرآن المذكورة، و جهات إعجازه الصّحيحة.

فأمّا إن أرادوا اختصاصه بالإخبار عن الغيوب هو الوجه الّذي كان منه معجزا أو دالّا، و أنّه لا يدلّ من غيره على

النبوّة، و أنّ التحدّي به وقع دون ما عداه؛ فذلك يبطل من وجوه «3».

______________________________

(1) في الأصل: أنّها، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: المنثورة، و الظاهر ما أثبتناه.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 402: «و أمّا من ذهب في جهة إعجاز القرآن إلى ما تضمّنه [من] الإخبار عن الغيوب، و هذا بلا شكّ وجه من وجوه إعجاز جملة القرآن، و ضروب من آياته، و الأدلّة على أنّه من اللّه تعالى، و ليس الوجه الذي قصد بالتحدّي، و جعل العلم المعجز».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 117

أوّلها: أنّه يوجب أنّ في سور القرآن ما ليس بمعجز و لا يتحدّى به؛ لأنّ كثيرا من السّور غير متضمّن للإخبار عن الغيوب. و قد علمنا أنّ التحدّي وقع بسورة من عرضه غير معيّنة، و أنّه لم يتوجّه إلى ما يختصّ من السّور بالإخبار عن الغيب دون غيرها «1».

و ثانيها: أنّ التحدّي لو وقع «2» بذلك لكان خارجا عن عرفهم، و واقعا على خلاف عادتهم. و قد بيّنا فيما مضى أنّ التحدّي لم يكن إلّا بما ألفوه و جرت عاداتهم في تحدّي بعضهم بعضا به.

و ثالثها: أنّ أخبار القرآن على ضربين:

منها: ما هو خبر عن ماض، كالأخبار عن الأمم السّالفة، و الأنبياء المتقدّمين.

و منها: ما هو خبر عن مستقبل كقوله، تعالى:

لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ «3» و قوله: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «4» و ما أشبه ذلك من الأخبار عن الاستقبال الّتي وقعت، غير أنّها وقع الخبر عنها «5».

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 402: «و الذي يبطل

هذا أنّ كثيرا من القرآن خال من خبر بغيب، و التحدّي وقع بسورة غير معيّنة».

(2) في الأصل: وقع لو وقع.

(3) سورة الفتح: 27.

(4) سورة الروم: 1- 3.

(5) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 403: «و أيضا، فإنّ الإخبار عن الغيوب في القرآن على ضربين: خبر عن ماض، و خبر عن مستقبل. فالأوّل: إخبار عن أحوال الأمم السالفة. و الثاني: مثل قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ...، و قوله تعالى:

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 118

فأمّا القسم الثّاني: و هو الخبر عن المستقبل، فإنّه إنّما يكون دالّا عند وقوع مخبره موافقا للخبر. و قبل وقوعه لا فرق فيه بين الصّدق و الكذب، اللّهمّ إلّا أن تقع ممّن قد دلّت دلالة غير ذلك الخبر على صدقه. فيعلم صحّة الخبر بتلك الدّلالة المتقدّمة لا بنفسه.

و معلوم أنّ الحجّة بالقرآن كانت لازمة لمن تحدّي به قبل وقوع مخبرات أخباره «1» المستقبلة، و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يطالب القوم بالإقرار به و يدعوهم إلى التّسليم. و لم يفعل ذلك إلّا و هم يتمكّنون من الاستدلال على صدقه، و غير مفتقرين في العلم إلى حضور زمان متراخ. و هذا يبطل أن تكون جهة إعجازه ممّا يتضمّنه من الإخبار عن الحوادث المستقبلة «2».

فأمّا القسم الأوّل: و هو الإخبار عن الماضي، فليس في أخبار القرآن عن الماضيات إلّا ما هو خبر عن أمر ظاهر شائع قد اشترك أهل الأخبار في معرفته، أو عرفه كثير منهم. و كلّ ذلك ممّا ينكر المخالف أن يدّعي أنّه مأخوذ من الكتب، و متلقّن من أفواه الرّجال «3».

و ما يقوله قوم من المتكلّمين في هذا الموضع- من أنّ ذلك لو أخذ

من الكتب

______________________________

الم* غُلِبَتِ الرُّومُ ... و أمثال ذلك من الأخبار التي وقعت مخبراتها موافقة للإخبار عنها».

(1) في الأصل: مخبران اخباره، و المناسب ما أثبتناه مطابقا لما في الذخيرة/ 403.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 403: «و القسم الثاني: إنّما يكون دالّا إذا وقع عن مخبر مطابق للخبر، و قبل أن يقع ذلك، لا فرق بين أن يكون صدقا أو كذبا. و من المعلوم أنّ الحجّة بالقرآن كانت لازمة قبل وقوع مخبرات هذه الأخبار».

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 403: «فأمّا القسم الأوّل: فهو خبر عن أمور كائنة و مشهورة شائعة، و ذلك لا يسمّى خبرا عن غيب، و ليس في ذلك إلّا ما يمكن المخالف أن يدّعي أنّه مأخوذ من الكتب، أو من أفواه الرجال».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 119

و الرّجال لظهر و انتشر، و لعرف الملقّن له، و الموقف عليه، و زمان طلبه، و الاختلاف إلى أهله، لا سيّما مع البحث و التنقير و التفتيش، و إنّ العادات بهذا جارية «1»- ممّا لا يجوز أن يكل اللّه تعالى من ألزمه العلم بالنّبوّة إليه، و يعوّل به «2» عليه؛ لأنّ أكثر ما فيه أن يكون ما ذكروه أشبه و أولى، و ليس يكون دليلا على النّبوّة إلّا ما أوجب اليقين المحض، و رفع كلّ شكّ و تجويز. و متى لم يكن هذا لم ينقطع عذر المكلّف به.

على أنّ الخبر عن الظّاهر من الأمور الماضية لا يوصف بأنّه خبر عن غيب، و إنّما يوصف بذلك الإخبار عن الحوادث المستقبلة الّتي قد جرت العادة بأنّ البشر لا يحيطون علما بها، و لا طريق لهم إلى معرفتها بالنّظر في النجوم و

ما جرى مجراها. و إن علموها فعلى طريق الجملة، و يردّ الخبر عنها على سبيل التفصيل.

و قد يكون الإخبار عمّا مضى إخبارا عن غيوب، إذا كانت واردة بما قد علم خفاؤه، و فقد الاطّلاع عليه، نحو الخبر عمّا «3» أضمره الإنسان في قلبه، و عرض «4» عليه من فعله، و لم يفشه إلى غيره، أو ممّا فعله متفرّدا به و مستسرّا بفعله.

و ليس في أخبار القرآن ما يجري هذا المجرى، و إن كان في أخباره صلّى اللّه عليه و آله الخارجة عن القرآن ما يلحق بما ذكرناه، فهو غير مخلّ بكلامنا؛ لأنّنا إنّما نتكلّم فيما تضمّنه القرآن من الأخبار. و إذا لم يكن ذلك فيها صحّ ما أوردناه، و وضح

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 403: «فإذا قيل: لو كان ذلك لظهر و انتشر، قيل:

يمكن أن يقع على وجه من الخفاء لا يظهر. ثمّ أكثر ما يدّعى في وجوب ظهور ذلك- لو كان عليه- الظنّ، فأمّا العلم اليقين المقطوع به فلا يجب حصوله».

(2) في الأصل: بهم، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: ممّا، و ما أثبتناه هو المناسب.

(4) كذا في الأصل، و لعلّه: غمض.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 120

فساد قول من ذهب في إعجاز القرآن و قيام الحجّة به في الحال إلى الأخبار التي تضمّنها.

فإن قال: قد قلتم في صدر هذا الكلام: إنّ الإخبار عن الغيوب أحد وجوه إعجاز القرآن، فعلى أيّ وجه يصحّ ذلك؟

قيل له: قد علمنا مبلغ ما يعرفه النّاس بتجاربهم و عاداتهم من أحكام الحوادث المستقبلة، و أنّ ذلك لم يبلغ إلى أن يخبروا عن تفصيل ما يحدث على سبيل التّحديد و التّمييز؛ لأنّ أكثر ما يعملونه

من ذلك الجملة الّتي يرجعون فيها إلى العادة، نحو علمهم بورود الحرّ و البرد في إبّانهما، و طلوع الثّمار و الزّروع في أوقاتهما.

و العلم بهذه الجملة لا يثمر العلم بالتّفصيل الّذي أوردناه؛ لأنّا نحيط علما بأنّ أحدا من النّاس لا يمكنه أن «1» يخبر عن قوّة الحرّ و البرد في أيّام بعينها «2».

و تناقصه في أيّام بعينها. و حال الأيّام في العادة واحدة أو متقاربة في أنّها لا تقضي بخلاف بعضها لبعض في شدّة الحرّ و نقصانه، فيقع مخبره وفقا لخبره.

و كذلك لا يجوز أن يخبر بعضنا بأنّ بعض ثمار السّنة المستقبلة سيفسد و يبطل، و بعضها يزكو و يكثر على سبيل التّفصيل، و يكون حال ما خبّر بصلاحه كحال ما خبّر بفساده في الحاجة إلى ما قد جرت العادة بصلاحه عليه من الحرّ و البرد و الهواء و الرّكود، فيقع خبره صدقا.

و ليس يجوز أن تكون صناعة النّجوم تكسب مثل هذا العلم؛ لأنّ المستفاد بهذه الصناعة من أحكام الحوادث المستقبلة هو ما يجري مجرى الجمل دون التفصيل. و لهذا تجد أهلها يصيبون في ذلك في الأكثر، و ربّما أخطئوا، كإخبارهم

______________________________

(1) في الأصل: عن أن.

(2) في الأصل: بعينه، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 121

عن زيادة الحرّ و البرد و نقصانهما، و وفور الأمطار و الأنداء أو قلّتهما. و كلّ هذا على طريق الجملة.

فأمّا ما يصيبون فيه و لا يكادون أن يخطئوا فيما يجري مجرى التفصيل، فهو أيضا مضبوط محصور قد عرف النّاس طريقه و وجهه، و أنّه الحساب الّذي يدلّهم على كسوف القمر في وقت معيّن و برج محدود، و طلوع الكوكب أو غروبه في زمان بعينه.

و لو كانت

غيره من الأحكام الّتي تدّعونها تجري- في أنّ الحساب طريق إليها و دالّ عليها- مجراه لوجب أن توجد فيه الإصابة، و يفقد الخطأ، كما وجدناه في الخبر عن كسوف الكواكب و غروبها، أو تكثر الإصابة و يقلّ الخطأ. و قد وجدنا الأمر فيما يحكمون عليه و ينذرون به بالضدّ من هذا؛ لأنّ الإصابة فيه هي القليلة و الخطأ هو الكثير، و أنّ [ما] يقع من إصابتهم فيها الأقرب ممّا يقع من المخمّن و المرجّم الّذي لا يرجع في قوله إلى أصل، و لا ينظر في دليل.

و إذا صحّ ما ذكرناه، و ورد القرآن بأخبار عن حوادث مستقبلة مفصّلة و وقعت مخبراتها «1» بحسب الأخبار، فيجب أن تكون دلالة أو معجزة؛ لخروجها عن العادة و عمّا يتمكّن البشر منه و يصلون إليه.

فمنها: قوله تعالى في انهزام المشركين ببدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «2».

و قوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «3».

______________________________

(1) في الأصل: غيرانها، و ما أثبتناه هو المناسب للسياق.

(2) سورة القمر: 45.

(3) سورة الروم: 1- 3.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 122

و قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ «1».

و قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «2».

و قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ «3».

و قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً «4».

فأمّا إخباره صلّى اللّه عليه و آله عن الغيوب الخارجة عن

القرآن، فكثيرة جدّا، نحو «5»:

قوله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «تقاتل بعدي النّاكثين و القاسطين و المارقين».

و إنذاره له عليه السّلام بقتل ذي الثّديّة «6»، المخدج اليد.

و قوله صلّى اللّه عليه و آله لعمّار رحمة اللّه عليه: «تقتلك الفئة الباغية» «7».

______________________________

(1) سورة الفتح: 27.

(2) سورة التوبة: 33.

(3) سورة الفتح: 19.

(4) سورة البقرة: 94- 95.

(5) الأخبار المنقولة في هذا المقام تعدّ من الأخبار المتواترة و المرويّات المشهورة الّتي رواها جلّ من تعرّض لأحداث الوقائع الثلاث المشهورة التي وقعت أيّام خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام، أي وقعة الجمل و صفّين و النهروان. راجع على سبيل المثال: دلائل النبوّة 6/ 410 و 427، المستدرك على الصحيحين 3/ 139، كنز العمّال 6/ 82، صحيح البخاريّ 4/ 243.

(6) و هو حرقوص بن زهير التميميّ، من رءوس الخوارج، راجع أسد الغابة 1/ 396 و 2/ 140.

(7) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 405: «و منها: إخباره صلوات اللّه و سلامه عليه بالغيوب، مثل قوله في عمّار رضي اللّه عنه: «تقتلك الفئة الباغيّة» ... و إشعاره لأمير المؤمنين عليه السّلام بأنّه يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين، و يقتل ذا الثّديّة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 123

و قوله صلّى اللّه عليه و آله لسراقة «1»: «كأنّي بك و قد لبست سواري كسرى».

و ما ذكرناه من هذه الأخبار قليل من كثير. و في استقصاء ذكرها «2» خروج عن الغرض، و هي معروفة. و جميع ما تلوناه من أخبار القرآن و قصصناه من أخباره صلّى اللّه عليه و آله الخارجة عن القرآن وقعت مخبراتها وفقا لها.

و معلوم أنّ مثل هذه الأخبار لا تقع عن ظنّ و ترجيم؛ لأنّ الظّنّ لا يمكن معه

الصّدق في مثل هذه الأخبار على سبيل التفصيل، و لا بدّ أن تكون دالّة على علم المخبر بها.

و ليس يجوز أن يكون العلم بذلك معتادا؛ لأنّ العلوم المعتادة لا تخرج عن قسمين: الضّرورة، و الاكتساب. و قد علمنا أنّه ليس في سائر العلوم الضّروريّة المعتادة علم بما يحدث على سبيل التفصيل. و لو كان مكتسبا لكان واقعا عن النّظر في دليل، و لا دليل يدلّ على ما يتجدّد من أفعال النّاس و ما يختارونه و يجتنبونه مفصّلا.

و إذا صحّت هذه الجملة فالإخبار عن الغيوب لا يخرج عن وجهين:

إمّا أن يكون من فعل اللّه تعالى، نحو ما تلوناه من أخبار القرآن، و من فعل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نحو ما قصصناه من أخباره «3» الخارجة عن القرآن.

______________________________

(1) هو أبو سفيان سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ المدلجيّ الحجازيّ. كان ينزل القديد بين مكّة و المدينة، و كان في الجاهليّة معروفا باقتفاء الأثر. و هو من أشراف قومه و شعرائهم، و كان ممّن تعقّب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع جماعة من المشركين حين هاجر عليه السّلام من مكّة إلى المدينة، و حينما لحق بالنبيّ، و رآه صلّى اللّه عليه و آله دعا عليه فساخت قوائم فرسه في الأرض، فندم و طلب من الرسول أن ينجّيه، فدعا له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأطلق و رجع إلى قومه. أسلم بعد واقعة الطائف في السنة الثامنة للهجرة. و تولّى البصرة أيّام حكومة عمر بن الخطّاب. توفّي سنة 24 ه.

(2) في الأصل: ذكرنا، و الظاهر ما أثبتناه.

(3) في الأصل: أخبار، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 124

فإذا كانت من فعل

اللّه تعالى لم تدلّ على اختصاصه بالعلم الخارق للعادة الّذي ذكرناه، فقلنا: إنّ من أجله تمكّن من الصّدق عمّا يحدّث، بل يكون المعجز في هذا الموضع هو إنزال الخبر إليه و اطّلاعه قبل أحد من البشر عليه، فقد حصل خرق العادة به لا محالة في هذا الوجه. و إذا كان من فعله عليه السّلام فهو دالّ على العلم الّذي أشرنا إليه، و المعجز هاهنا هو العلم؛ لأنّه الّذي خرق العادة.

و الذي أنكرناه في صدر الكلام أن يكون الوجه الّذي منه لزم العلم بصدق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الابتداء هو تضمّن القرآن للإخبار عن الغيوب، أو أن تكون جهة إعجازه مقصورة على ذلك دون غيره.

فأمّا إذا قيل بأنّ هذه الجهة من إحدى جهات الإعجاز، و رتّب الاستدلال بهذا الترتيب الّذي ذكرناه؛ فذاك الصّحيح الّذي لا يمكن دفاعه.

[إعجاز القرآن في نفي الاختلاف عنه]

و أمّا من ذهب إلى إعجازه من حيث زال عنه الاختلاف و التناقض «1»، و اعتلّ لقوله بأنّ العادة لم تجر بأن يسلم الكلام الطويل- مع سرد القصص فيه و الأخبار- من ذلك، و أنّ في سلامة القرآن منه دلالة على أنّه من فعل اللّه تعالى.

و الصّحيح الّذي لا إشكال فيه أنّ سلامة القرآن- مع تطاوله، و تكرّر القصص

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 403- 404: «و أمّا من ذهب في إعجازه إلى زوال الاختلاف عنه و التناقض مع طوله، و ادّعى أنّ ذلك ممّا لم تجر العادة في كلام طويل بمثله.

و الذي يبطل قوله: إنّه لا شبهة في أنّ ذلك من فضائل القرآن و من آياته الظاهرة، لكنّه لا ينتهي إلى أن يدّعى أنّه وجه إعجازه و أنّ العادة انخرقت به؛ لأنّ الناس

يتفاوتون في زوال الاختلاف و التناقض عن كلامهم. و ليس يمتنع أن يزول عن الكلام ذلك كلّه، مع التيقّظ الشديد و التحفّظ التامّ. فمن أين لمدّعي ذلك أنّ العادة لم تجر بمثله؟».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 125

فيه و ضرب الأمثال- من الاختلاف أو التناقض «1» يدلّ على فضيلة عظيمة و رتبة جليلة، و مزيّة على المعهود من الكلام ظاهرة؛ فأمّا أن ينتهي إلى الإعجاز و خرق العادة، فبعيد و لا برهان لمدّعيه عليه؛ لأنّا قد وجدنا النّاس يتفاوتون في السّلامة من هذه الأمور المذكورة تفاوتا شديدا؛ ففيهم من يكثر في كلامه الاختلال و الاضطراب و يغلب عليه، و فيهم من يتحفظ فقلّ ذلك في كلامه.

فليس بمنكر أن يزيد بعضهم في التحفّظ و التصفّح لما يورده، فلا يعثر منه على تناقض «2».

و ليس يمكن أحدا أن يدّعي أنّ التحفّظ و إن اشتدّ، و العناية و إن قويت، فإنّ المناقضة و الاختلاف غير زائل؛ فإنّه متى ادّعى هذا تعذّر عليه إيراد شبهة تعضد دعواه، فضلا عن برهان.

و لو قيل لمن سلك هذه الطريقة: أرنا أوّلا- قبل أن ننظر فيما يمكن من الكلام المستأنف، أو لا يمكن- أنّ جميع ما تنوّق فيه الحكماء من كلامهم، و روّوا فيه من أمثالهم قد لحق جميعه التناقض و الاختلاف، حتّى أنّه لو لم يسلم شي ء منه من ذلك لظهر بطلان قوله من قرب.

فإن قيل: أ ليس من البعيد أن يسلم الكلام الطويل بما ذكرناه؟

قيل: لسنا نشكّ في بعد ذلك، و إنّما كلامنا على القطع على تعذّره و إلحاقه بما يخرق العادات؛ فأمّا بعده فقد سبق إقرارنا به.

فإن قالوا: فقد قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لَوْ كانَ مِنْ

عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «3»، و هذا نصّ صريح لصحّة ما ذهبنا إليه «4».

______________________________

(1) في الأصل: تناقض، و الأنسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: تناقضه، و المناسب ما أثبتناه.

(3) سورة النساء: 82.

(4) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 404: «فأمّا قوله تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 126

قيل لهم: إنّما علمنا بهذا القول أنّه لو كان من عند غيره لوجد فيه اختلاف كثير، و قد تقدّم لنا العلم بكونه صدقا و دليلا، من طريق ليس هو اعتبار زوال الاختلاف و التّناقض عنه. و كلامنا إنّما هو على من جعل وجه إعجازه و كونه دليلا زوال الاختلاف عنه، و ظنّ أنّه: (يركن من استدراك) «1» «2»، و كذلك من جهة العادة و اعتبارها. فليس القطع إذا- على ما ذكروه من طريق السّمع- بقادح في طريقنا.

و الكلام على من جعل إعجازه صحّة معانيه و استمرارها على النظر و موافقتها للعقل، يقرب من الكلام على من اعتبر زوال الاختلاف و المناقضة؛ لأنّ كلّ ذلك إنّما يدلّ على الفضيلة و علوّ المنزلة، و يشهد بأنّ فاعله حكيم عليم. و الإعجاز و خرق العادة غير هذا.

و لو لم يصرف اللّه تعالى العرب عن معارضة القرآن لبطل الإعجاز عندنا، و لم يخرج القرآن من أن يكون على الصّفات الّتي ذكروها من صحّة المعاني، و موافقة العقل.

و كذلك لو سلبه اللّه تعالى القدر من الفصاحة الّتي بان بها من الفصيح المعتاد- عند من ذهب إلى ذلك فيه- لوجب فيه جميع ما ذكروه من الصّفات، و لاستحال خروجه عنها.

و هذا يكشف عن أنّ هذه المعاني إنّما وجبت

فيه، من حيث كان كلاما

______________________________

فإنّما هو جهة؛ لعلمنا بالقرآن [انّه] لو كان من عند غيره لكان فيه اختلاف، و إنّما رددنا على من قال: إنّي أعلم ذلك بذلك قبل العلم بصحّة القرآن، و جعله وجه إعجازه».

(1) في الأصل: استدراك غير منقوطة- و هي غير مفهومة.

(2) كذا في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 127

للحكيم، و أنّه لا تأثير لها في الإعجاز؛ لوجودها مع زواله.

على أنّ جميع ما ذكروه من صحّة المعاني و ملاءمة العقل، حاصل في كلامه صلّى اللّه عليه و آله، و واجب في أخباره، و إن لم يجب فيها الإعجاز.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 129

[مذهب القائلين إنّ إعجاز القرآن كونه قديما]

فأمّا المعتقدون بقدم القرآن، و الجاعلو وجه إعجازه كونه قديما، أو عبارة عن الكلام القديم و حكاية له «1» فإنّ الأدلّة الّتي نصبها اللّه تعالى على حدث القرآن تقضي ببطلان قولهم، و هي مذكورة في غير موضع.

و كيف يكون القرآن قديما، و هو حروف و أصوات تكتب و تتلى و تسمع [و] جائز عليه التجزّي و الانقسام، ذو أوّل و آخر؟! و كلّ هذه الصّفات ممّا لا يجوز على القديم، و لا يختصّ بها إلّا المحدث.

على أنّ القرآن من الكلام المفيد، و الكلام لا يفيد إلّا بأن يحدث بعضه في إثر بعض، و يتقدّم بعضه على بعض؛ لأنّ قول القائل: «دار» لو لم يتقدّم الدال على الألف، و الألف على الراء، لم يكن بأن يسمع «دارا» بأولى من أن يسمع «رادا».

و هذا يبيّن أنّ الكلام إذا وجدت حروفه كلّها معا، و لم يكن لبعضها على بعض تقدّم في الوجوه لم يكن مفيدا.

و بعد، فإنّ القديم تعالى متكلّم بالقرآن، و هذه الإضافة تقتضي أنّه

فاعل له؛ لأنّ الكلام إنّما يضاف إلى المتكلّم منّا من حيث فعله.

______________________________

(1) إشارة إلى مذهب أهل الحديث و الأشاعرة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 130

يبيّن ذلك أنّه لو أضيف على غير هذا الوجه لم يخل من وجوه:

إمّا أن يقال: إنّه كلام له، و أنّه متكلّم به من حيث أوجب كونه «1» على صفة معقولة و حسب ما نقول في العلم و ما جرى مجراه، أو لأنّه حلّه، أو حلّ بعضه؛ أو لأنّه قائم به.

و الكلام ليس ممّا يوجب صفة للمتكلّم؛ لأنّه لو أوجب ذلك لاستحال- لو خلق له لسانان- أن يوجد «2» فيهما حرفان متضادّان؛ لأنّه من حيث كان متكلّما بهما يجب أن يكون على صفتين متضادّتين، كما يستحيل وجود علم و جهل بشي ء مخصوص في جزءين من قلبه، من حيث كان ذلك يوجب كونه على حالين متضادّتين.

و قد علمنا صحّة وجود الكلام بالآلتين لو خلقتا، و جواز كونه متكلّما إنّما يوجد فيهما، و إن امتنع ذلك في العلم و الجهل و ما جرى مجراهما ممّا يوجب الأحوال للحيّ. فصحّ أنّ الكلام ممّا لا يوجب صفة للمتكلّم، و بطل القسم الأوّل الّذي ذكرناه.

و ليس يجوز أن يكون متكلّما به لأنّه حلّه أو حلّ بعضه؛ لأنّ ذلك يوجب كون اللّسان متكلّما، و الصّدى مخبرا و آمرا و ناهيا. و يوجب أيضا إبطال كون المتكلّم متكلّما و سقوط هذه الإضافة أصلا؛ لأنّ الكلام ليس بحرف واحد، و إنّما تجتمع الحروف فتصير كلاما، و محلّ كلّ حرف غير محلّ الآخر؛ لحاجة الحرف إلى أبنية مختلفة، فيجب على هذا أن يكون قولنا: «قام زيد» ليس بكلام لمتكلّم في الحقيقة؛ لأنّ المتكلّم ما حلّه الكلام. و هذه الجملة

ليس يصحّ اختصاصها بمحلّ واحد، فتخرج من أن تكون كلاما لمتكلّم.

______________________________

(1) في الأصل: و كونه، و لعلّ المناسب حذف الواو.

(2) في الأصل: و يوجد، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 131

فأمّا القول بأنّه: «متكلّم بالكلام لأنّه قائم به»، فلفظ مجمل قصد إلى المعلّق به عند ضيق الكلام. و حاجته إلى التفسير و التّفصيل كحاجة ما تقدّم.

و ليس يصحّ أن يراد بهذه اللّفظة- أعني قولهم: قائم «1» به- إلّا بعض ما ذكرناه و افسدنا [ه] من الحلول و إيجاب الصّفة، و إلّا فالوجوه الّتي تستعمل فيها، من القيام الّذي هو الانتصاب، أو الثّبات و البقاء، أو غير ذلك ممّا لا يجوز على الكلام أصلا.

و كذلك إن قيل: إنّ المتكلّم إنّما كان متكلّما لأنّ له كلاما، وقعت المطالبة بتفسير هذه اللّفظة، و الكشف عن الغرض بها، فإنّه لا يمكن أن يذكر فيها إلّا بعض ما أوردناه و تكلّمنا عليه.

فإن قالوا: جميع ما ذكرتموه مبنيّ على أنّ الكلام هو الأصوات و الحروف المسموعة. و ليس الكلام في الحقيقة ما تظنّون، بل هو معنى في النّفس لا يجوز عليه شي ء ممّا جاز على الأصوات الّتي ذكرتموها من الانقسام و التجزّي، و هذا المسموع عبارة عنه و حكاية له.

قيل لهم: ليس يجب أن نتكلّم في قدم شي ء أو حدوثه و نحن لا نعقله و لا نثبته؛ لأنّ الكلام في الصّفات فرع على إثبات الذّوات. و ما يقولونه في الكلام غير معقول عندنا و لا سبيل إلى إثباته، فلا معنى للتشاغل معكم بالخوض في قدمه و حدوثه. و الواجب أن تطالبوا بإثبات ما تدّعونه أوّلا، فإنّه يتعذّر عليكم.

على أنّ من أثبت الكلام معنى في النّفس- و

لم يشر إلى بعض المعاني المعقولة من أفعال القلوب، كالقصد و الاعتقاد و ما يجري مجراهما- لم يجد فرقا بينه و بين من ادّعى مثل ذلك في جميع أجناس الأعراض، حتّى يقول: إنّ الصّوت في الحقيقة ليس هو المسموع بل هو معنى في النّفس يدلّ هذا عليه. و كذلك اللّون

______________________________

(1) في الأصل: قام.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 132

و سائر الأجناس.

و لو قيل أيضا لهؤلاء-: إنّ المعنى الّذي يدّعونه في النّفس ليس هو الكلام في الحقيقة، بل الكلام معنى غيره. و المعنى الّذي يشيرون إليه دالّ عليه و منبئ عنه، ثمّ يجب ذلك عليهم في معنى بعد آخر- لم يجدوا فصلا! و لتقصّي هذه الجمل الّتي أوردناها موضع هو أليق بها من كتابنا هذا، و إنّما نبّهنا بما ذكرناه على طريق الكلام- و إن كان المقصد غيره- كراهة أن يخلوا كلامنا من برهان على فساد ما تعلّق به القوم.

على أنّا لو تجاوزنا لهم عن الكلام في قدم القرآن و حدوثه لم يصحّ أن يكون معجزا على طريقتهم هذه، و بطلت فائدة التّحدّي به لأنّ المتحدّي لا يصحّ تحدّيه إلّا بما هو مقدور متأتّ، إمّا منه أو من المؤيّد له بالعلم، فكأنّه يقول: تعاطوا فعل كذا و كذا ممّا ظهر على يدي، فإن تعذّر عليكم فاعلموا أنّي صادق، إمّا من حيث خصّني اللّه تعالى بما معه تأتّى منّي ما تعذّر عليكم، أو من حيث أظهر على يدي ذلك الفعل بعينه و أيّدني به.

و متى كان الأمر الّذي دعاهم إلى فعله مستحيلا متعذّرا على كلّ قادر، لم يصحّ التّحدّي به و لا الاحتجاج بتعذّره؛ لأنّهم لو قالوا له: قد دعوتنا إلى ما لا تقدر أنت

و لا المؤيّد لك على فعل مثله، فأين موضع حجّتك علينا؟ و لم صرت بأن تدّعي الإبانة و التّخصيص بتعذّره علينا أولى بأن ندّعي نحن عليك مثل ذلك من حيث تعذّر عليك، بل على كلّ قادر؟! و إذا لم يكن بين هذه الدّعاوى فرق بطل الاحتجاج بما ذكروه. الموضح عن جهة إعجاز القرآن النص 132 [مذهب القائلين إن إعجاز القرآن كونه قديما]

بعد، فلا فرق بين التّحدّي بالقرآن إذا كان قديما- على ما يدّعون- و بين التحدّي بذات القديم تعالى. و إذا فسد التحدّي بذلك، من حيث استحال تعلّق القدرة به، فالأوّل مثله.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 133

فإن قالوا: التحدّي إنّما كان بحكاية الكلام القديم، دون ذاته.

قيل لهم: ليس يخلو التحدّي من أن يكون واقعا بأن يحكوه بلفظه و معناه معا، أو بأن يحكوه بمعناه «1» دون لفظه، أو بلفظه دون معناه.

و قد علمنا أنّ كلّ من قال: «القرآن»، فقد حكاه بلفظه و معناه، و أنّ القوم الّذين شوفهوا بالتحدّي به قد كانوا يتمكّنون من ذلك و يفعلونه.

و حكاية معناه دون لفظه متأتّية من كلّ من عقل المعاني و فهمها، فصيحا كان أو ألكن، عربيّا كان أو أعجميّا.

و من أتى في الحكاية باللّفظ و المعنى معا فهو حاك للّفظ لا محالة، و إن ضمّ إليه المعنى؛ ففسدت الوجوه الثّلاثة. و ليس يمكن في القسمة غيرها؛ لأنّ ما خرج عنها ليس بحكاية.

فإن قالوا: إنّما تحدّاهم بالابتداء للحكاية على الوجه الّذي وردت منه، فمن حكاها بعد السّماع منه لا يكون معارضا؛ لأنّه غير مبتدئها؟

قيل لهم: هذا رجوع إلى التحدّي بالمستحيل الّذي لا يدخل تحت قدرة قادر؛ لأنّ الابتداء لا يتكرّر كالاحتذاء، فإذا طالبهم بأن يبتدءوا،

فحكاية ما قد ابتدأ هو حكايته؛ فقد كلّفهم المحال الّذي لا يوصف [به] القديم تعالى، و هو أقدر القادرين عليه.

و لو قالوا له: و أنت أيضا لا تقدر على الابتداء بجميع ما يبتدئ أحدنا حكايته، من كلام أو شعر، فليس لك من هذا إلّا ما عليك؛ لكانت المقابلة واقعة موقعها.

و إنّما صحّ لنا و لغيرنا- ممّن يرغب عن طريقة هؤلاء- الفصل «2» بين حكاية

______________________________

(1) في الأصل: معناه، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و الفصل، و الظاهر حذف الواو.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 134

القرآن ممّن حفظه و تلاه و بين المعارضة الّتي يدعى القوم إليها؛ لأنّ التحدّي عندنا وقع بالابتداء مثله في فصاحته، مع طريقة نظمه لا بحكايته، فالتالي له و إن كان حاكيا فليس بمعارض عندنا. و يجب أن يكون معارضا عند من ادّعى أنّ التّحدّي وقع بالحكاية.

فإن قالوا: فنحن أيضا نقول إنّ التّحدّي وقع بأن يحكى في فصاحته لا في ألفاظه و معانيه، فلا يجب أن يكون التالي له معارضا! قيل لهم: هذا رجوع من طريقتكم، و دخول في مذهب الفرقة الأولى الّتي قد مضى الكلام عليها مستقصى.

و إذا صرتم إلى هذا، فأيّ معنى لقولكم: إنّ التّحدّي به إنّما كان من حيث كان حكاية للكلام القديم؟

و لا فرق في «1» ما ذكرتموه الآن- بين أن يكون حكاية لكلام قديم، أو لكلام محدث- في أنّ التّحدّي به من جهة الفصاحة يصحّ على ما يقع التحدّي بالشّعر و غيره، و إن لم يكن قديما، و لا حكاية لكلام قديم.

*** قد وفينا- أرشدك اللّه- بما شرطنا من الرّدّ على جميع من خالف القول بالصّرفة، و اعتمدنا من بسط الكلام في مواضع، و اختصاره

في أخر ما اقتضته مواقعه، بعد أن لم نخلّ به و لم نورد مستغنى عنه.

و ما ذكرناه، إذا ضبط و أتقن استدرك ضابطه من جملته- إمّا تصريحا أو تلويحا- الجواب عن أكثر ما يستأنف المخالفون إيراده من الاعتراضات و الشّبهات.

______________________________

(1) في الأصل: بين، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 135

و نحن نتلو ذلك بذكر ما يلزم من عدل عن مذهب الصّرفة، من أسئلة المخالفين في النّبوّة الّتي لا تتوجّه على القائلين بالصّرفة، ليكون ما نذكره أدعى إلى القول بها، و أحثّ على اعتقادها. ثمّ نتّبع ما ذكره صاحب الكتاب المعروف ب «المغني» «1» من الكلام في هذا المعنى، فنحكيه بألفاظه، و نبين عمّا فيه من فساد و اضطراب، بعون اللّه تعالى و مشيّته.

______________________________

(1) يقصد به كتاب «المغني في أبواب التوحيد و العدل» المشهور مختصرا بكتاب «المغني» للقاضي عبد الجبّار الأسدآباديّ الهمدانيّ، المتوفّى سنة 415 هجريّة، و يتعرّض المصنّف لأقوال القاضي من الجزء الذي صنّفه في «إعجاز القرآن».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 137

فصل [في بيان ما يلزم مخالفي الصّرفة]

اشارة

قد سأل مخالفوا الصّرفة، فقالوا:

إذا كنتم إنّما تعتمدون في إعجاز القرآن أنّ اللّه تعالى هو المؤيّد به لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، تصديقا له على خرقه لعادة الفصحاء من حيث قعدوا عن معارضته و نكلوا «1» عن مقابلته، فاعملوا على أنّ خروجه عن العادة في الفصاحة مسلّم لكم على ما اقترحتموه، من أين لكم أنّ الّذي خرق به عادتنا، و ألقاه إلى من ظهر عليه هو اللّه تعالى؟! و ما أنكرتم أن يكون المظهر ذلك على يديه بعض الجنّ الّذين قد اعترفتم بوجودهم، و يكون قصده به الإضلال لنا و التلبيس؛ لأنّكم لا

تحيطون علما بمبلغ فصاحتهم، و هل انتهوا من الفصاحة إلى حدّ يجاوز ما نعهدهم أم لا، بل كلّ ذلك مجوّز غير مقطوع على شي ء منه؟! و إذا كان ما ذكرناه جائزا غير ممتنع بطل قطعكم على أنّه من قبل اللّه تعالى! «2».

______________________________

(1) نكل: إذا أراد أن يصنع شيئا فهابه.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 385: «قد بيّنا في كتابنا في جهة إعجاز القرآن أنّ من

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 138

و قد سئل عن هذا السؤال على وجه آخر آكد من الّذي ذكرناه:

قيل: إذا كان من ظهر القرآن على يديه لم يدّعه لنفسه، و لا قال إنّه من كلامه، بل ذكر أنّ ملكا ألقاه إليه و ادّعى أنّه رسول اللّه عزّ و جلّ، و أنتم- قبل أن يصحّ إعجاز القرآن و وجه دلالته على النّبوّة- تجوّزون على الملائكة فعل القبيح؛ لأنّكم إنّما ترجعون في عصمتها إلى الكتاب. و لا علم لكم أيضا بمقدار فصاحة الملائكة و نهاية ما يقدرون عليه من الكلام، فكيف يصحّ قطعكم على أنّه من عند اللّه تعالى، مع ما ذكرناه؟ و من أين لكم أنّ الملك الّذي أتى به صادق في دعواه أنّه رسول اللّه، و لعلّه من كلامه، و إن فارق كلام البشر؟! و قد قام هذا السّؤال بالقوم و قعد، و ذهب بهم كلّ مذهب، و تعاطوا في الجواب عنه طرقا، كلّها غير صحيح و لا مستمرّ.

و نحن نذكر ما أجابوا به، و ما يمكن أن يجاب به ممّا لم يذكروه، و نتكلّم بما عندنا فيه «1»:

______________________________

لم يقل في جهته ما اخترناه من الصرفة يلزمه سؤالان لا جواب عنهما إلّا لمن ذهب إلى الصرفة.

السؤال الأوّل:

أن يقال: ما أنكرتم أن يكون القرآن من فعل بعض الجنّ ألقاه إلى مدّعي النبوّة، و خرق به عادتنا، و قصد بنا إلى الإضلال لنا و التلبيس علينا، و ليس يمكن أن يدّعى الإحاطة بمبلغ فصاحة الجنّ و أنّها لا يجوز أن تتجاوز عن فصاحة العرب، و مع هذا التجويز لا يحصل الثقة بأنّ اللّه تعالى هو المؤيّد بالقرآن لرسوله صلّى اللّه عليه و آله».

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386: «و قد يمكن إيراد معنى هذا السؤال على وجه آخر، فيقال: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لم يدّع في القرآن أنّه كلامه، و إنّما ذكر أن ملكا هبط به إليه، و قد يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا فيه على ربّه، و أن يكون القرآن الذي نزل به من كلامه لا من كلام خالقه؛ فإنّ عادة الملائكة في الفصاحة ممّا لا نعرفه، و عصمة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 139

ممّا أجيب به عنه، أن قالوا:

قد ثبت أنّ القديم تعالى حكيم لا يجوز عليه استفساد خلقه و لا التلبيس على عباده، فلو مكّن الجنّ أو الملائكة ممّا ذكرتموه، لكان نهاية الاستفساد و التّضليل للمكلّفين. و في ثبوت حكمته دلالة على أنّه يمنع ما طعنتم به، و لا يمكن منه «1».

و ليس الأمر في الاستفساد و التّضليل هو أن يلطف في القبيح، أو يسلب المكلّفين الطّريق إلى الفرق بين الحجّة و الشّبهة، و الدّلالة و ما ليس بدلالة.

فأمّا المنع من الشّبهات و فعل القبائح، فغير واجب عليه تعالى في دار المحنة و التكليف، من حيث كان في المنع عن ذلك دفع لهما.

و ليس يجب- إذا كان تعالى لا يفعل الشّبهات- أن يمنع منها و

يحول بين فاعلها و بينها، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه.

و الاستفساد في هذا الموضع منسوب إلى من أظهر ما ليس بمعجز على يد من ليس برسول، و لا يجوز نسبه إلى اللّه تعالى «2».

______________________________

الملائكة قبل العلم بصحّة القرآن و النبوّة لا يمكن معرفتها، فالسؤال متوجّه على ما ترويه.

و قد حكينا في كتابنا المشار إليه طرقا كثيرة لمخالفينا سلكوها في دفع هذا السؤال، و بيّنا فسادها بما بسطناه و انتهينا فيه إلى أبعد الغايات».

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386: «قالوا: إنّ هذا استفساد للمتكلّمين، و حكمته تعالى تقتضي المنع من الاستفساد».

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386: «و هذا غير صحيح، لأنّ الذي يمنعه أن يفعل اللّه تعالى الاستفساد، فأمّا أن يمنع منه فليس بواجب؛ لأنّ هذا يوجب أن يمنع اللّه تعالى كلّ ذي شبهة من شبهته، و أن لا يمكّن المتعبّدين المنحرفين (المشعبذين المخرقين) من شي ء دخلت منه شبهة على أحد. و قد علمنا أنّ المنع من الشّبهات و فعل

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 140

و من انفسد به و اشتبه عليه أمره، فمن قبل تقصيره أتي؛ لأنّه لو شاء أن ينظر لعلم الفرق بين المعجز في الحقيقة و غيره؛ فإنّ ما يجوّز العقل وقوعه ممّن يجوز أن يفعل القبيح، لا يصحّ إلحاقه بالمعجزات.

و نحن ننقض هذا المعنى عند مناقضتنا لصاحب الكتاب الملقّب ب «المغني»، فلذلك أخّرنا بسط الكلام فيه هاهنا.

طريقة أخرى

قد أجيب عنه، بأن قيل:

إنّ المراعى في دلالة المعجز على النّبوّة خرق العادة، و ظهور ما لو لم يكن المدّعي صادقا لم يظهر. و قد علمنا أنّ في ظهور القرآن- على الوجه الّذي ظهر عليه- خرقا

للعادة، و أنّه لا فرق في كونه خارقا لها بين أن يكون من فعل اللّه تعالى، أو من فعل بعض ملائكته. و إنّما دلّ إذا كان من فعله تعالى من الوجه الذي ذكرناه- و هو خرق العادة- فيجب أن يدلّ و إن كان من فعل الملك؛ لاتّفاقهما في وجه الدّلالة. و بطل أن يكون التجويز الّذي ذكر قادحا في إعجازه «1».

و هذا في نهاية الضّعف؛ لأنّ الفعل الّذي يكون معجزا و دالّا على صدق من ظهر عليه لا بدّ فيه من شرائط:

______________________________

القبائح في دار التكليف غير واجب. و ليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف».

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 388: «قالوا: إنّه لا فرق في خرق العادة بالقرآن و دلالته على الإعجاز، بين أن يكون من فعله تعالى، أو من فعل بعض الملائكة؛ لأنّه إنّما دلّ إذا كانت من فعله تعالى لخرق العادة، لا لأنّه من فعل تعالى، فيجب أن يدلّ و إن كان من فعل الملك، للاشتراك في خرق العادة».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 141

أحدها: أن يكون خارقا للعادة.

ثمّ أن يكون من فعل اللّه تعالى.

ثمّ يكون واقعا موقع التّصديق للمدّعي، قائما مقام القول له: إنّك صادق.

فليس خرق العادة وحده هو المعتبر؛ لأنّ الإخلال بما ذكرناه من الشّروط- مع ثبوت خرق العادة- كالإخلال بخرق العادة دون ما ذكرناه؟

و معلوم أنّ المستدلّ متى لم يقطع على أنّ اللّه تعالى هو المصدّق له، فلا بدّ أن يكون مجوّزا وقوع التّصديق من بعض من يجوز منه فعل القبيح، و لا يؤمن من جهته تصديق الكذّاب،

و مع التجويز لذلك لا يحسن منه تصديق المدّعي، فضلا عن أن يجب عليه.

و لم يدلّ الفعل الواقع من جهته تعالى على النّبوّة، إذا كان خارقا للعادة من حيث خرقها فقط، على ما توهّموه في الجواب، بل بأن تكامل له الشّرطان جميعا «1».

و قولهم: لا فرق في باب خرق العادة- بين أن يكون من فعل اللّه تعالى أو من

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 388: «إنّ خرق العادة غير كاف إذا جوّزنا أن يخرقها غير اللّه تعالى ممّن يجوز أن يفعل القبيح و يصدّق الكذّاب، و إنّما دلّ خرق العادة من فعله تعالى لأنّنا نأمن فيه وقوعه على وجه يقبح. و إذا كنّا نجوّز على الملائكة- قبل العلم بصحّة النبوّة- أن يفعلوا القبيح، فلا يجوز أن يجري تصديقهم لمن يصدّقوه، و إن خرق العادة، مجرى ما يفعله اللّه تعالى من ذلك.

و أيّ فرق بين ما نجوّز فيه أن يكون من فعلنا، و بين ما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّيّ أو ملك في ارتفاع دلالته على النبوّة؟ و هل كان ما يجوز أن يكون من فعلنا غير دالّ على النبوّة إلّا من حيث جاز أن نفعل القبيح و نصدّق الكذّاب؟ و هذا بعينه قائم فيما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّيّ أو ملك، و إن خرق العادة إذا جوّزنا أن يخرقها من لا يؤمن منه فعل القبيح».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 142

فعل الملك- صحيح، غير أنّ الفرق و إن لم يكن بينهما من هاهنا فهو حاصل بينهما في الدّلالة على الصّدق الّتي هي مقصدنا.

فامّا قولهم في أوّل الكلام: إنّ المراعى خرق العادة، و ظهور ما لو لا صدق

المدّعي لم يظهر؛ فهو المطلوب، و لكن لا سبيل إليه مع (تجويز أن يقع) «1» التّصديق ممّن لا يؤمن منه فعل القبيح؛ لأنّ مع التجويز لا نأمن أن يكون المدّعي غير صادق، و إن ظهر الفعل المخصوص على يده.

و إنّما نأمن ذلك و نقطع على أنّ ظهوره يدلّ على الصّدق و أنّه لو لا صدقه لم يظهر، إذا علمناه من فعل الحكيم الّذي لا يقع منه القبائح، جلّ و تعالى علوّا كبيرا.

و نحن نزيد في استقصاء الكلام على هذا الموضع فيما بعد، فقد تعلّق به صاحب الكتاب الّذي قدّمنا ذكره، و وعدنا بتتبّعه.

طريقة أخرى

و قد أجيب عنه:

بأنّ العلم حاصل لكلّ عاقل بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو الآتي بهذا القرآن و المظهر له، على حدّ حصول العلم بوجوده عليه السّلام، و دعائه إلى اللّه تعالى، و تحدّيه العرب بالإتيان بمثل ما أتى به.

و إذا كان ما اعترض به من سؤال الجنّ يوجب رفع العلم الّذي ذكرناه، وجب اطّراحه. و ليس هذا بشي ء؛ لأنّ الّذي وقع العلم به و ارتفع الشكّ فيه هو أنّ القرآن لم يسمع إلّا من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يظهر لنا إلّا من جهته.

فأمّا العلم بأنّه من فعله أو أنّه لم يأخذه من غيره، فليس معلوما «2»، بل

______________________________

(1) في الأصل: التجويز أنّ وقوع، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) في الأصل: معنا، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 143

المعلوم لنا خلافه؛ لأنّه عليه السّلام قد نفى أن يكون من كلامه، و خبّرنا بأنّه لقنه من ملك، هو رسول اللّه.

و في هذا تأكيد الشّبهة على طريقة خصومنا؛ لأنّ للمخالف أن يقول: اعملوا على أنّي سلّمت أنّه

ليس من كلامه، من أين لكم أنّ الملك الّذي ألقاه إليه و ادّعى أنّه رسول اللّه صادق؟ و لعلّه لم يأت عن أمر اللّه و لا برسالته، فيعود الأمر إلى السؤال الّذي ذكرناه في صدر هذا الفصل، و يحتاج في الجواب عنه إلى غير ما ذكرناه.

طريقة أخرى

و ربّما أجاب بعضهم بأن يقول:

إنّما ثبت وجود الجنّ بعد ثبوت نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّا من جهته علمنا وجودهم، فكيف يصحّ القدح في النّبوّة بما لا يصحّ إلّا بعد صحّتها؟

و هذا في غاية الرّكاكة؛ لأنّ السّؤال الّذي أوردناه لا يفتقر في لزومه إلى القطع على وجود الجنّ و إثبات كونهم «1»، بل لو سلّم أنّ جهة العلم بوجود الجنّ هي قول نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و ما وردت به شريعتنا لكان الكلام لازما؛ لأنّ العقل لا بدّ أن يكون مجوّزا لأن يكون للّه تعالى خلق هم جنّ، و لو لا أنّ ذلك جائز في العقل لما صحّ ورود الشّرع به؛ لأنّ الشّرع لا يرد بإثبات ما يحيله العقل. و إذا جاز ذلك في العقل لزم الكلام.

و قال المخالف: إذا جاز في عقولكم أن يكون للّه تعالى خلق غائبون عن أبصاركم، لا تبلغكم أخبارهم، و لا تحيطون علما بمبلغ قواهم و علومهم- كما

______________________________

(1) أي كينونيّتهم و وجودهم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 144

تدّعون الإحاطة بذلك في الإنس- فلعلّ بعضهم صنع هذا الكتاب و أظهره على يد من ظهر من جهته! و بعد، فإنّ القطع على وجود الجنّ ليس موقوفا على شريعتنا كما ظنّوه، بل هو موجود في شريعة اليهود و النّصارى و المجوس و المانويّة. و جميع طوائف الثّنويّة تعتقد أيضا وجودهم، فشهرة ذلك- فيمن ذكرناه- تغني

عن إقامة دلالة عليه.

و في الجملة، فإنّ من كان يثبت الجنّ- من طوائف النّاس- قبل شريعتنا، أكثر ممّن كان ينفيهم، فكيف يدّعي أنّ إثباتهم موقوف على شريعتنا، لو لا الغفلة؟!

طريقة أخرى

و ممّا قيل في الجواب عمّا أوردناه:

إنّ القرآن لو كان من فعل الجنّ لم يخل من أن يكون من فعل عقلائهم، أو من فعل ذوي النّقص منهم؛ فإن كان من جهة ناقصيهم و من ليس بكامل العقل منهم، فيجب أن يظهر فيه الاختلال و التّفاوت؛ لوجوب ظهور ذلك في أفعال ذوي النّقص.

و إن كان من فعل العقلاء لم يخل أن يكون فعله المؤمنون منهم، أو الكفّار الفاسقون.

و ليس يجوز أن يكون فعلا للمؤمنين، و المقصود به التلبيس على المكلّفين و الإضلال لهم، و إدخال الشّبه عليهم.

و لو كان من فعل كفّارهم لوجب أن يعارضه المؤمنون، و يتولّوا إظهار مثله على يد من يزيل عن النّاس الشّبهة به، و ذلك من أكبر قربهم إلى اللّه تعالى.

و إذا فسدت كلّ هذه الأقسام بطل أن يكون من صنيع الجنّ على وجه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 145

فيقال لمن تعلّق بهذا: ليس يجب لو كان من فعل النّاقص عن كمال العقل أن يظهر فيه الاضطراب و التّفاوت كما ظننت؛ لأنّ الحذق بأكثر الصّنائع لا يفتقر إلى كمال العقل و وفوره، و إنّما يحتاج في الصّنعة المخصوصة إلى العلم بها، فليس يضرّها- مع وجود العلم بها- فقد العلوم الّتي هي العقل، و لهذا نجد كثيرا من أهل الحذق بالصّنائع و التّقدّم فيها بلها [غير] عقلاء، و يقطع في أكثرهم على خروجه من جملة المكلّفين، و بعده عن كمال العقل! فمن أين لك أنّ فقد التّفاوت و الاختلال يدلّ على أنّه ليس من فعل خارج

عن الكمال؟ ثمّ من أين أنّ المؤمنين من الجنّ لا يقع منهم استفساد لنا و تلبيس علينا، و نحن نعلم أنّ الإيمان لا يمنع من المعاصي و الفسوق؟

و أكثر ما في هذا الفعل أن يكون معصية للّه تعالى، و الإيمان غير مانع من ذلك، سواء [من] قبل مذهب أصحاب الإحباط «1»، أو مذهب من نفاه؛ لأنّه على المذهبين معا جائز أن يعصي المؤمن. و إنّما الخلاف في زوال ثواب إيمانه بالمعصية، أو ثبوته معها.

ثمّ من أين أنّ كفّار الجنّ لو كانوا صنعوه لوجب أن يعارضه المؤمنون؟! و هذا إنّما يثبت لك بعد ثبوت أمرين:

أحدهما: أن مؤمني الجنّ لا بدّ أن يتمكّنوا من الفصاحة التي يتمكّن كفّارهم

______________________________

(1) الإحباط يراد به خروج الثواب و المدح المستحقّين بثواب و مديح، عن كونهما مستحقّين بذمّ و عقاب أكثر منها لفاعل الطاعة.

و لا خلاف بين المسلمين في أنّ الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة، و الإيمان يزيل استحقاق العقاب السابق، و إنّما الخلاف في أنّه هل يجوز اجتماع استحقاق الثواب و العقاب من غير أن يحبط أحدهما الآخر أم لا؟ فمن يذهب إلى عدم جواز اجتماع الاستحقاقين يقول بالإحباط، و هو مذهب الأشاعرة و جمهور المعتزلة. و الإماميّة على خلافهم؛ فإنّهم يقولون بأنّ العقاب الطارئ لا يحبط الثواب الأوّل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 146

منها، حتّى لا يزيدوا في ذلك عليهم.

و الآخر: (أنّ المؤمنين لم يخلّوا) «1» بالواجب عليهم.

فكلّ واحد من الأمرين لا سبيل لك إلى إثباته.

أمّا الوجه الآخر: فقد بيّنا ما فيه، و قلنا: إنّ الإيمان لا يمنع من مواقعة المعاصي، فكذلك هو غير مانع من الإخلال بالواجب؛ لأنّ الإخلال بالواجب ضرب من المعاصي.

و أمّا الأوّل: فليس

يمتنع أن يختصّ العلم بالفصاحة بالجيل الذين هم كافرون؛ لأنّ العلم بالمهن و الصّنائع قد يخصّ قبيلا دون قبيل و جيلا دون جيل، و ليس يجب في ذلك الشّمول و العموم. أ لا ترى أنّ العلم بالفصاحة قد اختصّ به العرب دون العجم، ثمّ قبائل من العرب دون قبائل، ثمّ سكّان ديار مخصوصة دون غيرها، و ضروب من الصّنائع كثيرة قد اختصّ بعلمها قوم، حتّى لم يتعدّهم، لو شئنا عددناها؟

و إذا جاز هذا، فما المانع من أن تكون الفصاحة- أو هذا الضرب منها- إنّما اختصّ به طوائف من الجنّ كافرون، و لم يتّفق أن يكون في جملتهم مؤمن؟! و جواز ذلك كاف فيما أوردناه؛ فقد صحّ ضعف التعلّق بهذه الطريقة من كلّ وجه.

و ممّا قيل في الجواب عنه:

إنّه لو كان من فعل الجنّ أو في مقدورهم لوجب مع تحدّيهم به و تقريعهم بالعجز عنه أن يأنفوا، فيظهروا أمثالا على سبيل المعارضة.

و لو جاز أن يمسكوا عن «2» المعارضة، و إظهار ما يدلّ على أنّه من فعلهم

______________________________

(1) في الأصل: أنّهم لأخلّوا، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 147

و منقول من عندهم لجاز مثل ذلك في العرب؛ فكنّا لا نأمن أن يكون أكثر العرب قادرين على المعارضة متمكّنين منها، و إن كانت لم تقع منهم.

فلمّا فسد ذلك في العرب- من حيث علمنا أنّ التحدّي لا بدّ أن يبعثهم على إظهار ما عندهم، بل و على تطلّب ما ليس عندهم- وجب مثله في الجنّ لو كانت قادرة على مثل القرآن؛ لعموم التحدّي للكلّ و توجّهه إلى الجميع، لا سيّما و القرآن مصحّح لدعوة من نهى عن اتّباع الشياطين و

الاغترار بهم، و آمرنا بالاستعاذة منهم و البراءة من أفعالهم.

و هذا كلام في غاية البعد عن الصّواب؛ لأنّنا إنّما نوجب في العرب المسارعة إلى المعارضة لو كانوا قادرين عليها، من حيث علمنا توفّر دواعيهم إليها، و أنّهم قد قاربوا حدّ الإلجاء «1» إلى فعلها. و وجه ذلك ظاهر؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حملهم على مفارقة أديانهم، و خلع آلهتهم، و تعطيل رياستهم و عبادتهم، و حرّم عليهم أكثر ما كانت جرت به عاداتهم من المآكل و المشارب و المناكح و وجوه المتصرّفات، و ألزمهم من العبادات و الكلف ما يشقّ على نفوسهم، و يثقل على طباعهم. هذا، إلى تعجيزه لهم فيما كان إليه انتهاء فخرهم، و به علوّ كلمتهم من الفصاحة التي كانت مقصورة عليهم، و مسلّمة إليهم. و ليس هذا- و لا شي ء منه- موجودا في الجنّ، فيحمل حالهم على العرب! و أمّا التّحدّي و التقريع فإنّما يأنف منهما من أثّر في حاله و حطّ من منزلته، فيبادر إلى المعارضة إشفاقا من الضّرر النازل به. فأمّا من لا يشفق من تغيّر حال فينا، و انخفاض مرتبة عندنا، و ليس مخالطا لنا فيحفل بذمّنا أو مدحنا، فليس يجب فيه شي ء ممّا أوجبناه في غيره.

______________________________

(1) أي الاضطرار و الإكراه على فعل الشي ء.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 148

و لا ضرر أيضا على الجنّ في النّهي عن اتّباعهم، و استماع غرورهم «1».

و لو سلّم في ذلك ضررا، لكان ما يعود على الجنّ- من الشّرف و شفاء الغيظ، بإدخال الشّبهة علينا، و نفوذ حيلتهم و مكيدتهم فينا- يزيد عليه و يوفي، من حيث كان في طباعهم عداوة البشر و السّعي في الإضرار بهم.

و الضّرر اليسير قد يتحمّل في مثل ما ذكرناه، و هذا كاف.

طريقة أخرى

و ممّا ذكر في جوابه:

أنّ القرآن لو جاز أن يكون من فعل الجنّ و ممّا يتمكّن من إلقائه إلينا و إظهاره على يد بعضنا لكانت العرب تواقف على ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تحتجّ به عليه، و تقول له: ما أتيتنا به و احتججت علينا بالعجز عنه ليس يجب أن يكون من فعل ربّك على جهة التّصديق لك؛ لأنّ الجنّ جائز أن يقدروا عليه، فلا أمان لنا من أن يكون من فعلهم. و إنّما ألقوه إليك طلبا لإدخال الشّبهة علينا، فلا نبوّة لك بذلك، و لا فضيلة! «2» و ليس يجوز أن يغفلوا عن الاحتجاج بمثل هذا- لو كان جائزا- مع علمنا بتغافلهم في رفع أمره صلّى اللّه عليه و آله إلى كلّ باطل، و طرحهم أنفسهم كلّ مطرح.

و الحازم العاقل لا يعدل عن أقوى الحجّتين و أوضح الطريقتين، إلى الأضعف

______________________________

(1) أي جهالاتهم.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392: «و ممّا أجاب به القوم عن سؤال الجنّ: أنّ القرآن لو كان من فعل الجنّ لوقفت العرب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ذلك، و لقالت له: ليس في عجزنا من مقابلتك دليل على نبوّتك، لأنّه جائز أن يكون الجنّ ألقته إليك!».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 149

الأغمض، و الجميع معرض له «1».

و إذا كنّا قد أحطنا علما بأنّ ذلك ما لم يحتجّ به العرب، و لم يتفوّهوا «2» بشي ء منه، قطعنا على أنّه لم يكن.

و هذا أضعف من كثير ممّا تقدّم؛ لأنّه يوجب أن تكون العرب عارفة بكلّ شبهة يمكن إيرادها في إعجاز القرآن، حتّى لا يخطر ببال أحد

من المتكلّمين شي ء في هذا المعنى إلّا و قد سبق خطوره لهم. و قد علمنا أنّ ذلك ليس بواجب «3».

[و] لو كان مثل هذا الاحتجاج صحيحا لوجب أن يستعمل في الجواب عن كلّ شبهة يوردها المخالفون في القرآن، فيقال في كلّ ما يرد من ذلك:

لو كانت هذه الشّبهة قادحة في إعجاز القرآن و مؤثّرة في صحّة دلالته على النّبوّة، لوجب [أن] تواقف العرب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على معناها، و تحاجّه بها، و تجعل علمنا بفقد موافقتهم على ذلك دليلا على بطلان التعلّق به. فيؤول الأمر إلى أنّ الجواب عن جميع شبه المخالفين في القرآن واحد لا يحتاج إلى أكثر منه، و يصير جميع ما تكلّفه المتكلّمون- من الأجوبة و الطرق، و ما خصّوا به كلّ شبهة من القدح «4»- عيبا «5» و فضلا و عدولا عن الطريق الواضح إلى الوعر الشاسع.

و إنّما يحتجّ بمثل هذه الطّريقة من يحتجّ بها فيما يعلم أنّ العرب به أبصر منّا، و أهدى إلى استخراجه من جميعنا، بشروط الفصاحة و مراتبها، و مبلغ ما جرت به

______________________________

(1) كذا في الأصل.

(2) في الأصل: يتفوّه، و المناسب ما أثبتناه.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392: «و هذا من ضعيف التعلّل؛ لأنّه ليس بواجب أن تعرف العرب هذا القدح، و لا تهتدي إلى هذه الشبهة. و كم أورد المبطلون في القرآن من الشبهات التي لم تخطر للعرب ببال. و لا رأينا أحدا من المتكلّمين و المحصّلين جعل جواب هذه الشبهة أنّها لو كانت صحيحة لواقف عليها العرب».

(4) في الأصل: القدم، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(5) وردت في الأصل: عسا- غير منقوطة- و الظاهر أنّها: عيبا، أو عنتا.

الموضح عن جهة

إعجاز القرآن، النص، ص: 150

العادات فيها، و كيفيّة التفاضل في صناعتها «1».

فنقول: لو كانت فضيلة القرآن في الفصاحة على سائر كلام العرب كفضيلة بعض الشّعراء على غيره، أو لو كانت مرتبته في الفصاحة ممّا قد جرت به العادة بالبلوغ إليها- لكن باستعمال التكلّف الشديد و التعمّل الطويل- لوجب أن تواقف العرب على ذلك و تبين عنه، و ذلك إذا ادّعى من ذهب في إعجازه إلى النّظم أنّ جهة إعجازه بنظم غير مسبوق إليه.

يمكن أن يقال له: لو كان ما ظننته صحيحا لوقفت العرب على أنّ ذلك ليس بمعجز، من حيث كانوا يعلمون من أنفسهم أنّهم قد سبقوا إلى ضروب من النّظوم كثيرة، و أنّ حال بعض من سبق إلى بعض النّظوم لا يزيد على بعض في معنى السّبق.

و كلّ هذا إنّما أمكن الرّجوع فيه إلى هذه الطريقة؛ لأنّه ممّا لا بدّ أن يقف عليه العرب، و لأنّ مرجع غيرهم في العلم به إليهم، فيجعل إمساكهم عن ذكره دليلا على أنّه لم يكن، و يحيل «2» عليهم بما لا بدّ «3» أن يزيد حالهم فيه على حالنا، و بما إن خفي علينا فلا بدّ أن يكون ظاهرا لهم.

و ليس كلّ الشّبه تجري هذا المجرى، أ لا ترى أنّا إذا سئلنا، فقيل:

لعلّ القرآن و إن كان من فعل اللّه تعالى، فإنّه لا يدلّ على تصديق من ظهر على

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392: «و إنّما تحيل على العرب، و توجب أن يواقفوا عليه فيما يختصّ بالفصاحة، و ما يجوز فيها من التقدّم و التأخّر، وجهات التفاضل، و ما أشبه ذلك ممّا المرجع فيه إليهم و المعوّل عليهم. فأمّا في الشبهات التي لا يخطر

مثلها ببالهم، و لا يهتدون إلى البحث عنها، فلا معنى للحوالة عليهم بها».

(2) وردت في الأصل: يحيل- غير منقوطة- و الظاهر ما أثبتناه.

(3) في الأصل: بالأبد، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 151

يديه؛ لأنّه غير ممتنع أن يكون اللّه تعالى فعله لا للتصديق، بل للمحنة و تغليظ البلوى، أو لوجه أخر من المصلحة.

أو قيل لنا على طريقتنا في الصّرفة: اعملوا على أنّ اللّه تعالى صرف عن معارضة القرآن، من أين لكم أنّه فعل ذلك تصديقا للرسول صلّى اللّه عليه و آله؟

لم نفزع إلى أن نقول: الدّليل على أنّه لم يرد إلّا التّصديق أنّه لو احتمل خلافه لوقفت العرب على ذلك، و لقالت كيت و كيت.

و كذلك لو سئلنا، فقيل لنا:

ما أنكرتم أن يكون القرآن غير معجز و لا دالّ على التّصديق؛ لأنّه من جنس مقدور البشر. و المعجز لا يكون إلّا بما ينفرد اللّه تعالى بالقدرة عليه. و بيّن أن يكون ممّا يقدر العباد على جنسه أنّ العرب لم تواقف عليه، و لم تحتجّ به، و أنّه لو كان بين الأمرين فرق في معنى الدّلالة لوجب أن تقع منها المواقفة، بل كنّا نعدل في الجواب عن جميع هذه الشّبه إلى ذكر ما يبطلها، من غير أن نحيل بذلك على غيرنا، و لا يجري الكلّ مجرى واحد.

ثمّ يقال للمتعلّق بما حكيناه: أ يجوز عندك أن يخطر لمن تأخّر من المتكلّمين أو لبعض مخالفي الملّة، شبهة في القرآن لم تخطر للعرب؟

فإن قال: يجوز ذلك و لا يمتنع.

قيل له: فلعلّ هذه الشّبهة لم تخطر للعرب، فلهذا لم يواقفوا عليها.

و إن قال: لا يجوز أن يخطر لأحد في هذا المعنى ما لم يخطر

للعرب.

قيل له: و لم قلت ذلك؟ و كيف ظننت أنّ العرب لا بدّ أن تعرف كلّ شي ء، و يخطر ببالها دقيق هذا الباب و جليله؟! و هذا يوجب أن يكون جميع ما زاده المتكلّمون على نفوسهم من الشّبه في القرآن و أجابوا عنه، و كلّ ما استدركه بعضهم على بعض، و فرّعوه على مذاهبهم،

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 152

و ملئوا به الدّروس «1»، و استنفدوا فيه الأعمار، كان مستقرّا عند العرب و مجموعا علمه لهم. و ليس يظنّ مثل هذا الأمر ذو العقل فضلا عن أن يعتقده.

و كيف يتوهّم هذا، و نحن نعلم أنّ شبهة الجنّ إنّما زادها متكلّموا الإسلام على أنفسهم قريبا، و لقنها منهم المخالفون في الملّة، و اتّخذوها شبهة و عمدة. و أنّها لم توجد في كتب من تقدّم من المتكلّمين و في جملة ما زادوه على نفوسهم في القرآن، مع ما أنّهم قد استقصوا ذلك بجهدهم، و بحسب مبلغ علمهم؟! و لا سمعت أيضا فيما تقدّم [من] أحد من المخالفين، مع تعلّقهم بكلّ باطل و توصّلهم إلى كلّ ضعيف من الشّبه. و ما يغرب استدراكه على حذّاق المتكلّمين و وجوه النظّارين، ثمّ على أهل الخلاف في اللّه «2»- و فيهم من له حذق بالنّظر و خواطر قريبة فيه- أولى و أحرى بأن يذهب على العرب، و لا يخطر لهم ببال، و ليس النظر من صنعتهم، و لا استخراج ما جرى هذا المجرى في قولهم؟! ثمّ يقال لهم: إذا جعلتم ترك العرب المواقفة على ما ذكرتموه دليلا على أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ، و لا واردا من جهتهم، فخبّرونا عنهم لو واقفوا على ذلك و ادّعوه لكانت مواقفتهم

دليلا على أنّه من فعل الجنّ! فإن قالوا: «نعم» قالوا ما يرغب بالعقلاء عن مثله، و طولبوا بتأثير موافقتهم و تركها في الأمرين جميعا، و وجه دلالتها، فإنّهم لا يجدون متعلّقا.

فإن قالوا: لا تدلّ دعواهم على أنّه من فعل الجنّ، و مواقفتهم على ذلك على أنّه من فعلهم في الحقيقة.

قيل لهم: فكيف لم تدلّ المواقفة على هذا، و دلّ تركها على ما ادّعيتموه؟!

______________________________

(1) هكذا في الأصل، و لعلّها: الطّروس، أي الأوراق.

(2) كذا في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 153

و أيّ تأثير لتركها ليس (هو لفعلها) «1»؟

فإن قالوا: لأنّه لو كان من فعل الجنّ لوجب أن يخطر ذلك ببال العرب، مع اجتهادهم في التماس الشّبهات، [و] لو خطر لهم لوقفوا عليه. و إذا لم يفعلوا فلأنّ ذلك ممتنع عندهم.

و ليس دعواهم أنّه من فعل الجنّ بهذه المنزلة؛ لأنّهم قد يجوز أن يكذبوا «2» بادّعاء ذلك، و يحملهم القصور عن الحجّة، و قلّة الحيلة على البهت و المكابرة «3».

قيل لهم: هذا رجوع إلى أنّ العرب يجب أن تعرف كلّ شي ء، و قد قلنا في ذلك ما فيه كفاية.

و بعد، فليس يمكنكم أن تقولوا: إنّ الجنّ لو كانت فعلت القرآن لوجب أن تعلم العرب بحالهم؛ لأنّه لا دليل لهم على مثل هذا، و لا طريق يوصلهم إلى العلم به.

و أكثر ما تدّعون أن تقولوا: إنّ العرب لا بدّ أن يخطر ببالها جواز كون مثل القرآن في مقدور الجنّ، و إذا خطر لها ذلك و لم يؤمنها من أن تكون فعلته و أظهرته شي ء، لم يكن لها بدّ من المواقفة عليه! و هذا ممّا لا فرج لكم فيه، لأنّا نقول عنده:

______________________________

(1) في الأصل: هذا فعلها، و

المناسب ما أثبتناه مطابقا لما في الذخيرة/ 393.

(2) في الأصل: يتكذّبوا، و الظاهر ما أثبتناه.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392- 393: «خبّرنا لو واقفت العرب على ذلك و ادّعت في القرآن أنّه من فعل الجنّ، أ كان ذلك دالّا على أنّه من فعل الجنّ على الحقيقة؟

فإن قال: نعم، قيل له: كيف؟ و كيف يدلّ على ذلك، و أيّ تأثير لدعواهم في تحقيق هذا الأمر؟

و إن قال: لا يدلّ، قيل له: كيف لم تدلّ المواقفة على أنّه من فعلهم، و دلّ تركها على أنّه ليس من فعلهم، و أيّ تأثير للترك ليس هو للفعل؟».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 154

فاذكروا ما الّذي أمن العرب من أن يكون الجنّ فعلته- مع تجويزها أن يكون مقدورا- حتّى عدلت من أجله عن المواقفة؟ و أشيروا إليه بعينه؛ فإنّ هذا ممّا لا يحسن أن يقع الحوالة به على العرب، فإنّ حالهم فيه إن لم ينقص عن حال النّظّارين المتكلّمين، لم يزد! و ما فينا إلّا من يجوّز أن يخطئ العرب و من هو أثبت معرفة من العرب في مثل هذا، و يعتقد فيه خلاف الحقّ «1». فيعود الكلام إلى أنّ الجواب عن السّؤال يجب أن يذكر بعينه، ليقع النظر فيه و التّصفّح له، و يكون الحكم على صحّته أو فساده بحسب ما يوجبه النّظر. و أنّ (الحوالة في وقوعه) «2» على غائب لا تغني شيئا.

طريقة أخرى

و ممّا يمكن أن يقال في السّؤال الذي ذكرناه:

إنّ تجويز كون القرآن من صنع الجنّ و ما ألقته إلينا- طلبا لإدخال الشّبهة- يؤدّي إلى الشّكّ في إضافة الشّعر إلى قائليه و الكتب إلى مصنّفيها، و جميع الصنائع إلى صنّاعها! و كنّا لا نأمن أن يكون الشّعر المضاف إلى

امرئ القيس ليس له، و إنّما هو من قول بعض الجنّ ألقاه إليه لبعض الأغراض، و أن يكون امرؤ القيس من أعجز النّاس عن قول الشّعر، و أبعدهم عن نظمه و رصفه! و كذلك «الكتاب»

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 393: «على أنّهم إذا جعلوا ترك المواقفة دليلا على أمان العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ، فإنّا نقول لهم: ما الّذي أمنت العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ، حتى أمسكت لأجله عن المواقفة؟ أشيروا إليه بعينه حتّى نعلمه، و تكون الحجّة به قائمة إن كان صحيحا، فإنّ هذا ممّا لا يحسن الحوالة به على العرب، و حال المتكلّمين فيه أقوى، و هم إليه أهدى!!».

(2) في الأصل: أحواله في وقعه، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 155

المنسوب إلى سيبويه في جمعه و ترتيبه، و لا معرفة له بشي ء منه.

فإذا كان الشّكّ فيما ذكرناه يقرب من مذاهب السّوفسطائيّة، و إن لم يكن بينه و بين ما ألزمناه فرق، وجب فساد الاعتراض بذكر الجنّ.

فأوّل ما نقوله في الكلام على من تعلّق بهذه الطريقة:

إنّ سائلها لم يجب عمّا سئل عنه، و لا انفعل ممّا ألزمه، و إنّما عارض بما ظنّ أنّه لا فصل بينه و بين ما أورد عليه.

و لو قيل له: أذكر ما يؤمن من الجميع، و أظهر له الشّك في الكلّ لافتقر ضرورة إلى الجواب؛ اللّهمّ إلّا أن يقول: إنّني أعلم ضرورة صحّة إضافة هذه الأشعار و الكتب إلى من أضيفت إليه، و لا يعترض شكّ في ذلك.

فيقال له حينئذ: أ فتعلم أيضا ضرورة أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ، و لا يعترضك شكّ فيه؟

فإن قال: «نعم»، كفى مئونة الاحتجاج، و وجب عليه أن

يجعل ذكر العلم الضّروريّ هو الجواب عمّا سئل عنه، فلا يتشاغل بغيره! و لو كان هذا معلوما ضرورة لما صحّ من العقلاء التّنازع فيه، و لوجب أن يشتركوا في معرفته، و ليس هم كذلك.

فإن قال: لست أعلم ما ذكرتموه في القرآن ضرورة، و إن كنت أعلم الأوّل.

قيل له: قد حججت نفسك، لأنّ خصمك يقول لك: الفرق بين الموضعين هو العلم الضّروريّ الحاصل في أحدهما، و تعذّره في الآخر.

على أنّ المعارضة أيضا موضوعة غير موضعها؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يقل قطّ إنّ القرآن من فعله و إنّه المبتدئ به، بل ذكر صلّى اللّه عليه و آله أنّ ملكا أنزله عليه بأمر ربّه- جلّت عظمته- على ما ذكرناه من قبل، و لا ادّعى أحد من تابعيه أيضا له أنّه فعل القرآن.

و كيف يصحّ حمل ذلك على كتاب أو شعر ظهر من جهة رجل بعينه ادّعاه

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 156

لنفسه، و أنّه المتفرّد بنظمه و رصفه، و سلّم إليه جميع النّاس في دعواه، و أضافوا إليه ما أضافه إلى نفسه، و لم يعثر في أمره على منازع و لا مخالف؟! و إنّما تكون هذه المعارضة مشبهة للمعارضات لو كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مضيفا للكتاب إلى نفسه، و ذاكرا أنّه من فعله، فيسقط قول من نفاه عنه و شكّ في إضافته إليه بمثل ما ذكر.

فأمّا و الأمر على ما ذكرناه لكان هذا المعارض يقول:

إذا جاز أن يكون القرآن- الذي لم يدّعه من ظهر على يديه، و لا أضافه إلى نفسه- فعلا لغيره، فليجوّزنّ أن يكون ما ادّعاه الشّعراء و المصنّفون من شعرهم و كتبهم أضيف إليهم و لم

يظهر إلّا من جهتهم، فعلا لغيرهم؟! و ليس يخفى بعد هذه المعارضة على هذا الوجه.

و بعد، فمع التّجويز لوجود الجنّ و تمكينهم من التصرّف في ضروب العلوم و الكلام، [و] عدم ما يؤمن من إتيانهم في ذلك إلى حدّ مقطوع عليه، لا بدّ من الشّكّ في جميع ما ذكر.

و كيف لا يشكّ فيه و الشّعراء أنفسهم يدّعون أنّ لهم أصحابا من الجنّ يلقون الشّعر على ألسنتهم، و يخطرونه بقلوبهم؟! و هذا حسّان بن ثابت يقول «1»:

ولي صاحب من بني الشّيصبان «2»فطورا أقول، و طورا هوه! و قصّة الفرزدق في قصيدته الفائيّة مشهورة، و ذلك أنّ الرّواية جاءت بأنّه كان جالسا في مسجد المدينة، في جماعة فيهم كثير «3» عزّة، يتناشدون الأشعار، حتّى

______________________________

(1) ديوان حسّان بن ثابت/ 258.

(2) الشيصبان: قبيلة من الجنّ.

(3) هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعيّ، أبو صخر، شاعر مشهور من أهل المدينة،

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 157

طلع عليهم غلام، فقال: أيّكم الفرزدق؟

فقال له بعض الحاضرين: أ هكذا تقول لسيّد العرب و شاعرها؟

فقال: لو كان كذلك لم أقل له هذا! قال له الفرزدق: من أنت، لا أمّ لك؟! قال: رجل من الأنصار من بني النّجّار، ثمّ أنا ابن أبي بكر بن حزم، بلغني أنّك تقول إنّي أشعر العرب، و قد قال صاحبنا حسّان شعرا، فأردت أن أعرضه عليك، و أؤجّلك فيه سنة، فإن قلت مثله فأنت أشعر النّاس، و إلّا فأنت كذّاب منتحل! ثمّ أنشده:

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى و أسيافنا يقطرن من نجدة دما «1» إلى آخر القصيدة. و قال له: قد أجّلتك فيه حولا.

ثمّ انصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه حتّى خرج من المسجد، فعجب الحاضرون ممّا جرى. فلمّا

كان من الغد أتاهم الفرزدق و هم مجتمعون في مكانهم، فقال: ما فعل الأنصاريّ؟ فنالوا منه و شتموه، يريدون بذلك أن تطيب نفس الفرزدق. فقال: قاتله اللّه! ما رميت بمثله، و لا سمعت بمثل شعره! ثمّ قال لهم: إنّي فارقتكم بالأمس فأتيت منزلي، فأقبلت أصعّد و أصوّب في كلّ فنّ من الشّعر، و كأنّي مفحم لم أقل شعرا قطّ، حتّى إذا نادى المنادي الفجر «2»

______________________________

و أكثر إقامته كانت بمصر، كان شاعر بني مروان يعظّمونه و يكرمونه. كان دميما قصيرا متيّما بحبّ عزّة بنت جميل، مات بالمدينة سنة 105 ه.

(1) ديوان حسّان بن ثابت/ 221. يفخر حسّان بهذا البيت و غيره من أبيات القصيدة بكرم قومه و نجدتهم. الجفنات: القصاع. الغرّ: البيض من كثرة الشحم الذي فيها، و كثرته دليل على الكرم.

(2) كذا في الأصل: و في الأغاني 9/ 338: بالفجر.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 158

رحلت ناقتي، ثمّ أخذت بزمامها. فقدت بها «1» حتّى أتيت ذبابا- و هو جبل بالمدينة- ثمّ ناديت بأعلى صوتي: أجيبوا أخاكم أبا لبينى! فجاش صدري كما يجيش المرجل «2» فعقلت ناقتي، و توسّدت ذراعها، فأقمت حتّى قلت مائة و أربع عشرة قافية! فبينا هو ينشدهم، إذا طلع الأنصاريّ حتّى انتهى إليهم، فقال:

أما إنّي لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقّتّه لك، و لكنّي أحببت ألّا أراك إلّا سألتك ما صنعت؟ فقال له الفرزدق: اجلس، ثمّ أنشده.

عزفت بأعشاش، و ما كنت «3» تعزف فأنكرت «4» من حدراء ما كنت تعرف «5» و «أبو لبينى» الّذي ناداه الفرزدق في هذه القصيدة هو الذي يقال: إنّه شيطان الفرزدق و المظاهر له على قول الشّعر و الملقية إليه، كما قالوا: إنّ عمرا شيطان

المخبّل السّعديّ «6»، و إنّ مسحلا شيطان الأعشى. و أنشدوا في ذلك قول الأعشى:

دعوت خليلي مسحلا، و دعوا له جهنّام، جدعا للهجين المذمّم «7» و هو الّذي يعنيه بقوله في هذه القصيدة أيضا:

حباني أخي الجنّيّ، نفسي فداؤه بأفيح جيّاش من الصوت خضرم «8»

______________________________

(1) في الأغاني: فقدتها.

(2) المرجل: قدر من نحاس، و قيل: يطلق على كلّ قدر يطبخ فيها.

(3) في الديوان و الأغاني: كدت.

(4) في الديوان: و أنكرت.

(5) شرح ديوان الفرزدق لإيليا حاوي 2/ 113.

(6) هو ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف السّعديّ، من بني تميم، شاعر فحل من مخضرمي الجاهليّة و الإسلام، هاجر إلى البصرة و عمّر طويلا، مات في حكومة عمر أو عثمان، له شعر كثير جيّد.

(7) ديوان الأعشى/ 183. جهنّام: تابع مسحل، من الجنّ.

(8) ديوان الأعشى/ 184. و فيه: بأفيح جيّاش العشيّات خضرم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 159

و أنشدوا أيضا في هذا المعنى لأعشى بني سليم:

و ما كان جنّيّ الفرزدق بارعاو ما كان فيهم مثل خافي المخبّل

و ما في الخوافي مثل عمرو و شيخه و لا بعد عمرو [شاعر] «1» مثل مسحل و أراد بقوله: «الخوافي» الجنّ، و واحدهم خاف، سمّوا بذلك لخفائهم.

و قد قيل أيضا: إنّ الجنّ قتلت حرب بن أميّة «2»، و مرداس بن أبي عامر السّهميّ، و أنّ السبب في ذلك إحراقهما شجرة بقرية «3»، و أنّهما لمّا أحرقاها سمعا هاتفا يقول:

ويل لحرب فارساقد لبسوا القوانسا

لتقتلن بقتله جحاجحا عنابسا و هذا الخبر معروف. و كذلك سعد بن عبادة «4»، قيل إنّ الجنّ قتلته،

______________________________

(1) البيت ناقص، و أكملناه من الحيوان 6/ 226- 227. و البيتان باختلاف في الأوّل.

(2) هو حرب بن أميّة بن عبد شمس القرشيّ، من سادات قومه، و

هو جدّ معاوية بن أبي سفيان. كان معاصرا لعبد المطّلب بن هاشم، مات بالشام و تزعم العرب أنّ الجنّ قتلته بثأر حيّة.

(3) في الأصل: شجرا بقربه، و المناسب ما أثبتناه.

(4) سعد بن عبادة بن دليم الخزرجيّ، كان سيّد الخزرج و أحد الأمراء الأشراف في الجاهليّة، شهد العقبة مع سبعين من الأنصار و أسلم، و كان أحد النقباء الاثني عشر، و شهد المواقف مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طمع في الخلافة خلافا لوصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام، و لم يبايع أبا بكر، و عاداه و عادى عمر، و هاجر من المدينة إلى الشام، فبعث إليه عمر بن الخطّاب من يقتله.

قال ابن عبد ربّه الأندلسيّ في العقد الفريد 5/ 14: أبو المنذر هشام بن محمّد الكلبيّ، قال:

بعث عمر رجلا إلى الشام، فقال: ادعه إلى البيعة، و احمل له بكلّ ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن اللّه عليه. فقدم الرجل الشام، فلقيه بحوران في حائط، فدعاه إلى البيعة، فقال:

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 160

و قالت في ذلك:

قد «1» قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده

و رميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده و نظائر ما ذكرناه كثيرة جدّا، إن ذهبنا إلى تقصّيها خرجنا عن غرضنا.

و مذاهب العرب في هذا الباب مشهورة، و ما يدّعونه فيه معروف، و لا سبيل معه إلى القطع على أنّ قصيدة بعينها من قول من أضيفت إليه، و أنّه السّابق إلى نظمها و المتفرّد به من غير معين و لا ظهير، على ما يحتاج إلى ذكر الجنّ، و التعلّق بما تدّعيه العرب في بابهم.

و نحن نعلم

أنّ مع نفيهم- أو نفي تمكّنهم من إظهار الشّعر و غيره على أيدي البشر- لا يمكن القطع على شي ء ممّا ذكر أيضا؛ لأنّ الشّعر المضاف إلى الشّاعر نفسه يمكن أن لا يكون- أو أكثره- له، بأن أعانه عليه معين لم يضفه إلى نفسه، و أضافه هذا و ادّعاه، فروي عنه.

[أو] أن يكون قولا لخامل، ظفر به من ادّعاه فأضافه «2» إليه دون قائله في الحقيقة، و لبعد العهد في هذا الباب تأثير قويّ.

و ممّا يشهد بصحّة ما ذكرناه أنّا قد وجدنا جماعة من مجوّدي الشّعراء قد أغاروا على شعر غيرهم فانتحلوه، مع منازعة قائليه لهم و مجاذبتهم عليه. و لم

______________________________

لا أبايع قرشيّا أبدا ... فرماه بسهم فقتله ... فبكته الجنّ، فقالت:

و قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده

و رميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده!

(1) في الأصل: نحن، و المناسب ما أثبتناه وفقا لسير أعلام النبلاء 1/ 277، و البيتان في طبقات ابن سعد 7/ 274 و مختصر تاريخ ابن عساكر 9/ 227 باختلاف.

(2) في الأصل: فأضاف، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 161

يمنعهم ذلك من التّصميم على الدّعوى.

و الفرزدق أحد المشتهرين بهذا الأمر، و الرّواية عنه مستفيضة بأنّه كان يصالت الشّعراء على شعرهم فيغالبهم عليه، و كان يقول: «ضوالّ الشّعر أحبّ إليّ من ضوالّ الإبل، و خير السّرقة ما لا يجب فيه القطع»، يعني سرقة الشّعر.

و إذا استحسن الشّعراء هذا و أقدموا عليه فيما له قائل حاضر ينازع فيه، فكيف بهم فيما قد انقطعت فيه الخصومة و زالت الشّنعة، إمّا لدروس خبر قائله و انقطاع أثره، أو لإمساكه، أو لغير هذا من الأسباب، و هي كثيرة.

و ممّا يؤيّد كلامنا ما هو

ظاهر من اختلاف الرّواة و العلماء بالشّعر في قصائد و أبيات من قصائد كثيرة؛ ففيهم من يروي القصيدة- أو الأبيات منها- لشاعر بعينه، و آخرون يروونها لغيره، و أقوالهم في ذلك كالمتكافئة؛ لأنّ كلّا منهم يسند قوله إلى رواية.

و قد روي عن الرّياشيّ «1» أنّه قال: يقال إنّ كثيرا من شعر امرئ القيس ليس له، و إنّما هو لفتيان كانوا يكونون معه، مثل عمرو بن قميئة «2» و غيره، و زعم ابن سلّام «3» أنّ القصيدة المنسوبة إلى امرئ القيس التي أوّلها:

______________________________

(1) هو العبّاس بن الفرج بن علي الرياشيّ البصريّ، كان من الموالي من أهل البصرة، و هو لغويّ راوية عارف بأيّام العرب، قتل في البصرة أيّام فتنة صاحب الزنج سنة 257 ه، له كتب عديدة.

(2) عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك، ابن أخي المرقّش الأكبر، و عمّ المرقّش الأصغر، و عمّ والد طرفة بن العبد. كان في خدمة حجر بن الحارث والد امرئ القيس، فلمّا أراد امرؤ القيس أن يذهب إلى بلاد الروم اصطحبه، و توفّي عمرو في أثناء الرحلة الى بلاد الروم نحو عام 84 ق ه، فسمّاه العرب عمرا الضائع. و ابن قميئة شاعر فحل لكنّه مقلّ، عدّة ابن سلّام في الطبقة الثامنة من الشعراء الجاهليّين.

(3) هو محمّد بن سلّام الجمحيّ، ولد بالبصرة نحو عام 140 ه، و سمع العلم و الأدب من نفر

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 162

حيّ الحمول بجانب العزل «1» انّما رواها حمّاد «2»، و هي لامرئ القيس بن عامر الكنديّ. و قد قيل: إنّها لابن الحُميِّر الباهليّ.

و قد نفى عنه هذه القصيدة أيضا المفضّل الضّبّيّ «3» الرواية. و روي أنّ أوّل بيت

من اللاميّة المنسوبة إلى امرئ القيس، و هو:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل «4» و قال قوم: هو و أبيات بعده من أوّل هذه القصيدة لامرئ القيس بن حمام- و قيل جذام- و إنّما علقمت على امرئ القيس بن حمام.

و روي عن ابن الكلبيّ «5»، أنّه كان ينفي عن امرئ القيس:

تطاول ليلك بالإثمدو نام الخليّ و لم ترقد «6»

______________________________

كثيرين، توفّي في بغداد سنة 231 ه و قد أربى على التسعين. من رواة اللغة و الأشعار، إلّا أنّه أوسع شهرة و أثبت قدما في رواية الشعر، و له عدد من الكتب. و شهرة ابن سلّام في تاريخ الأدب و النقد ترجع الى كتابه طبقات الشعراء الذي وصل الينا.

(1) ديوان امرئ القيس/ 151.

(2) المشتهر بحمّاد الرواية، هو حمّاد بن سابور بن المبارك الديلميّ الكوفيّ، كان أعلم الناس بأيّام العرب و أشعارها و أخبارها و أنسابها و لغاتها. كان محظيّا عند بني أميّة، و هو الذي جمع المعلّقات. مات ببغداد سنة 155 ه أيّام العبّاسيّين.

(3) هو المفضّل بن محمّد بن يعلى الضّبيّ الكوفيّ، علّامة بالشعر و الأدب و أيّام العرب، و يقال إنّه أوثق من روى الشعر من الكوفيّين، صنّف للمهديّ العبّاسيّ كتاب المفضّليّات لعلّه توفّي سنة 168 ه.

(4) شرح المعلّقات السبع للزوزنيّ/ 7.

(5) هو محمّد بن السائب بن بشر الكلبيّ الكوفيّ، نسّابة و راوية و عالم بأخبار العرب و أيّامها، له كتاب الأصنام. توفّي بالكوفة سنة 146 ه.

(6) ديوان امرئ القيس/ 84.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 163

و يضيفها إلى عمرو بن معد يكرب «1».

و كان الأصمعىّ «2» ينفي عنه قصيدته:

لا و أبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أنّي أفرّ «3» و روي عن

أبي عبيدة «4» في نفيها عنه مثل ذلك، و أنّه كان ينسبها إلى رجل من النّمر بن قاسط «5»، يقال له ربيعة بن جشم، و يروي أنّ أوّلها:

أحار بن عمرو كأنّي خمرو يعدو على المرء ما يأتمر و روى أبو العبّاس المبرّد «6»، عن الثّوريّ «7» أنّه قال:

______________________________

(1) هو عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبد اللّه الزبيديّ، فارس اليمن، أسلم سنة 9 ه، و أخبار شجاعته كثيرة و له شعر جيّد، توفّي سنة 21 ه على مقربة من الرّيّ.

(2) هو عبد الملك بن قريب بن عليّ بن أصمع الباهليّ البصريّ. يقال عنه إنّه راوية العرب، كان أحد أئمّة العلم باللغة و الشعر و الأدب. كان يحفظ آلاف الأبيات الشعريّة، له مصنّفات كثيرة، توفّي بالبصرة سنة 216 ه.

(3) لم يرد هذا البيت في ديوان امرئ القيس، طبعة دار صادر- بيروت.

(4) هو معمر بن المثنّى التيميّ البصريّ، من أئمّة العلم بالأدب و اللغة، يقال إنّه كان خارجيّا، شعوبيّا، يبغض العرب و صنّف في مثالبهم كتبا كثيرة. له نحو 200 مؤلّف، توفّي بالبصرة سنة 209 ه.

(5) بطن من بطون بني حنيفة. راجع جمهرة النسب للكلبيّ/ 576.

(6) هو محمّد بن يزيد بن عبد الأكبر الثماليّ الأزديّ، إمام من أئمة الأدب و اللغة في زمانه، ولد بالبصرة سنة 210 ه و توفّي ببغداد سنة 286 ه، له مصنّفات عديدة، منها: الكامل، و شرح لاميّة العرب.

(7) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوريّ، المضريّ. من أئمّة الحديث، ولد بالكوفة سنة 97 ه و نشأ بها. راوده المنصور العبّاسي على أن يلي الحكم و القضاء فأبى و خرج من الكوفة إلى مكّة و سكنها، ثمّ طلبه المهديّ فتوارى، فمات بالبصرة

مستخفيا سنة 161 ه.

له كتابان في الحديث.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 164

سمعت أبا عبيدة يحلف باللّه أنّ القصيدة المنسوبة إلى علقمة بن عبدة «1»:

طحا بك قلب في الحسان طروب إنّما هي للمثقّب العبديّ «2»، قال: و اسمه شاس بن بهار، و فيها يقول:

و في كلّ قوم قد خبطت بنعمةو حقّ لشأس من نداك ذنوب يعني نفسه. فقال له النّعمان: إي و اللّه، و أذنبه! فقيل لأبي عبيدة: فمن ألقاها على علقمة و روى فيها كثيرا؟

قال: صيرفيّ أهل الكوفة الذي تضرب عنده الأشعار، و تولد منه الأخبار- يعني حمّادا! و غير أبي عبيدة يروي هذه القصيدة لعلقمة، و يقول: إنّ علقمة كان له أخ يقال له شاس، أسرته غسّان «3»، و حصل في يد الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ، و امتدح علقمة الحارث بن أبي شمر بهذه القصيدة، و سأله إطلاق أخيه فأطلقه «4». و له معه خبر معروف.

و القول فيما نحوناه واسع، و إنّما ذكرنا منه قليلا من كثير. و من أراد استقصاءه و استيفاءه طلبه من مظانّه، و في الكتب المخصوصة به.

و كما أنّ الرّواة اختلفوا في الشّعر، فأضاف قوم بعضها إلى رجل، و خالف

______________________________

(1) هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس، من بني تميم، شاعر جاهليّ من الطبقة الأولى، و كان معاصرا لامرئ القيس و له معه مساجلات. توفّي نحو سنة 20 ق ه.

(2) هو العائذ بن محصن بن ثعلبة، من بني عبد القيس من ربيعة، شاعر جاهليّ من أهل البحرين، وصف بجودة الشعر و الحكمة، توفّي نحو سنة 35 ق ه.

(3) هو الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ الذي أسر شاس بن عبدة، فشفع به علقمة بن عبدة و

مدح الحارث بأبيات، فأطلقه.

(4) راجع: خزانة الأدب 1/ 565، الشعر و الشعراء/ 58، سمط اللآلي/ 433.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 165

آخرون فأضافوها إلى غيره. و اختلافهم في كتاب العين المنسوب إلى الخليل «1» و الاغاني المنسوب إلى إسحاق «2»، معروف.

غير أنّ الطريق الذي سلكناه لا يوجب علينا الشّكّ في علم سيبويه بالنّحو، و قدرة امرئ القيس و أمثاله على قول الشّعر، و تجويز كون هذا جاهلا بالنّحو، و هذا مفحما «3» لا يستطيع نظم بيت من الشّعر؛ لأنّا إنّما سلكنا في إضافة القصيدة بعينها إلى الشّاعر، من حيث لم يكن لنا طريق يوصلنا إلى العلم بأنّه قائلها أكثر من قوله و دعواه.

و ليس كذلك حال العلم بأنّ رجلا بعينه يقدر على نظم الشّعر و يعلم النّحو؛ لأنّ الطريق إلى اختبار ذلك و امتحانه واضح لا ريب فيه، أ لا ترى أنّ من أتانا بقصيدة منظومة أو كتاب مصنّف في النّحو، يجوز فيما أتى به أن يكون من نظم غيره و إن ادّعاه لنفسه، و لا سبيل لنا إلى العلم بصدقه من جهة قوله، و لا من قول من أضاف ذلك إليه ممّن يجري مجراه في جواز الكذب عليه.

و لنا سبيل إلى اختبار حاله في المعرفة بالنّحو و القدرة على قول الشّعر بأن نسأله عن مسائل النّحو المشكلة، فإذا رأيناه يتصرّف في الجواب عنها و الحلّ لمشكلها قطعنا على علمه بالنّحو.

و إذا أردنا امتحانه في الشّعر اقترحنا عليه أوزانا بعينها «4»، و معاني مخصوصة، فألزمناه أن ينظم ذلك بحضرتنا، فإذا فعل و أردنا الاستظهار كرّرنا

______________________________

(1) هو الخليل بن أحمد الفراهيديّ، صاحب كتاب العين، و هو أشهر من أن يعرّف.

(2) هو إسحاق بن إبراهيم

الموصليّ، نسب اليه كتاب الأغاني كما نسب إلى أبي الفرج الأصبهانيّ. و كان لإسحاق كتاب بهذا الاسم مفقود. راجع مقدّمة الأغاني/ 37- 38.

(3) بعدها في الأصل: مكنا (غير منقوطة)، و لم يتبيّن لنا ما هي.

(4) في الأصل: بعينه، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 166

اقتراح أوزان و معان أخر تقطع على أنّ الشّعر المأثور خال ممّا يجمع من المعنى و الوزن ما اقترحناه؛ فإذا فعل فلا سبيل إلى تهمته.

و لهذه الأمور من الأمارات الدّالّة على المنتحل من الصّادق ما يعرف بمشاهدة الحال، و لا يمكن الإخبار عنه، فإنّ المتمكّن من قول الشّعر، يظهر منه عند المباحثة و الامتحان ما يضطرّ إلى صدقه. و كذلك المنتحل يظهر منه ما يضطرّ إلى كذبه.

و في هذا الباب لطائف يشهد بها الحسّ، و من بلي باختباره و كانت له معرفة به و دربة، علم بصحّة قولنا.

و الشّعر و غيره من الكلام يجريان مجرى الصّنائع التي يظهر فيها الإتقان و الإحكام في القطع على علم فاعلها أو الشّكّ فيه؛ لأنّ أحدنا لو أحضر غيره ثوبا منسوجا حسن الصّنعة متناسب الصّورة، و ادّعى أنّه صانعه و ناسجه، لم يجب تصديقه. و لو أنّه نسج مثل ذلك الثّوب بحضرته للزمه القطع على علمه بالنّساجة و خبره بها.

و لو كان- أيضا- المعتبر على هذا المدّعي صحّة قوله بعض أهل الحذق بالنّساجة، حتّى يسأله عن لطائف تلك الصّنعة و خصائصها- و علم بعلم النّسّاج أنّه لا يجيب فيه بالمرضيّ إلّا بصير «1» بالصّنعة- فأجاب من كلّ ذلك بالصّحيح لوجب القطع على بصيرته، و لاستغنى بهذا القدر من «2» الامتحان عن تكليفه النساجة بحضرة ممتحنة.

و ليس لأحد أن يقول: إنّ

الشّعر و غيره من أجناس الكلام يخالف الصّنائع في أحد الوجهين اللّذين ذكرتموها؛ لأنّ الصّنعة المبتدأة بحضرتنا نقطع على حدوثها

______________________________

(1) في الأصل: الأبصر، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: عن، و ما أثبتناه هو المناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 167

في الحال؛ لأنّ النّقل لا يمكن فيها، و الكلام ممكن حفظه و نقله، فيجوز في كلّ ما ادّعى الابتداء به أن يكون منقولا لا مبتدأ؛ لأنّ الشّعر- و إن جاز فيه النّقل و الحفظ- فمعلوم أنّ الاعتبار قد ينتهي إلى ما يمتنع معه تجويز مثل ذلك؛ لأنّ الشّاعر أو الكاتب إذا طولب بوصف حال مخصوصة أو حادثة بعينها «1» مقطوع على أنّها لم يتقدّم مثلها على صنعتها و هيئتها، و ألزم تسمية حاضريها، و ذكر خصائصها، و استظهره عليه باقتراح وزن معيّن و قافية مخصوصة، علم ابتداؤه بما يأتي به، كما يعلم ابتداء غيره.

و الكتابة و النساجة [كذلك] و إن كان العلم أغمض طريقا من الثاني، لأنّه مستند إلى العادات و ما يجوز أن يتّفق فيها و ما لا يتّفق.

و بعد، فمعلوم عند أهل هذا الشّأن أمر الاعتبار على الشاعر طريقا يوصل إلى العلم بحقيقة أمره، و هل هو متمكّن من نظم الشّعر أم لا، ليس هو الرجوع إلى مجرّد دعواه لنفسه.

و إذا صحّت هذه الجملة الّتي أوردناها، و علمنا بالنّقل الشّائع الذّائع تصرّف سيبويه و أمثاله المشهّرين في علم النّحو، و أنّهم كانوا يشرحون غامض المسائل، و يوضحون مشكلها على البديهة و في الحال من غير رجوع إلى كتاب أو غيره، و أنّ خصومهم كانوا ربّما أعنتوهم و امتحنوهم بمسائل غريبة مفقودة من الكتب، فتكون حالهم في الجواب بالصّحيح عنها واحدة

لا تختلف.

و هذه حال من تقدّم في قول الشّعر و اشتهر به؛ لأنّه لا أحد منهم إلّا و قد امتحن و استظهر عليه، حتّى عرف حقيقة أمره؛ إمّا بامتحان مخصوص اتّصل بنا، أو بأمر عرفناه على سبيل الجملة.

______________________________

(1) في الأصل: بعينه، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 168

و قد كان كثير منهم يرتجل الشّعر في المقامات و المحافل المخصوصة، و يصف في الوقت ما جرى فيها ممّا لم يتقدّم علمه به. و كذلك كانوا يصفون الحروب الّتي تجري بينهم، و يرتجزون في الحال بذكر ما جرى فيها، و يعيّرون بقتل من قتل، و فرار من فرّ، و نكول من نكل. و هذه الأمور إذا أضيف بعضها إلى بعض خرج منها ما أردناه.

و في الجملة: إنّ كلّ من ظهر منه الشّعر و غيره ما لا يرجع في إضافته إليه إلّا إلى قوله، دون دلالة أو أمارة توصلنا إلى صحّة قوله، فالواجب الشّكّ في حاله.

و نهاية ما يصير إليه في أمره عند حسن الظّنّ به، و قوّة أمارات صدقه، أن يغلب في الظّنّ أنّه صادق.

فأمّا العلم اليقين فلا سبيل إليه إلّا بسلوك بعض ما قدّمناه. و من ليس بقويّ البصيرة- إذا غلب ظنّه في هذه المواضع، و استبعد أن يكون الأمر بخلاف ظنّه- يعتقد أنّه على علم يقين، و لو تنبّه على بعض ما أوردناه لعرف أنّه الحقّ، و هذا واضح لمن نصح نفسه.

*** فإن قال قائل: قد بيّنتم لزوم الاعتراض بالجنّ لمخالفيكم، و كشفتم عن بطلان أجوبتهم عنه، و لم يبق عليكم إلّا أن تبيّنوا أنّه غير لازم على مذهبكم، و لا قادح في طريقتكم، ليتمّ ما أجريتم إليه من

الغرض.

قيل له: سقوط هذا السؤال عن مذهب الصّرفة لا إشكال فيه، و ذلك إنّا إذا كنّا قد دللنا على أنّ تعذّر المعارضة لم يكن لفرط الفصاحة، و إنّما كان لأنّ العلوم الّتي يتمكّنون بها من المعارضة سلبوها في الحال، فلا معنى للاعتراض بالملائكة و الجنّ؛ لأنّ الأدلّة القاهرة قائمة على أنّ أحدا من المحدثين لا يتمكّن أن يفعل في قلب غيره شيئا من العلوم و لا من أضدادها، بل لا يقدر أن يفعل فيه شيئا من أفعال

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 169

القلوب جملة.

و لا فرق في هذا التّعذّر بين ملك و جنّيّ و بشر؛ لأنّه إنّما تعذّر علينا لكوننا قادرين بقدر، فكلّ من شاركنا فيما به قدرنا لا بدّ أن يتعذّر عليه ذلك.

و ليس يقدح «1» فيما ذكرناه ما يقوله البغداديّون من أنّ بعضنا يفعل في بعض العلوم. لأنّ مذهبهم هذا و إن كان واضح البطلان، فإنّهم إنّما يقولون ذلك في العلوم التي يعتقدون أنّ لها أسبابا مخصوصة توجبها، مثل العلوم بالمدركات. و ليس للمعلوم بالفصاحة أسباب يشار إليها، يدّعى أنّها توجبها. و لو ادّعي ذلك أيضا لم يمكن أن يدّعى أنّ أضداد العلوم بالفصاحة أو غيرها من سائر العلوم، تقع موجبة عن أسباب من فعلنا. و هذا الموضع هو الذي يحتاج إليه.

فإذا صحّت هذه الجملة صحّ «2» أنّ السّؤال غير متوجّه إلينا؛ لأنّا اعتمدنا في المعجز على أمر لا يقدر عليه غير اللّه تعالى.

و قد كان بعض المعتزلة قال لي، و قد سمع منّي الكلام في مسألة الجنّ و بيان لزومها لمن عدل عن الصّرفة: هذا الّذي تسلكه يبطل جميع المعجزات؛ لأنّه لا شي ء منها إلّا و يمكن أن يدّعى أنّ

الجنّ صنعته «3»، فيجب أن تترك هذه الطريقة للبراهمة، و لا تعتمدها و أنت تصحّح المعجزات! فقلت له: كيف تظنّ مثل ذلك، و المعجزات على ضربين:

أحدهما: يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه، نحو إحياء الميّت، و إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الجسم، و فعل القدر و العلوم المخصوصة.

و هذا الوجه ينقسم:

______________________________

(1) في الأصل: يقدم، و الظاهر ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و صحّ، و المناسب ما أثبتناه.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 389: «و ممّا اعتمدوا عليه في دفع سؤال الجنّ أنّ هذا الطعن و إن قدح في إعجاز القرآن، قدح في سائر المعجزات».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 170

فمنه: ما وقوع قليله كاف في الدّلالة كوقوع كثيره، نحو إحياء الميّت، و إبراء الأكمه و الأبرص؛ لأنّ القليل منه و الكثير لم تجر به العادة.

و منه: ما يدلّ إذا وقع منه قدر مخصوص- كالقدر و العلوم- أو وقع منه تغيّر سبب ما، العادة جارية بوقوعه، لا يمكن أن يعترض فيه بالجنّ، كما لا يمكن بالإنس؛ لخروجه عن مقدور الجميع.

و الضّرب الثّاني من الأوّلين: هو ما دخل جنسه تحت مقدور العباد.

و هذا الوجه إنّما يدلّ عندنا إذا علم أنّ القدر الواقع منه و الوجه الّذي وقع عليه ممّا لا يتمكّن أحد من المحدثين منه؛ فمتى لم يعلم ذلك لم يكن دالّا، كما أنّه متى لم يعلم- عند خصومنا في الوجه أنّ الفعل ممّا لا يتمكّن البشر منه- لم يدلّ، فنجري نحن اعتبار خروجه عن إمكان البشر «1».

و ليس لك أن تقول: و كيف يمكنهم العلم بأنّه ليس في إمكان جميع المحدثين، و لا سبيل لكم إلى ذلك؟! و هذا يردّكم إلى أنّ الوجه الّذي

تصحّ منه المعجزات واحد، و هو ما يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه «2».

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389: «إنّ المعجزات على ضربين:

ضرب يوصف القديم بالقدرة عليه، نحو إحياء الميّت، و إبراء الأكمه و الأبرص، و اختراع الأجسام.

و هذا الوجه لا يمكن الاعتراض فيه بالجنّ و الملائكة؛ لخروجه عن مقدور كلّ محدث.

و الضرب الثاني من المعجزات: ما دخل جنسه تحت مقدور البشر. و هذا الوجه إنّما يدلّ إذا علم أنّ القدر الواقع منه، أو الوجه الذي وقع عليه، لا يتمكّن أحد من المحدّثين منه.

و إذا لا يعلم هذا فلا دليل فيه».

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389: «فإذا قيل: و ما الطريق إلى العلم بأنّه ليس في إمكان جميع المحدثين؟».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 171

و ذلك أنّه ليس بمنكر أن يخبرنا اللّه تعالى على لسان بعض رسله- ممّن أيّده ببعض المعجزات الّتي يختصّ جلّ و عزّ بالقدرة عليها- بأنّ عادة الملائكة و الجنّ مساوية لنا في كلّ الأفعال و في بعضها، و أنّ ما يتعذّر علينا من ذلك يتعذّر عليهم؛ فمتى ظهر على يد مدّعي النّبوّة- بعد تقرّر هذا عندنا- فعل قد تقدّم علمنا بأنّ عادة الملائكة و الجنّ فيه مساوية لعادتنا، و تعذّر علينا على وجه يخرق عادتنا، لحق ذلك بالمعجزات المتقدّمة، و دلّ كدلالتها. فقد وضح بطلان ما ظننته علينا من فساد طريق المعجزات «1».

فقال: و لم أنكرت أن يكون اللّه تعالى قد أجرى عادة الجنّ بأن يحيي الموتى بينهم عند إدناء جسم له طبيعة مخصوصة منه، و كذلك في الأكمه و الأبرص، كما أجرى عادتنا- عند كثير من المتكلّمين- بتحرّك الحديد عند قرب حجر المقناطيس

منه و انجذابه إليه. و كما العادة بما يظهر من التأثيرات عند تناول الأدوية، و إن كانت غير موجبة لها.

و إذا جوّزنا ذلك لم يجب لنا تصديق من ظهر على يده إحياء الميّت؛ لأنّا لا نأمن أن يكون الجنّيّ نقل إليه ذلك الجسم الّذي قد أجرى اللّه عادة الجنّ بأن يحيي عنده الموتى و سلّمه إليه، فتأتّى منه لأجله ما تعذّر علينا. و لا يجب على اللّه تعالى المنع من ذلك، لمثل ما ذكرتموه في الاحتجاج على خصومكم.

و يكون هذا السؤال مساويا لما سألتم عنه من خالفكم لمّا قلتم لهم:

فلعلّ عادة الجنّ جارية بمثل فصاحة القرآن، و لعلّ بعضهم نقل هذا الكلام إلى

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389: «قلنا: غير ممتنع أن يخبرنا اللّه تعالى، على لسان رسول يؤيّده بمعجزة، و يختصّ تعالى بالقدرة عليها، و يعلمنا أنّ عادة الجنّ أو الملائكة مساوية لعادتنا، و إنّما يتعذّر علينا ما يتعذّر عليهم، فمتى ظهر أمر يخرق عادتنا علمنا أنّ ذلك معجز، لعلمنا بمشاركة الملائكة و الجنّ لنا».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 172

من ظهر على يده؛ لأنّ كون عادتهم جارية به، و نقلهم له «1» على سبيل الاستفساد مقدور، و منعهم منه غير واجب؛ فلا بدّ من أن ترجعوا إلى طريقتنا، أو تدخلوا في جملة البراهمة و مبطلي النبوّات! «2» فقلت له: بين الأمرين فرق واضح لا يخفى على متأمّل؛ لأنّ إجراء عادة الجنّ بإحياء الميّت عند تقريب بعض الأجسام منه- قياسا على حجر المقناطيس- غير منكر، إلّا أنّ الجنّيّ إذا نقل ذلك الجسم إلينا، و سلّمه إلى بعضنا لم يحسن من اللّه تعالى أن يحيي عنده الميّت، إذا احتجّ به

كذّاب؛ لأنّه تعالى هو الخارق لعادتنا عند دعوة الكذّاب بما يجري مجرى التّصديق له، و ذلك قبيح لا يجوز عليه عزّ و جلّ! أ لا ترى أنّه لو أراد أن يخرق العادة عند دعوته لم يزد على ما فعله من إحياء الميّت بحسب دعواه، و لا معتبر بأنّ عادة الجنّ جارية به؛ لأنّها إن كانت جرت بذلك فعلى وجه لا نقف «3» عليه، لأنّ ما تجري به عاداتهم- أو لا تجري- غير داخل في عادتنا، فلا بدّ من «4» أن يكون إحياء الميّت فيما بيننا «5» على الوجه الّذي ذكرناه خارقا لعادتنا؛ لأنّها لم تجر بمثله.

و حكم كلّ عادة مقصور «6» على أهلها، و مختصّ بهم، فغير ممتنع أن يكون ما

______________________________

(1) في الأصل: و جائز نقلهم له، و فيه اضطراب ظاهر.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389- 390: «فإذا قيل: ما تنكرون من أن يكون اللّه تعالى أجرى عادة الجنّ أن يحيي الميّت عند إدناء أدنى جسم له صفة مخصوصة إليه، كما أجرى العادة بحركة الحديد عند تقرّبه من الحجر المقناطيس. و إذا جوّزنا ذلك لم يكن في ظهور إحياء الميّت على يد مدّعي النبوّة دليل على صدقه؛ لأنّا لا نأمن أن يكون الجنّي نقل إلينا ذلك الجسم الّذي أجرى اللّه تعالى عادة الجنّ أن يحيي الموتى عنده. و هذا طعن في جميع المعجزات».

(3) في الأصل: لا يقف، و المناسب ما أثبتناه.

(4) في الأصل: في، و الظاهر ما أثبتناه.

(5) كذا في الأصل: و الظاهر: فيما بيّنّا.

(6) في الأصل: مقصورة، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 173

هو خارق لعادة بعضهم غير خارق لعادة بعض.

و ليس يشبه هذا ما

سألتم عنه في نقل القرآن؛ لأنّ الجنّيّ إذا كانت عادته جارية بمثل فصاحة القرآن و نقله إلى أحد البشر، فبنفس نقله قد خرق عادتنا، من غير أن يكون للّه تعالى في ذلك فعل يخالف ما أجرى به عادتنا.

و الجنّيّ إذا نقل إلينا الجسم المختصّ بطبيعة- قد أجرى اللّه تعالى عادة الجنّ بإحياء الموتى عندها- فبنفس نقله للجسم لم يخرق عادتنا، و إنّما الخارق لها من أحيى الميّت عند تقريب ذلك الجسم منه، و فعل في عادتنا ما أجرى به عادة غيرنا.

فقد صار الفرق بين الموضعين هو الفرق بين أن يتولّى اللّه تعالى تصديق الكذّاب، و بين أن لا يمنع من تصديقه، و ليس يخفى بعد ما بينهما «1».

فقال: هب أنّ الكلام مستقيم من هذا الوجه، كيف يمكن الثّقة مع ما ذكرتموه في الجنّ بأنّ الميّت بعينه عاد حيّا، و أنّ الجسم الّذي تدّعي أنّه مخترع في الحال كذلك، دون أن يكون منقولا من موضع آخر؟ و نحن نعلم أنّ الجنّيّ مع خفاء

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 390: «قلنا: إحياء اللّه تعالى الميّت عند تقريب هذا الجسم بيننا و في عادتنا خرق منه تعالى لعادتنا بما يجري مجرى تصديق الكذّاب. و هذا لا يجوز عليه تعالى.

و ليس إذا أجرى اللّه تعالى عادة الجنّ، بأن يحيى ميّتا عند تقريب جسم إليه، من حيث لا نعلم ذلك و لا نعرفه، جاز أن يفعله في عادتنا؛ لأنّه إذا فعله في عادتهم فلا وجه للقبح.

و إذا نقض عادتنا فهو صدّق الكذّاب.

و ليس هذا يجري مجرى نقل الكلام، لأنّ الجنّي إذا نقل إلينا كلاما ما جرت عادتنا بمثل فصاحته، فبنفس نقله قد خرق عادتنا، و ليس للّه تعالى

في ذلك فعل يخرق عادتنا. و إذا نقل الجسم المشار إليه، فبنفس نقله الجسم لم يخرق عادتنا. و إنّما الخارق لها من إحياء الميّت عند تقريب الجسم منه. و الفرق بين الأمرين غير خاف على المتأمّل».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 174

رؤيته، و سعة حيلته، يمكنه إحضار حيّ، و إبعاد ميّت عند دعوة المتنبّئ.

و القول في الجسم كمثله «1»؛ لأنّه يتمكّن من إحضار أيّ جسم شاء في طرفة عين، بغير زمان متراخ.

و هذا أيضا متأتّ في نقل الجبال و اقتلاع المدن لو ادّعاه مدّع؛ لأنّه إن أظهر تولّي ذلك بجوارحه أمكن الجنّيّ أن يتحمّل عنه النّقل، و يكافئ ما في المحمول من الاعتمادات بأفعاله، فلا يحصل على المظهر لحمله شي ء من الكلفة.

و إن لم يتولّه المدّعي بنفسه، بل ادّعى وقوعه و حصوله فقط، فالجنّيّ يكفيه بوقوعه على حسب دعواه، و يضيفه هو إلى ربّه.

فقد عادت الحال إلى الشّكّ في المعجزات و استعمال جوابنا الّذي أنكرتموه، و هو أنّ القديم تعالى يمنع الجنّيّ من مثل هذا إذا كان جاريا مجرى الاستفساد، و إلّا فما الجواب؟! «2» فقلت له: أمّا اقتلاع المدن و حمل الجبال و ما جرى مجراها، فليس يجوز أن يكون فعلا لملك و لا لجنّيّ، و هما على ما هما عليه من الرّقّة و اللّطافة و التّخلخل؛ لأنّ هذه الأفعال إذا وقعت ممّن ليس بقادر لنفسه احتاجت إلى قدر كثيرة بحسبها، و زيادة القدر تحتاج إلى زيادة في البنية، و صلابة أيضا مخصوصة،

______________________________

(1) في الأصل: كمثل.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 390: «فإن قيل: سؤال الجنّ يطرّق أن يجوز فيمن ظهر على يده إحياء ميّت أن لا يكون صادقا، بل

يكون الجنّي أحضر من بعد حيّا و أبعد هذا الميّت؛ لأنّ خفاء رؤيته و سعة حيلته يتمّ نعمها (؟) قبل ذلك، و أنّ مدّعي النبوّة ادّعى معجزا له نقل جبل أو اقتلاع مدينة، و وقع ذلك، جوّزنا أن يكون الجنّ تولّوه و فعلوه.

و لو أنّ المدّعي تولّى ذلك بجوارحه جاز في الجنّي أن يتحمّل عنه ذلك النقل و لا يحصل عليه شي ء من تكلّف ذلك النقل. و هذا قدح في جميع المعجزات، أو الرجوع إلى أنّ اللّه تعالى يمنع من الاستفساد، و أنتم لا ترتضون بذلك».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 175

و لهذا لا يجوز أن تحلّ النّملة من القدر ما يحلّ الفيل، و إنّما نجيز ذلك بأن يزاد في بنيتها، و يعظم من خلقتها.

فالجنّيّ إذا تمكّن من حمل جبل أو مدينة، فلا بدّ أن تكثف بنيته، و تكبر جثّته. و إذا حصل كذلك لم يخف على العيون السّليمة رؤيته، و وجب أن يكون مشاهدا كما نشاهد سائر الأجسام الكثيفة.

و إذا اقتلع مدّع للنّبوّة مدينة، أو ادّعى أنّه سينقلها «1»، أو ينتقل من مكان إلى غيره، و وقع ما ادّعاه من غير أن نشاهد جسما كثيفا تولّاه أو أعان عليه، بطل أن يكون من فعل الجنّ.

و لا فرق في اعتبار هذه الحال بين الجنّ و البشر؛ لأنّ أحدنا لو ادّعى الإعجاز بحمل جسم ثقيل لا يقدر على النّهوض بمثله أحد منّا متفرّدا، لم يكن بدّ في الاعتبار عليه من أن يمنعه من الاستعانة بغيره، و يزيل كلّ حيلة «2» يمكن أن يستعان معها بالغير على وجه لا يظهر.

و الجنّ في هذا الباب كالإنس؛ لأنّا إذا كنّا قد بيّنا أنّه لا يتمكّن من هذه

الأفعال إلّا بأن يكون كثيفا مدركا، فالطريق الّذي به نعلم أنّ الاستعانة لم تقع بإنسيّ، به نعلم أنّها لم تقع بجنّيّ.

فأمّا إبدال الميّت بحيّ و إحضار جسم من بعد، فليس يجوز أن يتولّاه أيضا إلّا من له قدر تحتاج إلى بنية كثيفة تقع «3» الرؤية عليها «4».

______________________________

(1) في الأصل: أنّها سينقله، و الصحيح ما أثبتناه.

(2) في الأصل: حمله، و ما أثبتناه من الذخيرة، و يقتضيه السياق.

(3) في الأصل: تقطع، و الظاهر ما أثبتناه مقاربا لما في الذخيرة.

(4) قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 391: «قلنا: معلوم أنّ أجسام الملائكة و الجنّ لطيفة

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 176

و أكثر ما يمكن أن يقال هاهنا: جوّزوا أن يكون الجسم الّذي ينقله لطيفا، و الحيّ الّذي يحضره «1» بدلا من الميتة صغير «2» الجثّة كالذّرّة و البعوضة؛ فليس بواجب أن يكون إنسانا أو حيوانا عظيم الجثّة؟! «3» و ذلك ممّا لا يجدي أيضا في دفع كلامنا؛ لأنّ أقلّ أحواله أن يكون مكافئا في القدر للذّرّة «4» و البعوضة، حتّى يتمكّن من حمل أخفّ الحيوان وزنا.

و لو كان كذلك لوجب أن يساويهما في الجثّة و الكثافة، و يعود الأمر إلى أنّ

______________________________

رقيقة متخلخلة، و لهذا لا نراهم بعيوننا إلّا بعد أن يكيّفوا. و من كان متخلخل البنية لا يجوز أن تحلّه قدر كثيرة، لحاجة القدر في كثرتها إلى الصلابة و زيادة البنية. و لهذه العلّة لا يجوز أن تحلّ النملة من القدر ما يحلّ الفيل. فلا يجوز على هذا الأصل أن يتمكّن ملك و لا جنّي من حمل جبل و لا قلع مدينة إلّا بعد أن يكثّف اللّه تعالى بنيته و يعظم جثّته.

و إذا حصل هذه الصفة

رأته كلّ عين سليمة و ميّزته.

فإذا ادّعى النبوّة من جعل معجزته إقلاع مدينة أو نقل جبل، فوقع ما ادّعاه من غير أن يشاهد جسما كثيفا أعان عليه أو تولّاه يبطل التجويز لأن يكون من فعل جنّي و ملك، و خلص فعلا للّه تعالى.

و لا فرق في اعتبار هذه الحال بين الجنّ و البشر، لأنّ مدّعي الإعجاز بحمل جبل ثقيل لا ينهض بحمله أحد منّا منفردا لا بدّ من الاعتبار عليه من أن يمنعه من الاستعانة بغيره، و يسدّ باب كلّ حيلة يتمّ معها الاستعانة بالغير، فالجنّي في هذا الباب كالإنسيّ إذا كنّا قد بيّنا أنّه لا بدّ من أن يكون كثيفا مدركا.

فأمّا إبدال ميّت بحيّ، أو إحضار جسم من بعيد، فليس يجوز أن يتمكّن منه أيضا إلّا من له قدر تحتاج إلى بنية كثيفة يتناولها الرؤية».

(1) في الأصل: لا يحضره، و هو من سهو الناسخ.

(2) في الأصل: صغيرة، و المناسب ما أثبتناه.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 391: «و أكثر ما يمكن أن يقال: جوّزوا أن يكون الحيّ الذي أبدله الجنّي بميّت من أصغر الحيوان جثّة كالذرّة و البعوضة».

(4) في الأصل: الذرّة، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 177

رؤيته واجبة «1».

على أنّه إن لم يكن مرئيّا فلا بدّ من أن يكون ما يحضره و ينقله مرئيّا متميّزا من غيره، و إلّا لم يكن فرق بين حضوره و غيبته. [و] ما كان بهذه المنزلة لا يصحّ ادّعاء الإعجاز و الإبانة به.

و إذا كان ما ينقله مرئيّا لم يخف على الحاضرين حاله، وجب أن يفطنوا به، و ينبّهوا على «2» الحيلة فيه «3».

و يلحق هذا الوجه أيضا بالأوّل في مساواة

الجنّ للبشر في الاعتبار عليهم و الامتحان، أ لا ترى أنّ كثيرا من المشعبذين و أصحاب الحقّة «4» يتمكّنون على سبيل الحيلة من ستر جسم و إظهار غيره، و إبدال ميّت بحيّ، و صغير بكبير، و ملوّن بملوّن يخالفه! و إذا اعتبر عليهم الحصفاء «5»، و كشفوا عن مظانّ حيلهم ظهروا على أمرهم.

و لا بدّ في مدّعي النّبوّة من أن يؤمن في أمره ما جوّز في المشعبذ، و ليس يقع الأمان إلّا بالامتحان الشّديد و البحث الصّحيح. و كما أنّا لا نصدّق مدّعي النّبوّة

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 391: «و الجواب عن ذلك: أنّ أقلّ الأحوال أن يكون حامل هذا الحيوان مكافئا له في القدر، و يجب تساويهما في الجثّة و الكثافة، فيجب رؤيته و لا يخفى حاله».

(2) في الأصل: عن، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 392: «و بعد، فإن فرضنا أنّ رؤية هذا الحامل غير واجبة، فلا بدّ من أن يكون ما يحمله و ينقله مرئيّا متميّزا، و إلّا لم يفرق بين حضوره و غيبته. و ما هذه حاله لا يخفى على الحاضرين حاله، و لا بدّ من أن يدركوه و يفطنوا بحاله و يتنبّهوا على وجه الحيلة فيه».

(4) في الأصل: الحقّة: أي الداهية، و لعلّها: الخفّة.

(5) حصف، حصافة: إذا كان جيّد الرأي، محكم العقل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 178

و الإعجاز بإحياء الميّت إلّا بعد أن نعلم أنّه لم يقع في أمره حيلة منه و لا من غيره من البشر، فكذلك لا نصدّقه حتّى نعلم أنّ الحيلة- فيما جاء به- لم يقع «1» من بشر، و لا ملك، و لا جنّيّ. و طريق

الاعتبار واحد على ما ذكرناه. فلمّا سمع ما أوردته، أمسك مفكّرا فيه، و متدبّرا له «2».

سؤال عليهم آخر:

و قد سأل المخالفون أيضا، فقالوا:

لو سلّم لكم جميع ما تدّعونه في القرآن من تعذّر معارضته على البشر، فإنّ التعذّر إنّما كان لخروجه عن عادتهم، و أنّ حكم الملائكة و الجنّ و كلّ قادر من المحدثين في تعذّر المعارضة حكم البشر.

و سلّم أيضا أنّ القرآن من فعل القديم تعالى- و ذلك نهاية أمركم- لم يصحّ الإعجاز الّذي تريدونه؛ لأنّه ليس بمنكر أن يكون اللّه تعالى أنزله «3» على نبيّ من أنبيائه، فظفر به من ظهر من جهته، فغلبه عليه و قتله من حيث لم يعلم حاله، و ادّعى الإعجاز به؟! «4»

______________________________

(1) في الأصل: لم يقطع، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 392: «و يلحق هذا الوجه بالأوّل في مساواة الجنّ و البشر في الاعتبار عليهم و الامتحان. و لهذا نجد كثيرا من المشعبذين و أصحاب الحقّة يسترون جسما و يظهرون آخر، و يبدلون ميّتا بحيّ و صغيرا بكبير، و إذا اعتبر عليهم المحصّلون، ظهروا على مظانّ حيلهم و وجوهها. و لا بدّ في مدّعي النبوّة من أن يؤمن فيه ما جوّزناه في المشعبذ، و ليس يحصل الأمر إلّا بصادق البحث، و قويّ الامتحان».

(3) في الأصل: أنزل، و المناسب ما أثبتناه.

(4) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 393: «إذا سلّم لكم تعذّر معارضة القرآن على كلّ

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 179

و إنّما ينفعكم ثبوت كونه فعلا للّه تعالى مع خرق العادة، إذا أمكنكم أن تدلّوا على اختصاص من ظهر على يديه، و أنّه إنّما فعل تصديقا له. و مع السّؤال الّذي أوردناه لا يمكن ذلك.

و ليس

لأحد أن يقول: إنّ معنى هذا السّؤال يرجع إلى معنى السّؤال المتقدّم؛ لأنّهما و إن كانا معا طاعنين في الطّريقة، فبينهما مزيّة ظاهرة؛ لأنّ سؤال من اعترض بالجنّ يقدح في كون القرآن من فعل اللّه عزّ و جلّ، و في اختصاصه أيضا به لمن ظهر على يده.

و السّؤال الثّاني يتضمّن القدح في الاختصاص حسب، مع تسليم كونه من فعله تعالى. و لسنا نعرف للقوم جوابا مستمرّا عن هذا السّؤال «1».

و قد كنّا أخرجنا جوابا عنه يستمرّ على أصولهم، نحن نذكره بعد أن ننبّه على فساد ما تعلّقوا به في دفعه، ثمّ نتلوه بذكر الجواب الّذي يختصّ به أصحاب الصّرفة لينكشف لزوم السّؤال لهم دوننا، حسب ما استعملناه في السؤال المتقدّم. و نحن ذاكرون ما تعلّقوا به.

ربّما قالوا: إنّ القديم تعالى قد منع من ذلك، من حيث يؤدّي إلى الاستفساد، و أجروه مجرى أن يعلم اللّه تعالى أنّ بعض المموّهين «2» ينقل القرآن إلى بلد شاسع، لم يتّصل بأهله خبر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و معجزاته، فيدّعي به الإعجاز. و ادّعوا في الأمرين أنّ الواجب على اللّه تعالى المنع منهما.

______________________________

بشر و جنّي و ملك و كلّ قادر من المحدثين، و سلّم أيضا أنّه من فعله تعالى على غاية اقتراحهم، ما المنكر من أن يكون أنزل هذا الكتاب على نبيّ من الأنبياء، غير من ظهر من جهة تغلّبه عليه، و قتله الظاهر من جهته، و ادّعى الإعجاز به؟».

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 394: «و لسنا نعرف للقوم جوابا سديدا عن هذا السؤال ...».

(2) أي المشعبذين.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 180

و ربّما قالوا: إنّ الّذي يؤمن منه حصول العلم الضّروريّ

أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو المظهر للقرآن بالإتيان به، و أنّه لم يسمع من جهة غيره.

و ربّما تعلّقوا بأنّ الشكّ في ذلك تشكّك في إضافة الشّعر إلى الشّعراء، و الكتب إلى المصنّفين.

و هذه الوجوه الثّلاثة قد تقدّم الكلام عليها و النّقض لها، على حدّ من البسط و الشّرح لا يحوج إلى تكرار «1».

فأمّا قولهم: «إنّ العلم حاصل بأنّه لم يسمع من غيره»، فهو صحيح مسلّم.

و كذلك إن قالوا: «إنّا نعلم أنّ المظهر له لم يأخذه من غيره»، و أرادوا ممّن يقف على خبره، و يجب أن تتّصل بنا أحواله.

فأمّا على كلّ وجه، حتّى يدّعوا وقوع العلم بأنّه لم يوجد من أحد- ظهر على يده أم لم يظهر، عرفناه أم لم نعرفه، كان ممّن يجب أن تتّصل بنا أخباره أم لم يكن- فهو المكابرة الظّاهرة الّتي يعلمها كلّ من رجع إلى نفسه.

و لا بدّ أيضا أن يكون هذا العلم مخصوصا؛ لأنّهم إن ادّعوه على العموم خرجوا عن الإسلام؛ لأنّا قد بيّنا أنّ المعلوم نزول الملك به، فيجب أن تقولوا على هذا: إنّا نعلم أنّه لم يوجد من أحد من البشر و يجوز ذلك في غيرهم. [و] من حاسب نفسه و سبر ما عندها لم يجد فيها فرقا فيما ادّعوا العلم به بين ملك و بشر، إذا فرضنا أنّ المأخوذ منه لا يجب أن يتّصل بنا خبره «2».

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 394: «... إذا ذكروا الاستفساد و غيره ممّا حكيناه عنهم في جواب سؤال الجنّ، فقد تكلّمنا بما فيه كفاية. و إذا قالوا: إنّ العلم الضروريّ حاصل بأنّه لم يسمع من غيره، أو قالوا: نعلم ضرورة أنّ المظهر له لم يأخذ

من غيره ...».

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 394: «قلنا: أمّا العلم بأنّه لم يأخذ من أحد ظهر

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 181

و قد تعلّق بعضهم بأنّ المراعى هو خرق العادة، و لو كان القرآن مأخوذا من الغير على الوجه الّذي ذكرتم لم يخرج من حصول خرق العادة به، لا سيّما و العادة جارية بأنّ مثل ما ادّعيتموه لو وقع لظهر و انتشر. و إذا لم يظهر فليس ذلك إلّا لأنّ اللّه تعالى شغل النّاس عنه، و عدل بهم عن ذكره.

قالوا: فقد حصل ما نريده من خرق العادة على كلّ وجه.

و هذا بعيد جدّا؛ لأنّ خرق العادة و إن كان حاصلا في القرآن فلم يحصل لنا اختصاص من ظهر على يده به على وجه يوجب أنّ العادة إنّما خرقت من أجله، و على سبيل التّصديق له.

و خرق العادة غير كاف إذا لم تعلم ما ذكرناه من الاختصاص، أ لا ترى أنّ مدّعيا لو ادّعى النّبوّة و حصل علمه ببعض الحوادث البديعة الّتي قد تقادم وجودها، و لم تقع مختصّة بدعوة أحد بعينه، أو جعل (معجزته إحدى) «1» معجزات الأنبياء المتقدّمين و ادّعى أنّه المخصوص بالتّصديق بذلك، لم نحفل بقوله، من حيث عدمنا فيما ادّعاه الاختصاص الّذي لا بدّ منه، و إن كان خارقا للعادة.

هذا إذا نسبنا خرق العادة إلى اللّه عزّ و جلّ من حيث نزّل الكتاب. فإن نسبنا خرقها إلى من أظهره لنا، و سمعناه من جهته، و جعلنا إنزاله إلى من أنزل إليه غير معتدّ به في باب خرق العادة، من حيث لم نقف عليه، و اعتبرنا في عادتنا ما اطّلعنا

______________________________

على يده و عرفت أخباره و انتشرت، فثابت

لا محالة. و هو على خلاف ما تضمّنه السؤال؛ لأنّه تضمّن أنّه أخذه ممّن لم يظهر له حال، و لا وقف له على خبر سواه، و كذلك العلم بأنّه لم يأخذه من غيره، لا بدّ من أن يكون مشروطا بما ذكرناه، و كيف يدّعي إطلاقا أنّه لم يأخذه من غيره، و هو يذكر أنّ الملك نزل به عليه؟ فيجب أن يقولوا إنّه لم يؤخذ من أحد من البشر، و إذا فرضنا أنّ المأخوذ منه ذلك من البشر لم يطّلع على حاله سواه، لحق البشر في هذا بالملك».

(1) في الأصل: معجزة أحد، و ما أثبتناه هو المناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 182

عليه و أحطنا علما به؛ فإنّ الكلام يكون أوضح «1»، و سقوط الاحتجاج بما ذكروه أبين؛ لزوال أن يكون الاختصاص و خرق العادة جميعا من قبل القديم تعالى.

فأمّا قولهم: إنّ مثل ذلك لو جرى لوجب ظهوره بالعادة، و إذا لم يظهر فلأمر من قبل اللّه تعالى؛ فليس بصحيح؛ لأنّ العادة إن اقتضت ظهور أمثال ما ذكرناه و انتشاره، فإنّما تقتضيه فيما وقع في أصله ظاهرا. و الإلزام بخلاف ذلك؛ لأنّهم إنّما ألزموا أن يكون مأخوذا ممّن لم يظهر على يده، و لا سمع من جهته، و لا اطّلع أحد غير آخذه على حاله، و العادة لا تقتضي ظهور مثل هذا، فمن ادّعى اقتضاءها لظهوره- و إن كان على ما مثّلناه- طولب بالدّلالة على صحّة قوله، و لن يجدها! و ممّا تعلّقوا به أيضا، أن قالوا: تجويز ما ألزمناه في القرآن يؤدّي إلى تجويز مثله في سائر معجزات الأنبياء صلوات اللّه عليهم، و يقتضي الشّكّ في وقوع جميعها على هذا الوجه.

قالوا: فإن

قيل لنا أنّ تلك المعجزات مباينة للقرآن من حيث علمت حادثة في الحال، على وجه يوجب الاختصاص و يرفع الشّكّ.

قلنا: أ ليس من قبل أن ينكر المستدلّ، فنعلم حدوثها في الوقت، و وقوع الاختصاص التامّ بها، يجوز فيها ما ذكرتموه؟

و إذا جوّز ذلك كان تجويزه منفّرا له عن النّظر فيها. فإن كان لو نظر لعلم ما أمن من وقوع التّنفير عن النّظر في أعلام سائر الأنبياء، يؤمن من حصول ما ألزمناه في القرآن.

و ليس هذا بشي ء؛ لأنّ تجويز المستدلّ النّاظر في المعجزات- قبل أن يعلم حدوثها، و ثبوت الاختصاص بها- أن تكون غير حادثة، و لا مقتضية

______________________________

(1) في الأصل: واضح، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 183

للاختصاص، لا يقتضي التّنفير عن النّظر فيها حسب ما ظنّوه. و كيف نظنّ مثل ذلك و نحن نعلم أنّ النّاظر في كلّ علم من أعلام «1» الأنبياء عليهم السّلام، يجوّز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة «2» و شعبذة، و غير موجب لتصديق من ظهر عليه؛ لأنّه لو لم يكن مجوّزا لما ذكرناه لكان عالما بأنّه علم معجز. و لو كان عالما لم يصحّ أن ينظر فيه ليعلم أنّه معجز، (و تجويزه أن يكون غير معجز في الحقيقة) «3».

فإن كان ظاهره الإعجاز لا يقتضي تنفيره «4» عن النّظر فيه، بل نظره فيه واجب، من جهة الخوف القائم، و عدم الأمان من أن يكون المدّعي صادقا.

فكذلك حكم النّاظر في الأعلام- مع تجويزه أن تكون غير حادثة و لا مختصّة- لا يجب أن يكون تجويزه منفّرا عن النّظر؛ لأنّ الخوف الموجب للنّظر و البحث قائم «5».

و ممّا يمكن أن يتعلّقوا به أن يقولوا: لو كان

القرآن مأخوذا من نبيّ خصّه اللّه به و أنزله عليه لم يخل حاله من وجهين:

إمّا أن يكون قد أدّى الرسالة، و صدع بالدّعوة، و ظهر أمره، و انتشر خبره.

أو يكون لم يؤدّها.

فإن كان الأوّل: استحال أن يخفى أمره، و تنطوي حال من قتله و غلبه على

______________________________

(1) في الأصل: علم، و المناسب ما أثبتناه.

(2) أي ادعاء و كذبا.

(3) كذا في الأصل: و تبدو العبارة غير مستقيمة.

(4) في الأصل: بتغيّره، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(5) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 394: «إنّ تجويز المستدلّ الناظر في المعجزات أن تكون غير حادثة و لا مختصّة لا يقتضي التنفير عن النظر فيها. و كيف يكون ذلك و يحسن أن كلّ ناظر في علم من أعلام الأنبياء عليهم السّلام يجوّز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة و شعبذة، و لم يقتض ذلك تنفيره عن النظر فيه، بل واجب نظره لثبوت الخوف و عدم الأمان من أن يكون المدّعي صادقا».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 184

كتابه، لا سيّما مع البحث الشّديد و التتبّع التامّ.

و إذا كنّا- مع ما ذكرناه من الفحص و البحث- لا نقف «1» على خبره من هذه صفته، وجب القضاء ببطلانه.

و إن كان الثّاني: فالواجب على اللّه تعالى أن يمنع من قتله ليقوم بأداء الرّسالة؛ لأنّه إذا كان الغرض ببعثته تعريفنا مصالحنا، و تنبيهنا على ما لا نقف عليه إلّا من جهته؛ فليس يجوز أن يمكّن اللّه تعالى من اقتطاعه عن ذلك، كما لا يجوز أن يقتطعه هو عنه، و لهذا يقال: إنّ النّبيّ إذا علم أنّ عليه شيئا من الرّسالة لم يؤدّه بعد، فإنّه لا بدّ أن يكون قاطعا على أنّه سيبقى إلى

أن يؤدّيه، و يأمن القتل و غيره من القواطع عن الأداء.

و إذا فسد الوجهان جميعا، بطل السّؤال «2».

و هذا أيضا غير صحيح؛ لأنّه ليس بمنكر أن يكون ذلك النّبيّ مبعوثا إلى واحد من النّاس، فإنّ جواز بعثة الرّسل إلى آحاد النّاس في العقول، كجواز بعثتهم إلى جماعتهم. و إذا جاز أن يكون مبعوثا إلى الواحد، فما الّذي تنكر من أن يقتل هو و الّذي بعث إليه معا، و ينتزع الكتاب من يده بعد أدائه الرّسالة و قيامه بتكليفها؟

أو يكون مبعوثا إلى الّذي قتله و أخذ الكتاب منه وحده، و نقدّر أنّه أوقع القتل به بعد أداء الرّسالة، حتّى لا يوجبوا على اللّه تعالى المنع من قتله.

______________________________

(1) في الأصل: لا يقف، و المناسب ما ذكرناه.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 395: «و ممّا يمكن أن يتعلّقوا به: أنّ القرآن لو كان مأخوذا من نبيّ خصّه اللّه تعالى به، و لم يخل حاله من وجهين: إمّا أن يكون قد أدّى الرسالة، و ظهر أمره، و انتشر خبره. أو لم يؤدّها.

و في الوجه الأوّل: استحالة أن يخفى خبره و ينطوي حال من قتله و غلبه على كتابه، لا سيّما مع البحث الشديد و التنقير الطويل. و إن كان على الوجه الثاني: وجب على اللّه تعالى أن يمنع من قتله، و إلّا انتقض الغرض في بعثته».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 185

و أمّا الجواب الّذي ابتدأناه و وعدنا بذكره و استمراره على أصول الجميع، فهو «1»: أنّ القرآن نفسه يدلّ على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله هو المختصّ به دون غيره، فممّا تضمّنه- ممّا يدلّ على ذلك- قوله تعالى في قصّة المجادلة:

قَدْ سَمِعَ

اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ إلى قوله تعالى: وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ «2».

و قد جاءت الرّواية بأنّ جميلة زوجة أوس بن الصّامت «3» (و قيل: خولة بنت ثعلبة) ظاهر منها زوجها، فقال: أنت عليّ كظهر أمّي! و كانت هذه الكلمة ممّا يطلق بها في الجاهلية، فأتت المرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و شكت حالها، فقال عليه و آله السّلام: ما عندي في أمرك شي ء! فشكت إلى اللّه تعالى.

و روي أنّها قالت للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، و إن ضممتهم إليّ جاعوا. فأنزل اللّه تعالى كفّارة الظّهار على ما نطق به القرآن «4».

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 395: «و قد كنّا ذكرنا في كتابنا الموضح عن إعجاز القرآن جوابا سديدا عن هذا السؤال، يمكن أن نجيب من ذهب في القرآن إلى خرق العادة بفصاحته، و إن كنّا ما قرأنا لهم في كتاب، و لا سمعناه في مناظرة و لا مذاكرة، و إنّما أخرجناه فكرة، و هو أنّ القرآن عند التأمّل له يدلّ على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله هو المختصّ به، و المظهر على يده دون غيره، فما تضمّنه القرآن ممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى في قصّة المجادلة ...».

(2) سورة المجادلة: 1- 3.

(3) هو أوس بن الصامت بن قيس بن أحرم الأنصاريّ الخزرجيّ، و أمّه قرّة العين بنت عبادة، و أخوه عبادة بن الصامت، و زوجته خولة بنت ثعلبة الخزرجيّة. صحابيّ من الأنصار، شاعر، و كان به خفّة و

مسّ من الجنون. و قصّة ظهاره مع زوجته التي كانت السبب في نزول آية الظهار معروفة مشهورة.

(4) راجع: تفسير التبيان 9/ 541، تفسير مجمع البيان 9/ 247، تفسير الطبريّ 28/ 2.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 186

و من ذلك قوله مخبرا عن المنهزمين عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في يوم أحد «1»:

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ «2».

و قد وردت الرّواية في هذه القصّة مطابقة للتّنزيل.

و قوله تعالى «3»: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «4».

و قد جاءت الأخبار بأنّ بعض الصّحابة قال في ذلك اليوم: لن نغلب اليوم من قلّة! و هو الذي عني بقوله تعالى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ.

و أنّ النّاس جميعا تفرّقوا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فأسلموه «5»، و لم يثبت معه في الحال غير أمير المؤمنين عليه السّلام، و العبّاس بن عبد المطّلب رحمة اللّه عليه، و نفر من بني هاشم.

و من ذلك قوله تعالى «6»: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «7».

و وردت الرّواية بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يخطب على المنبر يوم الجمعة، إذ أقبلت إبل لدحية الكلبيّ، و عليها تجارة له، و معها من يضرب بالطّبل، فتفرّق النّاس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الإبل لينظروا إليها، و بقي صلّى اللّه عليه و آله في عدّة قليلة، فنزلت الآية المذكورة.

______________________________

(1)

قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 396: «و من ذلك قوله مخبرا عمّن انهزم من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في يوم أحد عنه و ولّى عن نصرته ...».

(2) سورة آل عمران: 153.

(3) كذلك في كتاب الذخيرة/ 396.

(4) سورة التوبة: 24- 25.

(5) أي تركوه.

(6) كذلك في كتاب الذخيرة/ 396- 397.

(7) سورة الجمعة: 11.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 187

و من ذلك قوله تعالى «1»: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «2».

و القائل- حكي في الآية، على ما أتت به الرّواية- عبد اللّه بن أبيّ بن سلول «3».

و من ذلك قوله عزّ و جلّ «4»: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ «5».

و القصّة الّتي أنزلت هذه الآية فيها، مشهورة؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أسرّ إلى إحدى زوجاته سرّا، فأظهرت عليه صاحبة لها من الأزواج أيضا، و فشا من جهتها، فأطلع اللّه تعالى على فعلهما النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فعاتب المبتدئة بإظهاره، فأجابته بما هو مذكور في الآية «6». و شرح الحال معروف، و قد أتت به الأخبار.

______________________________

(1) كذلك في كتاب الذخيرة/ 397.

(2) سورة المنافقون: 8.

(3) هو أبو الحبّاب، عبد اللّه بن أبيّ بن مالك الأنصاريّ الخزرجيّ، عاصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بدء الدعوة و كان يهوديّا، و أصبح من أكثر المشركين إيذاء و حسدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى

صار رأس النفاق في المدينة. أظهر الإسلام بعد وقعة بدر الكبرى نفاقا و بغيا و خوفا، فحاول أن يخذّل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين و يشمت بهم إذا حلّت بهم نازلة و ينشر كلّ سيّئة يسمعها عنهم، و لم يزل على كفره و نفاقه حتّى أصيب بمرض قضى عليه في السنة التاسعة للهجرة.

(4) كذلك في كتاب الذخيرة/ 397.

(5) سورة التحريم: 3.

(6) من الآيات النازلة بذمّ حفصة بنت عمر بن الخطّاب و عائشة بنت أبي بكر زوجتي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حيث خالفتا النبيّ و تظاهرتا عليه و أفشتا سرّه صلّى اللّه عليه و آله، فعاتب عليه السّلام إحداهما و أعرض عن الثانية، و القضية مشهورة ثابتة و الأخبار الواردة فيها متواترة.

و إليك نصّ الخبر الذي يرويه البخاريّ 6/ 274 بسنده عن عائشة نفسها: «قالت: كان

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 188

و من ذلك قوله تعالى «1»: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ إلى قوله:

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «2».

و ما وردت به الرّواية من خروج النّبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] خائفا من قريش و استتاره في الغار، و أبو بكر معه، و نهيه له عمّا ظهر منه من الجزع و الخوف مطابق لظاهر القرآن.

و من ذلك قوله تعالى «3»: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ

لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا «4».

و على ما تضمّنت الآية جرت الحال بين النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و زيد بن حارثة.

فأمّا قوله تعالى: وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فتأويله الصّحيح أنّ اللّه تعالى كان أوحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بأن يتزوّج امرأة زيد، و أعلمه أنّه سيطلّقها، و أراد تعالى بذلك نسخ ما كانت الجاهليّة عليه من حظر نكاح أزواج أدعيائهم على نفوسهم.

______________________________

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش و يمكث عندها، فواطأت أنا و حفصة عن أيّتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، [مغافير جمع مغفور و هو صمغ حلو و له رائحة كريهة] إنّي أجد منك ريح مغافير! قال: لا، و لكنّي كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، و قد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا».

(1) ورد الاستشهاد بالآية في كتاب الذخيرة/ 397.

(2) سورة التوبة: 40.

(3) ورد الاستشهاد بالآية كذلك في كتاب الذخيرة/ 397- 398.

(4) سورة الأحزاب: 37.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 189

و «الدّعيّ» هو الغلام الذي يربّيه أحدهم و يكفل به، و يدعوه ولده، و إن لم يكن ولده في الحقيقة.

فلمّا حضر زيد لطلاق زوجته أشفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أن يحسّن له طلاقها، أو يمسك عن وعظه، و أمره بالتأنّي و التثبّت- مع ما عزم عليه من نكاح زوجته بعده، فيرجف «1» به المنافقون، و ينسبوه «2» إلى ما قد نزّهه اللّه تعالى عنه و باعده منه- فقال

له: «أمسك عليك زوجك»، و أخفى في نفسه إرادته لطلاقها، من حيث تعلّق عليه فرض نكاحها، مراعاة لما ذكرناه.

و ظاهر الآية يشهد بصحّة هذا التأويل شهادة تزيل الشّكّ و ترفع الرّيب، و لو لم يكن إلّا قوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً.

و إنّما أحوجنا «3» إلى ذكر تأويل الآية- و إن لم يكن ممّا نحن فيه- الخوف من أن يتعلّق به نفس، فإنّ كثيرا من النّاس قد اشتبه عليه تأويلها، و نسب إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما لا يليق به.

و لما ذكرناه من الآيات المطابقة للحوادث الواقعة و القصص الحادثة، نظائر يطول ذكرها في كثير «4» من القرآن إن «5» لم يكن أكثره.

و أردنا «6» اقتصاص أخبار النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مغازيه و وقائعه و فتوحه، و ما لقي

______________________________

(1) أرجف القوم في الشي ء: أي أكثروا من الأخبار السيّئة و اختلاق الأقوال الكاذبة حتّى يضطرب الناس منها.

(2) في الأصل: و ينسبوها، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: أحرجنا، و الظاهر ما أثبتناه.

(4) في الأصل: و كثير، و ما أثبتناه مناسب للسياق. الموضح عن جهة إعجاز القرآن النص 189 و قد سأل المخالفون أيضا، فقالوا: ..... ص : 178

(5) في الأصل: و إن، و يبدو أن الواو زائدة.

(6) كذلك في كتاب الذخيرة/ 398.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 190

من أعدائه و المتظاهرين بحربه من الأقوال و الأفعال المخصوصة، ثمّ من المنافقين و المختلفين به ممّن أظهر الولاية و أبطن العداوة.

و ندلّ أيضا بذكر ما كان الرّسول يسأل عنه إمّا استرشادا أو إعناتا؛ كقصّة المجادلة الّتي حكيناها، و كمسألتهم له صلّى

اللّه عليه و آله عن الرّوح، و كقولهم:

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «1».

فلو كان القرآن مأخوذا من نبيّ مخصوص به، ليس هو من ظهر إلينا من جهته، لم يخل الحال في الأخبار الواردة المطابقة للقصص و الحوادث- الّتي حكينا بعضها و أشرنا إلى جميعها- من أمرين:

إمّا أن تكون مخبراتها واقعة فيما تقدّم، حتّى تكون مثل جميع القصص و الوقائع و الأفعال و الأقوال المذكورة، قد جرى لذلك النّبيّ.

أو يكون لم يجر ذلك فيما تقدّم، بل جرى في الأوقات الّتي علمناها، و ورد الخبر بوقوعه فيها. و تكون الأخبار المذكورة- و إن كانت بلفظ الماضي- إخبارا عمّا يحدث في الاستقبال «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء: 90- 92.

(2) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 398: «و لم تخل هذه الأخبار المطابقة القصص و الوقائع و الأفعال و الأقوال و السؤالات و الجوابات، و قد جرى لذلك فيما تقدّم، بل جرى في هذه الأوقات التي وردت الأخبار بوقوعها فيها. و تكون الأخبار- و إن كانت بلفظ الماضي- إخبارا عمّن يحدث في المستقبل، فذلك جائز على مذهب أهل اللسان».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 191

و القسم الأوّل يفسد من وجهين «1»:

أحدهما:

أنّ بعض هذه السّير و الحوادث- فضلا عن جميعها- لو وقع متقدّما، لوجب أن نعلمه نحن و كلّ عاقل سمع الأخبار و أحاط بأهلها علما لا تعترض فيه الشّكوك، و لكان الخبر بذلك منتشرا مستفيضا كاستفاضة أمثاله.

و كيف لا يعلم حال (نبيّ للّه تعالى كثر أعوانه) «2» و أصحابه، و كان منهم مهاجرون و

أنصار، و مناصحون و منافقون. و نازل أعداءه و نازلوه، و حاربهم «3» في مواطن أخر «4» و حاربوه، و حاجّهم في مقامات معلومة و بأقوال مخصوصة و حاجّوه، و استفتي، و أنزلت به المعضلات، و اقترحت عليه الآيات و المعجزات، و أظهر دينه و شرعه على سائر الأديان و الشّرائع، حسب ما تضمّنه القرآن؟! فأيّ طريق للشّكّ على عاقل في خفاء مثل هذا، و كلّ الأسباب الموجبة للظّهور و الاستفاضة المتفرّقة مجتمعة فيه- و إن كان أعداء نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله عن الظّهور على ما ادّعى، و المواقفة «5» عليه و الاحتجاج به و عهدهم به قريب، و هو واقع في

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 398- 399: «و القسم الأوّل يبطل من وجهين:

أحدهما: أنّ ذلك لو جرى فيما مضى لوجب أن يعلمه كلّ عاقل سمع الأخبار؛ لأنّ وجوب استفاضته و انتشاره يقتضي عموم العلم. و كيف لا نعلم حال نبيّ كثر أعوانه، و كان منهم مهاجرون و أنصار، و مخلصون و منافقون، و حارب في وقعة بعد أخرى و حورب، و استفتي في الأحكام، و اقترحت عليه الآيات و المعجزات، و لكان أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يواقفون على هذه الحال، و يسارعون إلى الاحتجاج بها. و إنّما استحقّ هذا السؤال تكلّف الجواب عنه، لمّا تضمّن أنّ الكتاب أخذ ممّن لا يعرف له خبر، و لا وقف له على أثر، و لا بعث إلّا إلى الذي أخذ الكتاب منه!».

(2) في الأصل: نبيّ اللّه تعالى كثرة أعوانه، و المناسب ما أثبتناه موافقا لما في الذخيرة.

(3) في الأصل: و حاربه، و المناسب ما أثبتناه.

(4) في الأصل: في موطن آخر،

و الظاهر ما أثبتناه.

(5) في الأصل: و الواقعة، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 192

زمانهم و بلادهم، و بأعينهم و أسماعهم؟! «1» و هذا ممّا لا يتوهّمه إلّا ناقص العقل، خال من الفطنة! و كلامنا إنّما وقع فيمن لم يظهر له على خبر و لا أثر، و لا علم له و لا وليّ و لا عدوّ، و فرض نزول الكتاب عليه في فلاة من الأرض لا أنيس فيها له و لا صاحب غير من قدّرنا أنّه قتله و أخذ الكتاب من يده.

فاستحقّ السّؤال بهذا الترتيب و التقدير بعض الجواب، و لو كان متضمّنا لما ذكرناه آنفا لم يستحقّ جوابا، لكان «2» المتعلّق به مجنونا «3».

و الوجه الثّاني من إفساد القسم الأوّل:

أنّ ما حكيناه من القصص و السّير و الحوادث و الوقائع، لو كان جرى متقدّما لاستحال أن يتّفق حدوث أمثاله و ما هو على سائر صفاته؛ لأنّ استحالة ذلك في العادة معلوم لكلّ عاقل ضرورة، بل معلوم عند العقلاء أنّ حدوث مثل قصّة واحدة تقدّمت في سائر صفاتها و خصائصها، حتّى لا تغادر شيئا، مستحيل. و لهذا نحيل أن يبتدئ الإنسان قصيدة من الشّعر أو كتابا مصنّفا، فيتّفق لجماعة أو واحد مواردته في جميع قصيدته أو كتابه حرفا بحرف.

و إذا كنّا قد أحطنا علما بحدوث مخبرات الأخبار- الّتي أشرنا إليها- على يد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و متعلّقة به و بزمانه، مطابقة للقرآن، فقطعنا على أنّ أمثالها و ما هو مختصّ بجميع صفاتها لم يقع فيما مضى. و كان ذلك في النّفوس أبعد من النّوادر في القصائد و الكتب.

و ليس يخفى على من كان له حظّ من العقل أنّ مثل وقعة بدر

و حنين- في جميع أوصافهما و مكانهما، و فرار من فرّ عنهما، و ثبات من ثبت، إلى غير ذلك

______________________________

(1) يبدو أنّ في العبارة اضطرابا أو سقطا.

(2) في الأصل: و لعلّ، و الظاهر ما أثبتناه.

(3) في الأصل: مجبنوبا.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 193

من أحوالهما الّتي جرت- لم يقع فيما مضى. و أنّه لم يكن على عهد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله نبيّ جاءته المجادلة تستفتيه في الظّهار، و سئل عن الرّوح «1»، و انفضاض «2» أصحابه عنه في يوم الجمعة طلب اللّهو، و أسرّ إلى زوجته حديثا أفشته، و التّستّر في الغار مع بعض أصحابه، إلى سائر ما عددناه. و لا معنى للإسهاب فيما جرى هذا المجرى في الظّهور و الوضوح «3».

و أمّا القسم الثّاني

و هو أن تكون هذه الأخبار إخبارا عمّا سيحدث في الوقت الّذي حدثت فيه، و لا تكون مخبراتها واقعة فيما تقدّم؛ ففاسد.

فإن عدلنا عن المضايقة في لفظ الأخبار، و دلالة جميعها على الماضي الواقع، و ذلك أنّ جميع الأخبار الّتي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه، و تصديقه و نبوّته. أ لا ترى إلى توبيخه تعالى للمولّين عن نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم بدر «4» و حنين، و تقريعه لهم من شهادته له بالرّسالة، بقوله تعالى:

______________________________

(1) في الأصل: الزوج، و المناسب ما أثبتناه، قال تعالى: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...».

(2) في الأصل: نفوض، و المناسب ما أثبتناه.

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 399: «و أمّا الوجه الثاني في إبطال القسم الأوّل: أنّ العادات تقتضي باستحالة أن يتّفق نظائر و أمثال لتلك القصص الّتي حكيناها، حتّى لا يخالفها في شي ء، و لا يغادر

منها شي ء شيئا. و استحالة ذلك كاستحالة أن يوافق شاعر شاعرا على سبيل المواردة في جميع شعره و في قصيدة طويلة. و من تأمّل هذا حقّ تأمله، علم أنّ اتّفاق نظير لبعض هذه القصص محال، فكيف أن يتّفق مثل جميعها».

(4) كذا في الأصل، و الصحيح يوم أحد بدل بدر، حيث إنّ الصحابة تركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وحده- و لم يبق معه إلّا نفر قليل من أهل بيته- و انهزموا جميعا في معركتي أحد و حنين، أمّا معركة بدر فإنّ النصر فيها كان حليف المسلمين و كانت الهزيمة للمشركين.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 194

وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ «1»، و بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «2»، و هكذا قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ «3»، بعد حكايته عن عبد اللّه بن أبيّ المنافق قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ «4»، و قوله: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً «5».

و جميع القصص إذا وجدتها شاهدة بما ذكرناه و دالّة عليه و أنّ الأمر على ما قلناه، كيف كان يحسن بيان حكم ما سألت عنه المجادلة من الظّهار؟ و إنّما سألت- على دعوى الخصم- من ليس يتبيّن عمّا لا يجب بيانه «6»، بل لا يحسن.

و من تأمّل ما حكيناه و أمثاله من أخبار القرآن علم أنّ الّذي تعلّقت به هذه الأخبار معظّم مصدّق، مشهود له بالنّبوّة.

و إذا كنّا «7» قد دللنا بما تقدّم على أنّها لم تكن أخبارا عن غير نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و لا نازلة إلّا في قصصه و حروبه و الحوادث في أيّامه؛ وجب أن يكون هو- عليه

و على آله السّلام- المختصّ بالتّصديق و التّعظيم دون غيره «8».

و ليس لأحد أن يقول: فلعلّ ما ذكرته من الأخبار الواردة في القصص المعنيّة ليست من جملة الكتاب المعجز الّذي أشرنا إليه، بل من فعل البشر، و إنّما ألحقت

______________________________

(1) سورة آل عمران: 153.

(2) سورة براءة (التوبة): 26.

(3) سورة المنافقون: 8.

(4) سورة المنافقون: 8.

(5) سورة التحريم: 3.

(6) كذا في الأصل.

(7) في الأصل: كان، و المناسب ما أثبتناه.

(8) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 399- 400: «و أمّا القسم الثاني: و هو أن يكون هذه الأخبار إنّما هي عمّا يحدث مستقبلا في الأوقات التي حدثت، و الذي يبطله- إذا تجاوزنا عن المضايقة في أنّ لفظ الماضي لا يكون للمستقبل- أنّا إذا تأمّلنا وجدنا جميع الأخبار التي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه و تصدّق دعوته و نبوّته. أ لا ترى إلى توبيخه تعالى للمولّين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم أحد و حنين ... فكلّ القصص إذا تؤمّلت، علم أنّها شاهدة بنبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و صدقه».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 195

بالكتاب، و أضيفت إليه «1»؛ لأنّ الّذي يؤمن من ذلك علمنا بأنّ كلّ آية- أو آيات- اختصّت بالقصص و الحوادث المذكورة تزيد «2» على مقدار أقصر سورة من القرآن كثيرا. و من سبر ما قلناه عرف صحّته «3».

و إذا كنّا قد بيّنا أنّ التّحدّي وقع بسورة غير معيّنة، و أنّ المعارضة تعذّرت، فلا بدّ من القطع على أنّ مقدار أقصر سورة من سوره متعذّر «4» غير ممكن، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما تلوناه من الآي- أو ما اختصّ بقصّة واحدة منه- ممكنا

لأحد من البشر؟! و لو تأتّى ذلك من أحد لتأتّى للعرب مع اجتهادهم و حرصهم! فإن قيل: فاذكروا الجواب الّذي يختصّ به أهل الصّرفة، كما وعدتم.

قيل: أمّا الجواب عن السّؤال على مذهب الصّرفة، فواضح قريب؛ لأنّا إذا كنّا قد دللنا على أنّ تعذّر المعارضة على العرب لم يكن لشي ء ممّا يدّعيه خصومنا، و إنّما كان لأنّ اللّه تعالى سلبهم في الحال العلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة، و أنّ هذه كانت حال كلّ من رام المعارضة و قصدها، فقد سقط السّؤال عنّا؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو لم يكن صادقا، و كان ناقلا للكتاب عن غيره- كما ادّعوا- لم يحسن صرف من رام معارضته و الرّدّ عليه؛ لأنّ ذلك نهاية التّصديق و الشّهادة بالنبوّة، لأنّه- صلوات اللّه عليه و آله- على مذهبنا إنّما تحدّاهم بهذا الوجه دون غيره، فكأنّه

______________________________

(1) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 400: «و ليس لأحد أن يقول: فلعلّ هذه الآيات المقصوصة ليست من جملة الكتاب المعجز فيه، و إنّما ألحقت و أضيفت إليه».

(2) في الأصل: و يزيد، و المناسب ما أثبتناه وفقا لما في الذخيرة.

(3) قال المؤلّف في الذخيرة/ 400: «و ذلك أنّ الذي يؤمن من هذا الطعن: أنّا قد علمنا أنّ كلّ آية أو آيات اختصّت بما ذكرناه من القصص و الحوادث، تزيد على مقدار سورة قصيرة، و هي التي وقع التحدّي بها و تعذّرت معارضتها، فلو تأتّى لملحق أن يلحق بالقرآن مثل هذه الآيات لكان ذلك من العرب الّذين تحدّوا به أشدّ تأتّيا و أقرب تسهّلا».

(4) في الأصل: متعذّرة، و هي لا تناسب السياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 196

على التقدير قال: الدّلالة

على نبوّتي أنّ اللّه تعالى يصرفكم عن معارضتي متى رمتموها. فإذا صرفهم اللّه تعالى عن المعارضة فقد فعل ما التمسه، و ذلك غاية التّصديق.

و إنّما توجّه هذا السّؤال الّذي ذكرناه، و صعب جوابه على طريقتهم، من حيث جعلوا المعجز أمرا لا يعلم حدوثه في الحال، و يمكن أن يكون منقولا. فأمّا من جعل المعجز ما يقطع على حدوثه في الحال، و ثبوت الاختصاص التامّ فيه، فلا يوجّه السّؤال عليه جملة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 197

فصل في بليغ [ما] ذكره صاحب الكتاب المعروف ب (المغني) ممّا يتعلّق بالصّرفة

قال الشريف المرتضى رضوان اللّه عليه:

قال صاحب هذا الكتاب «1»، في فصل وسمه ب «بيان ما يجب أن يعلم من حال القرآن في الاختصاص ليصحّ الاستدلال به على صحّة النّبوّة» «2».

اعلم أنّ الّذي يجب أن يعلم في ذلك: ظهوره عند ادّعاه النبوّة من قبله، و جعله إيّاه دلالة «3» على نبوّته. و كلا الوجهين منقول بالتّواتر معلوم باضطرار، و ما عدا ذلك ممّا يشتبه الحال فيه، قد يصحّ الاستدلال بالقرآن، و إن [لم] «4» يعلم فلا وجه لذكره الآن، و إنّما يجب فيما حلّ هذا المحلّ أن نتشاغل بحلّ الشبه فيه عند ورود المطاعن، و إن كان الاستدلال «5» صحيحا، و إن لم يخطر بالبال- على ما ذكرناه في كثير من أصول الأدلّة- فليس لأحد أن يقول: يجب أن

______________________________

(1) يقصد به القاضي عبد الجبّار الأسدآبادي في كتابه المعروف ب «المغني في أبواب التوحيد و العدل» حيث ينقل الشريف أقوالا للقاضي و ردت في الجزء السادس عشر، و هو الجزء المتعلّق ب «إعجاز القرآن»، و الذي طبع بتحقيق أمين الخوليّ. و ستكون ارجاعاتنا لأرقام الصفحات و عناوين الأبواب و الفصول من هذه الطبعة.

(2) المغني 16/ 167- 168.

(3) في المغنى: دليلا.

(4) من المغني.

(5) في

المغني: الاستدلال الأوّل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 198

يعلم «1» أوّلا أنّ هذا القرآن لم يظهر في السّماء على ملك، أو في الأرض على نبيّ أو غيره «2»، و خفي أمره ثمّ جعله صلّى اللّه عليه و آله دلالة على نبوّته «3»؛ لأنّ هذا الجنس من الشّبه- ما لم يخطر (بالبال) «4»- لم يجب التّشاغل به.

و لا يمتنع «5» على كلّ حال من العلم بأنّه صلّى اللّه عليه و آله قد اختصّ بالقرآن (اختصاصه بالرّسالة و بالدّعوى، إلّا ما قد عرفناه؛ لأنّه إن أحدث) «6» في السّماء على ملك، فالاختصاص لا يصحّ إلّا على هذا الوجه. و لا يجوز أن يطلب في الاختصاص ما لا يمكن أكثر منه، و هذا كما نقوله في تعلّق الفعل بالفاعل؛ لأنّه لا يمكن فيه أكثر من وجوب وقوعه بحسب أحواله، فمتى طالب المطالب فيه بأزيد من هذا التعلّق «7» فقد طلب المحال «8»، لأنّا إن قلنا (فيه: إنّه) «9»: يجب كوجوب المعلول فيه عن العلّة إلى ما شاكله، كان ذلك ناقضا للفعل و الفاعل بطريق «10» إثباتهما.

فكذلك القول في القرآن، لأنّا نعلم أنّه لو لم يحدث إلّا عند ادّعاء النبوّة، ما كان يكون له من الحكم إلّا ما قد عرفناه، فإذا كان لو كان حادثا لدلّ على النّبوّة، فكذلك [متى] «11» جوّز «12» خلافه، فيجب أن لا يقدح في كونه دالّا، بل يجب إبطال التّجويز بحصول طريقة الدلالة، كما أوجبنا على من قال: جوّزوا أنّ

______________________________

(1) في المغني: نعلم.

(2) في المغني: نبيّ غيره.

(3) في المغني: دلالة النبوّة.

(4) ليست في المغني.

(5) في المغني: يمنع.

(6) في المغني: «لأنّه إذا علم هذا الاختصاص الذي لا يمكن غيره قد حصل المراد. و

قد علمنا أنّه لا يمكن في القرآن اختصاص بالرسول و بالدعوى، إلّا ما قد عرفناه، لأنّه إن لم يحدث إلّا في تلك الحال لم يصحّ في الاختصاص غيره».

(7) في المغني: المتعلّق.

(8) في المغني: طالب بالمحال.

(9) من المغني.

(10) في المغني: و طريق.

(11) من المغني/ 168.

(12) في المغني: جوّز فيه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 199

الفعل من اللّه تعالى «1» يقع بحسب مقاصد العبد، و أن لا يدلّ على ما ذكرتموه من وجوب وقوعه بحسب مقاصده، على أنّه لو «2» فعله ينبغي أن يبطل التجويز «3» بطريق الدّلالة؛ لأنّ التّجويز شكّ و إمكان، فكلاهما لا يقدح في الدّليل. و كذلك القول فيما ذكرناه من حال القرآن».

الكلام عليه فنقول و باللّه التوفيق:

إنّ الواجب، قبل مناقضته، بيان مقدّمة موجزة فيما يحتاج المعجز إليه من الشرائط، ليتكامل دلالته على صدق المدّعي:

و أحد شروط المعجز: أن يكون من فعل اللّه تعالى.

و الثاني: أن يكون ناقضا للعادة الّتي تختصّ من ظهر فيهم.

و الثالث: أن يخصّ اللّه تعالى به المدّعي النبوّة على وجه التّصديق لدعواه.

و إن شئت أن تختصر هذه الجملة، فتقول:

المعجز هو: «ما فعله اللّه تعالى تصديقا لمدّعي النبوّة» فيشتمل كلامك على جميع ما تقدّم.

و إنّما لم يدخل في جملة الشّروط أن يكون ممّا يتعذّر على الخلق فعل مثله، إمّا في جنسه، أو في صفته المخصوصة؛ لأنّ الشّرط الأوّل الّذي قدّمناه لا يمكن العلم بثبوته إلّا بعد العلم بأنّه ممّا يتعذّر على الخلق فعل مثله؛ و إلّا فلا سبيل إلى القطع على أنّه فعل اللّه تعالى و تقديم «4» الشّرط الأوّل يغني عنه.

فأمّا ما يلحقه قوم بشروط المعجز من كونه واقعا في حال التكليف، احترازا من الطّعن بما يوجد في ابتداء وضع العادات، و

بما يفعل مع زوال التّكليف عند

______________________________

(1) في المغني: من الفاعل.

(2) ليست في المغني.

(3) في المغني: نبطل هذا التجويز.

(4) في الأصل: بتقديم، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 200

أشراط السّاعة، فهو كالمستغنى عنه، و إن كان لذكره على سبيل الإيضاح و إزالة الإيهام وجه؛ لأنّ ما يقع في ابتداء العادات ليس ينقض لعادة متقدّمة، فخروجه عمّا شرطناه واضح.

و ما يقع بعد زوال التكليف إنّما يحصل بعد ارتفاع حكم جميع العادات مستقرّا، و في الموضع الّذي انتقضت فيه عادة ثبتت أخرى و استقرّ حكمها، و هذا كلّه زائل بعد التكليف.

على أنّ نقض العادة لا يدلّ على النّبوّة إلّا مع تقدّم الدّعوى، حسب ما تضمّنه الشرط الثالث. و ما يقع في ابتداء الخلق و بعد زوال التكليف، لم يقع مطابقا لدعوى تقدّمت، فلا يجب أن يكون دالّا، و لم يثبت فيه الشّرط الّذي مع ثبوته يكون انتقاض العادة دالّا.

و الّذي له قلنا: «إنّ المعجز يجب أن يكون من فعله تعالى» أنّه متى لم يثبت ذلك لم نأمن أن يكون من فعل بعض من يجوز أن يفعل القبيح و يصدّق الكذّاب، فيخرج من أن يكون دالّا.

و لأنّ دعوى متحمّل الرّسالة متعلّقة باللّه تعالى، و من جهته يلتمس التّصديق و الدّلالة، فيجب أن يقع التّصديق و الإبانة ممّن تعلّقت الدّعوى به و التمس التّصديق من جهته. أ لا ترى أنّ أحدنا لو ادّعى على غيره أنّه رسوله و مخبر عنه بما حمله، و التمس منه أن يصدّقه، لم يجز أن يدلّ على صدقه إلّا ما وقع ممّن تعلّقت الدّعوى به دون غيره من النّاس؛ فكذلك القول في المعجز.

فأمّا الوجه في كونه ناقضا للعادة، فهو: أنّه

من لم يكن كذلك لم يعلم أنّه مفعول لتصديق المدّعي، بل جوّز أن يكون واقعا بمجرى العادة، و لا تعلّق له بالتّصديق.

و لأنّ الفعل لو دلّ- مع كونه معتادا- على التّصديق لم يكن بعض الأفعال المعتادة بذلك أولى من بعض، فكان يجب لو جعل مدّعي النّبوّة العلم على صدقه طلوع

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 201

الشّمس من مطلعها، أو ورود بعض الثّمار في إبّانها، على الوجه الّذي جرت به العادة أن يعلم بذلك صدقه. و هذا ممّا لا شبهة في بطلانه.

فأمّا الوجه في إيجابنا اختصاصه بالمدّعي للنّبوّة على وجه التّصديق لدعواه فهو أنّه متى لم يعلم هذا، فلا بدّ من التجويز لوقوعه لغير وجه التّصديق، و مع التّجويز لذلك لا يعلم صدق المدّعي. فإذا لا بدّ من العلم بأنّه لم يفعل إلّا للتّصديق، و أنّه لو فعل لغيره لكان قبيحا خارجا عن الحكمة.

و إنّما زدنا في هذا الشّرط أن يخصّ اللّه تعالى به المدّعي للنّبوّة على وجه التّصديق، و لم نشرط الاختصاص المطلق الّذي يشرطه غيرنا في هذا الموضع؛ لأنّ المعجزات على ضربين:

منها: ما لا يمكن فيه النقل و الحكاية.

و منها: ما يمكن ذلك فيه.

فالضّرب الأوّل: إذا علم حدوثه مطابقا لدعوى المدّعي، على وجه لم تجر به العادة و أنّه من فعل القديم تعالى تكاملت دلالته؛ لأنّ حال حدوثه غير منفصلة من حال اختصاصه بالمدّعي، و لأنّه ممّا لا يمكن أن يقال فيه: إنّه حدث غير مطابق لدعواه و لا مختصّ به، و جعله هو بالنّقل و الحكاية مختصّا به.

و أمّا الضّرب الثّاني: فلا يمكن أن يعلم «1» بوروده مطابقا للدّعوى أنّه مفعول لتصديقها؛ و إن علم في الجملة أنّه من فعل اللّه

تعالى و أنّه خارق للعادة؛ لأنّ حكايته إذا أمكنت جاز أن يكون اللّه تعالى فعله تصديقا لغير من ظهر عليه.

و إن ورد مطابقا لدعواه بنقله و حكايته، أو بنقل «2» من يجري مجراه في ارتفاع الأمان من أن يفعل القبيح، فلا بدّ في هذا الضّرب من اشتراط وقوع

______________________________

(1) في الأصل: يعلمه، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) في الأصل: ينقل، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 202

الاختصاص، من جهة القديم تعالى؛ لنأمن وقوعه، ممّن يجوز أن يفعل القبيح.

و لأنّه لو جاز أن يدلّ الاختصاص- الّذي لا نأمن أن يكون اللّه تعالى ما أراده و لا فعل المعجز من أجله- لجاز في الأصل أن يدلّ على النبوّة ما لا نثق بأنّه من فعله تعالى.

فإذا كان ما ليس من فعله لا يدلّ- من حيث جاز وقوعه ممّن يفعل القبيح، و يصدّق الكذّاب- فكذلك ما لا يعلم وقوع الاختصاص به من جهته تعالى لا يدلّ لهذه العلّة.

و لا فرق في حصول الاختصاص الدّالّ على النّبوّة بين أن يحدث اللّه تعالى ما يمكن فيه الحكاية و النّقل على يد الرّسول و بحضرته، و بين «1» أن يحدثه و يأمر بعض ملائكته بإنزاله إليه و اختصاصه به؛ لأنّ على الوجهين جميعا، يرجع الاختصاص إلى القديم تعالى، غير أنّه إذا أحدثه على يده كان المعجز نفس ذلك الفعل الحادث، و إذا أمر بنقله إليه كان العلم الواقع موقع التّصديق هو أمره بنقله إليه.

و نحن نؤخّر استقصاء ما يحتمله هذا الكلام من الزّيادات و التّفريعات، لنتكلّم عليه عند إيراد صاحب الكتاب له في مواضعه، لئلّا يقع منّا تكرار.

و إذا صحّت هذه الجملة الّتي أوردناها بطل قول صاحب الكتاب:

إنّ الّذي يجب أن يعلم من الاختصاص ظهور القرآن من جهته و جعله إيّاه دلالة على نبوّته، و أنّ ما عدا ذلك- مثل أن لا يكون ظهر على يد غيره في السماء أو في الأرض- تصحّ الدّلالة من دونه، و إن كان يجب حلّ الشّبهة فيه، إذا أورد على سبيل الطّعن، من غير أن يكون تقديمه واجبا في الدّلالة؛ لأنّ القدر الّذي ذكره ليس بكاف في

______________________________

(1) في الأصل: و هو، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 203

الدّلالة من وجهين:

أحدهما: أنّ ظهوره- و إن علم من جهته، ثمّ علم أيضا كونه ناقضا للعادة و متعذّرا على البشر- فغير ممتنع عند المستدلّ أن يكون من فعل من ليس ببشر من ملك أو جنّيّ، و يكون ذلك الفاعل هو الّذي خصّ من ظهر على يديه؛ لأنّ العقول لا دلالة فيها على مبلغ ما تنتهي إليه منزلة من عدا البشر في الفصاحة و البلاغة.

و هي غير موجبة كون أحوالهم مساوية لأحوالنا فيهما حتّى يقطع على أنّ ما يتعذّر علينا متعذّر عليهم. و هذا يبيّن أنّ الّذي اقتصر على ذكره من الاختصاص ليس بمقنع.

و الوجه الثّاني: أنّه لو سلّم- مع الاختصاص الّذي ذكره، و مع نقضه للعادة و تعذّره على البشر- كونه من فعل القديم تعالى، و خروجه من مقدور جميع المحدثين؛ لم تستقم أيضا الدّلالة دون أن يعلم أنّ القديم تعالى هو الّذي خصّه به، و فعله على يده تصديقا له.

و متى لم يعلم ذلك فلا بدّ من التّجويز؛ لوقوع الاختصاص من جهة غيره ممّن «1» يجوز أن يفعل القبيح؛ لأنّه ممّا يمكن فيه النّقل و الحكاية، و مع التّجويز لذلك لا تصحّ

الدّلالة.

و هذا الوجه أخصّ بالطّعن على ما أورده هاهنا، لأنّه ذكر ما يحتاج إلى علمه من اختصاص المعجز بالرّسول، دون حال المعجز في نفسه و من فعل أيّ فاعل هو، و إن كان قد صرّح فيما يأتي بأنّ مع تجويز كونه من فعل غير اللّه تعالى، قد يدلّ على النّبوّة.

فقد وضح بما ذكرناه أنّ ما ادّعي أنّه ليس بشرط في الدّلالة و أنّه إنّما يجب

______________________________

(1) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 204

بيان الوجه فيه- عند إيراده على سبيل الطّعن و الشّبهة- لا بدّ أن يكون شرطا، بدلالة أنّه متى ادّعي [و] لم يتقدّم العلم به للمستدلّ، كان مجوّزا لما لا تصحّ الدّلالة مع تجويزه.

و ليس له أن يقول: فكيف السّبيل إلى العلم بالاختصاص الّذي ذكرتموه، و أنّ المعجز لم يظهر على غير مدّعي النّبوّة، و ذلك ممّا لا سبيل إليه إذا كان المعجز ممّا يمكن فيه النّقل و الحكاية؟ لأنّا سنبيّن فيما نستقبله من الكلام الطريق إليه، و نوضّح القول فيه، و نكشفه بمشيئة اللّه تعالى و عونه.

فأمّا قوله: إنّ ظهور القرآن على يد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، هو الاختصاص الّذي لا يمكن غيره؛ لأنّه إن لم يكن حدث إلّا في تلك الحال لم يصحّ في الاختصاص غيره، و إن كان قد حدث في السّماء على ملك، فالاختصاص لا يصحّ إلّا على هذا الوجه. و حمله ذلك على تعلّق الفعل بالفاعل، و اقتصارنا عليه في الدّلالة، من غير طلب لما هو لديه منه من التعلّق ... إلى آخر كلامه؛ فباطل بما أوردناه؛ لأنّا قد بيّنا أنّ الاختصاص الّذي اقتصر عليه غير كاف في الدّلالة، و

أنّه متى علم أنّ المظهر للمعجز على يد المدّعي هو القديم تعالى، أو من أمره القديم تعالى بإظهاره استقامت دلالته.

و إن فرّق بين الاختصاصين يكون أظهر من كون أحدهما دالّا على الأمر المطلوب، و الآخر غير دالّ، و لا ممّا يستحقّ أن يكون دالّا، فكيف يصحّ ادّعاؤه مع ما ذكرناه أنّه لو لم يحدث إلّا عند ادّعاء النبوّة لم يكن له من الحكم إلّا ما له، و إن كان حادثا من قبل؟

و قوله: «إنّ هذا الاختصاص هو الّذي لا يمكن غيره».

إن أراد نفي صحّة حصول اختصاص يزيد على ما ذكره فبما أوردناه يفسده؛ لأنّا قد بيّنا اختصاصا أزيد ممّا اقتصر عليه، و دللنا أيضا على أنّ دلالة المعجز

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 205

لا تستمرّ إلّا مع ثبوته، و أنّ الّذي اقتصر عليه غير كاف في الدّلالة.

و إن أراد أنّه لا طريق يوصل إلى العلم، إنّما هو أكثر من الاختصاص الّذي ذكره، و إن كان حصوله جائزا، فسنبيّن فيما بعد أنّ إلى ذلك طريقا يمكن أن يعلم منه.

و لو لم يكن طريق يوصل إليه أيضا- على ما اقترح- لم يجب أن يكون ما اقتصر عليه في الاختصاص دالّا؛ لأنّه إن وجب ذلك كان بمنزلة من يقول: إذا لم يكن لي سبيل إلى العلم بالاختصاص- الّذي إذا ثبت و علم حصوله كان دالّا على التّصديق لا محالة- جعلت ما أجد السّبيل إلى الوقوف عليه من الاختصاص دالّا، و إن كان ممّا إذا اعتبر لم تكن فيه دلالة.

فأمّا تعلّق الفعل بالفاعل: فإنّما لم يطالب فيه بتعلّق أزيد من المعلوم لنا؛ لأنّ القدر الحاصل من التّعلّق كاف في الدّلالة على ما نريده من كونه فعلا له.

و لو لم يكن ذلك كافيا لطالبنا بزيادة عليه. و إنّما أبطلنا قول من يقول: جوّزوا أن تقع أفعالكم من اللّه تعالى، بحسب قصودكم؛ لأنّها لا يمكن أن تضاف إلى اللّه تعالى إلّا بهذا الضرب من التّعلّق المعلوم حصوله معنا، و إذا كان تعلّقها بنا متيقّنا «1»- و لم يمكن أن يتعلّق بغيرنا، لو كانت متعلّقة به، إلّا على هذا الوجه، و استحال أن تكون متعلّقة بنا و بغيرنا معا. لاستحالة فعل من فاعلين- وجب القطع على أنّها أفعال لنا، و نفي حصول علقة بينها و بين غيرها.

فقد كان يجب على صاحب الكتاب، إذا أراد التّسوية بين الأمرين أن يدلّ على أنّ الاختصاص الّذي ذكره مقنع في الدّلالة، و أنّ إثبات ما يزيد عليه غير ممكن، ليلحق بتعلّق الفعل بالفاعل. و لو فعل لم تكن عليه حجّة، لكنّه اقتصر على الدّعوى

______________________________

(1) في الأصل: منتفيا، و ما أثبتناه ورد في الهامش بلا علامة التصحيح.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 206

في أنّ الاختصاصين لا فرق بينهما، و قد بيّنا أنّ بينهما فرقا واضحا.

قال صاحب الكتاب «1»:

« [فإن قال] «2»: فإنّي أقدح بذلك في كونه معجزا أصلا.

فأقول «3»: إذا كان لا ينفصل حاله- و قد حدث من حاله، و قد كان من قبل حادثا- فيجب أن لا يكون دليلا على النّبوّة، و أن يكون الّذي يدل «4» عليها ما يعلم في الحال أنّه حادث، كإحياء الموتى و قلب العصا حيّة، دون الأمور الّتي يجوز فيها ما ذكرناه.

و هذا كما قلتم: إنّ تعلّق الفعل بفاعله إنّما يدلّ على حاجته إليه، و حدوثه من قبله، متى علم أنّه حادث. فأمّا إذا «5» لم يعلم ذلك لم يصحّ كونه دالّا.

و كذلك

القول في المعجز، إنّه لا بدّ من إثبات حادث عند دعواه من قبله تعالى يحلّ محلّ التّصديق؛ فإذا كان الأمر الّذي يظهر يجوز أن لا يكون في حكم الحادث، فيجب أن لا يصحّ الاستدلال به؛ أو لستم قد فصلتم بين دلالة القيام و القعود على حاجتهما إلى محدث، و بين حمرة موضع الضّرب و خضرته بأن قلتم: إنّ ذلك حادث، فصحّ أن يدلّ؟

و هذا ليس بواضح «6»، و إنّما يظهر بعد كون «7»، فلا يصحّ أن يدلّ، فيجب مثل ذلك في المعجز.

فإن قلتم: إنّ القرآن حادث في الحقيقة، في حال ظهوره على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فهو خارج من الباب الّذي ظننتم.

قيل لكم: إنّه- و إن كان حادثا- فهو في حكم الباقي، كما أنّه الآن (و إن كان

______________________________

(1) المغني في أبواب التوحيد و العدل 16/ 168- 170.

(2) من المغني.

(3) في المغني: و أقول.

(4) في المغني: دلّ.

(5) في المغني: فاذا.

(6) في المغني: بواقع.

(7) في المغني: كمون.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 207

حادثا إذا تلاه التّالي فهو في حكم الباقي، فإذا جاز) «1» فيه أن يكون في حكم الباقي و في حكم الحادث، فيجب أن تدلّوا على أنّه في حكم الحادث، ليتمّ الاستدلال لكم به على النّبوّة.

و بعد، فإنّكم تقولون في القرآن ما يمنع أن يكون حادثا في حال ظهوره على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله عندكم، لأنّكم تزعمون أنّه تعالى أحدثه جملة واحدة في السّماء، و أنّ جبريل عليه السّلام كان ينزله على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحسب الحاجة إليه، فكيف يصحّ أن تقدّروه تقدير الحادث، و أنتم تصرّحون القول بأنّه ممّا تقدّم حدوثه، فإذا كان ذلك حاله عندكم

فكيف يدلّ على نبوّته عليه السّلام؟

ثمّ قال: قيل له: إنّ المعتبر في هذا الباب أن «2» يظهر عند ادّعائه النّبوّة ما لو لا صحّة نبوّته لم يكن ليظهر، فمتى كان الأمر الّذي يظهر عليه بهذا الصّفة صحّ كونه دالّا على النّبوّة.

يبيّن ذلك أنّ ما يظهر عند ادّعائه فقد كان يجوز أن يظهر لو لا صحّة نبوّته لا يجوز أن يكون دالّا؛ فإذا كان هذا طريق دلالة المعجزات، و هو قائم في القرآن كقيامه في إحياء الموتى و ما شاكله، فيجب أن تكون دلالة الجميع لا تختلف، من حيث لم يختلف طريق دلالته.

و متى لم نقل بهذه الطريقة لم يصحّ الاستدلال بالمعجزات. و هذا كما نقوله في دلالة المحدث على الفاعل أنّه يعتبر فيه وقوعه بحسب أحواله، على وجه لو لاه لم يقع؛ فمتى علمنا ذلك من حاله دلّ، و إن اختلف أحواله و أجناسه؛ فكذلك إذا علمنا من حال الأمر الظاهر على مدّعي النبوّة أنّه حادث عند دعواه، على وجه لو لاه و لو لا صحّة نبوّته لما ظهر، فيجب أن يكون دالّا. و اختلاف أحواله لا يؤثّر في هذا الباب.

يبيّن ذلك: أنّه لو كان المعتبر بأن يتقدّم العلم بحال ذلك الأمر الظّاهر لوجب مثله

______________________________

(1) من الهامش، مع علامة التصحيح، و ليست في المغني.

(2) في الأصل: بأن، و ما أثبتناه من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 208

في الشّاهد؛ فكان يجب أن لا يدلّ ظهور الشّعر و الخطب ممّن يختصّ بهما على تقدّم في العلم، بأن يجوّز أنّ ذلك قد كان حادثا، و أنّ المختصّ به لم (يبتدئ به) «1»، بل أخذه عن غيره، و هذا يطرّق باب الجهالات في دلالة الفعل على

أحوال الفاعلين.

يبيّن ذلك: أنّه قد ثبت أنّ إحياء الموتى حادث لا محالة من قبله تعالى، و أنّ نقل الجبال و قلب المدن، إلى ما شاكلهما «2» قد يجوز، بل نقطع على حدوثهما من قبل من ادّعى النّبوّة. و لم يمنع ذلك من كونه دالّا، للوجه الّذي ذكرناه، و هو أنّه ممّا قد علم أنّه لو لا صدقه في ادّعاء النّبوّة لما ظهر، و إن خالف حالهما حال إحياء الموتى.

و كذلك فلو جعل دليل نبوّته أنّه يمتنع على النّاس القيام و القعود، أو يتّفق من العالم تصديقه، و الخضوع له عند أدنى «3» وهلة، لكان ذلك يدلّ «4» كدلالة إحياء الموتى من الوجه الّذي بيّناه.

و إن كانت الحال مختلفة، فبعض ذلك حادث من قبله تعالى «5» و بعضه يكشف عن تغيير أحوال العقلاء في الدّواعي «6»، إلى غير ذلك.

فكذلك القول في ظهور القرآن: أنّه يجب أن يكون دالّا، و إن لم يعلم المفكّر أنّه ابتدأه، أو ابتدأ في الحال؛ لأنّ حاله- و هو كذلك- كحاله و إن كان مبتدأ في الوقت، كما أنّ حال نقله الجبال عن قدرته كحاله لو كان القديم تعالى فعله».

الكلام عليه

يقال له: قد أطلت السّؤال و الجواب معا بما لا محصول. و اعتمدت على

______________________________

(1) في المغني: ينشده.

(2) في الأصل: شاكلها، و ما أثبتناه من المغني.

(3) في المغني: أوّل.

(4) من المغني.

(5) في هذا الموضع من المغني زيادة: و بعضه يكشف عن أمر قد حدث من قبله.

(6) في المغني: الدعاوي.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 209

دعوى لم تتشاغل بالدّلالة على صحّتها. و قدّمت أمام جوابك مقدّمة صحيحة، لكنّك لم تتبيّن وجه موافقتها لما ادّعيته و عوّلت عليه، و ظننت أنّ المقدّمة إذا

كانت صحيحة مسلّمة فقد صحّ ما رتّبته عليها ممّا لا تقتضي صحّتها صحّته! و هذا لا يخرج عن أن يكون غلطا أو مغالطة؛ لأنّه لا شبهة فيما ذكرته من أن المعتبر في هذا الباب- بما يظهر عند ادّعاء النّبوّة ممّا يعلم- أنّه لو لا صحّة نبوّة المدّعي لم يظهر، لكن من أين لك فيما اقتصرت عليه و ادّعيته أنّه كاف في الدّلالة أنّه بهذه الصّفة؟

أو ليس قد بيّنا أنّ ظهور الأمر الّذي يمكن فيه النّقل و الحكاية- و إن كان خارجا من العادة- غير كاف في الدّلالة على صدق من ظهر على يديه و اختصّ به، من حيث كان جائزا أن يكون هو الّذي خصّ نفسه بظهوره و نقله عمّن خصّه اللّه تعالى به و جعله علما على صدقه، أو نقله إليه غيره ممّن يجري مجراه في جواز فعل القبيح منه؟! و إنّا متى لم نأمن هذه الحال فلا سبيل إلى التّصديق و القطع على صحّة الدّعوى «1».

و قد كان يجب أن يكون توفّرك كلّه مصروفا إلى أنّ الكفاية واقعة بالقدر الّذي اقتصرت عليه، و أنّه لو لا صحّة نبوّة المدّعي لم يكن، و إلّا فلا منفعة فيما قدّمته؛ لأنّا نقول لك على سبيل الجملة:

كلّ أمر ظهر على مدّعي النّبوّة- على وجه لو لا صحّة نبوّته لما ظهر على ذلك الوجه- فهو دالّ على صحّة النّبوّة، و يبقى على من ادّعى في فعل معيّن- على سبيل التفصيل- أنّه دالّ، أن يبيّن موافقته لتلك الجملة.

و قد بيّنا أيضا الفرق بين دلالة إحياء الموتى و ما جرى مجراه ممّا لا يمكن

______________________________

(1) في الأصل: الدعوة، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 210

فيه النّقل،

و بين القرآن و أمثاله؛ لأنّ النّقل بحيث لم يكن فيه حصل لنا الأمان من الوجه الّذي لأجل تجويز ما يأتي فيه النقل، لم يكن دالّا، فسقط بذلك قول من سوّى بين الأمرين، و ادّعى أنّ طريق دلالة الجميع لا يختلف.

فأمّا دلالة الفعل على الفاعل فغير مفتقرة إلى اعتبار جنس الفعل و نوعه و النّظر في أحواله؛ لأنّ تعلّقه به و احتياجه في وقوعه إلى أحواله لا يختلفان، و إن اختلفت أجناس الأفعال و أحوالها. فالواجب على من ظنّ في الموضع الّذي تقدّم- أنّه دالّ من غير حاجة إلى النّظر فيما أوجبنا النّظر فيه، و حمل ذلك على دلالة الفعل على الفاعل- أن يبيّن فيما ادّعاه أنّه بهذه الصّفة؛ فإنّا لم نقل في الفعل و الفاعل ما ذكرناه إلّا بدلالة أوجبت علينا القول به، و نحن نطلب بمثلها من ادّعى، في بعض الأشياء، مساواته لدلالة الفعل على فاعله؟ مع أنّا قد دللنا- فيما تقدّم و تأخّر- على أنّ الاقتصار على ما اقتصر عليه صاحب الكتاب غير كاف، و أنّه مخلّ بما لا بدّ في دلالة التّصديق منه، و لا غنى بها عنه.

فأمّا قوله: «لو كان المعتبر بأن يتقدّم العلم بحال ذلك الأمر الظّاهر، لوجب أن لا يدلّ ظهور الشّعر و الخطب على علم من اختصّ بهما؛ لتجويزه أن يكون ذلك حادثا من قبل، و أنّ المختصّ به أخذه عن غيره».

فقد بيّنا فيما تقدّم من هذا الكتاب كيفيّة القول في دلالة الشّعر و ما جرى مجراه من الكلام على علم فاعله، و ما يقطع به على إضافته إلى من ظهر منه و ما لا يقطع به، و فصلنا بينه و بين ظهور القرآن، و استوفيناه غاية

الاستيفاء.

على أنّا نقول له: كلّ شعر أو كلام ليس بشعر ظهر من بعضنا، و جوّزنا أن يكون نقله و حكاه، لفقد ما يقتضي أن يكون المبتدئ به و السابق إليه، من الدّلائل و الأمارات الّتي قد تقدّم ذكرنا لها فيما سلف من الكتاب؛ فإنّه لا يدلّ على أنّ من ظهر عليه عالم بكيفيّة صيغته و ترتيبه. و أكثر ما يدلّ عليه من حاله أنّه عالم

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 211

بحكايته؛ لأنّ الحكاية هي المعلوم حدوثها من جهته، و قد ضربنا لذلك مثالا لا شبهة فيه، و هو:

أن يحضر أحدنا ثوبا حسن الصّنعة لم يشاهد قبله مثله، و يدّعي أنّه صانعه، و لا يرجع إلى إضافته له إليه إلّا إلى دعواه.

فإذا كان من الواجب عند كلّ أحد الامتناع من تصديق هذا المدّعي و إضافة الثّوب إلى صنعته و الاستدلال به على علمه، دون أن يعلم أنّه هو المبتدئ بصنعته، و أنّه لم ينقله عن صنعته. و لا يجري ذلك في باب الدّلالة مجرى أن يصنع بحضرتنا ثوبا، فكذلك القول في الكلام؛ لأنّ النّقل فيه يمكن كما يمكن في الثّوب و أشباهه.

ثمّ يقال له: خبّرنا عنك لو أحضرك محضر قصيدة من الشّعر، و ادّعى أنّه مؤلّفها و مبتدعها- و هو ممّن يجوز أن يكذب في خبره، و لم ترجع في علمه بالشّعر إلّا إلى ظهور القصيدة من جهته، دون أن يقع منه التّصرّف في أمثالها و القول في أوزان و معان تقترح عليه- ما كنت تقطع على علمه بالشّعر و صحّة إضافة القصيدة إليه؟

فإن قال: «نعم، كنت أقطع بذلك»، قال قولا مرغوبا عنه، و لزمه أن يقطع فيمن أحضره الثّوب و سائر ما يمكن

فيه النقل بمثل ذلك! و قيل له: و من أيّ وجه علمت صحّة قول هذا المدّعي، و أنت لا تأمن أن يكون كاذبا جاهلا بقول الشّعر و تأليفه، و إنّما نقل تلك القصيدة عن غيره؟ و فساد ارتكاب ذلك أظهر من أن يخفى، فيحوج إلى الإطالة.

فإن قال: إذا لم يظهر منه إلّا القدر الّذي ذكرتموه، و لم يجز أن أقطع على علمه بتأليف الشّعر، و لا على أنّه صاحب القصيدة.

قيل له: أ فليس إذا علمت ببعض ما قدّمناه من الدّلائل و الأمارات، أنّ تلك

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 212

القصيدة لم يسبق إليها تقطع على علمه؛ فلا بدّ من: بلى؟! فيقال له: فقد صرت في باب إضافة الشّعر إلى من ظهر عليه بغير حاله «1»، و هل هو ممّا سبق إليه أو ابتدأ من جهة من ظهر معه؟ و بطل تقديرك أنّ ذلك غير محتاج إليه في باب الشّعر. كما أنّه- على ما ادّعيته- غير محتاج إليه في دلالة القرآن؛ لأنّك قد صرّحت بأنّ القرآن دالّ مع تجويز النّاظر أنّه منقول غير مبتدأ، و ليس يمكنك أن تقول مثل هذا في دلالة الشّعر و ما أشبهه من الكلام.

على أنّا قد بيّنا أنّ تجويز النّاظر في القرآن أن يكون مفعولا- قبل ادّعاء من أظهر «2» الرّسالة، و أنّه انتقل إليه بغير اللّه تعالى، أو غير من أمره اللّه تعالى بنقله إليه- يمنع من صحّة الاستدلال به، فبطل ما ذكره على كلّ حال.

فأمّا تسويته بين نقل الجبال و إحياء الموتى، و اتّفاق التّصديق من جميع الخلق على وجه غير معتاد في باب الدّلالة و إن كان وجهها مختلفا، و قوله:

«فكذلك ظهور القرآن يدلّ، و إن

لم يعلم المفكّر أنّه ابتدأه «3» في حال، لأنّ حاله و هو مبتدأ كحاله لو كان غير مبتدأ في باب الدّلالة؛ فلا شكّ في أنّ دلالة ما ذكره من نقل الجبال و إحياء الموتى و الاتّفاق على التّصديق غير مختلفة، و إن كانت هذه الأمور في أنفسها مختلفة. و إنّما لم تختلف لأنّ مرجع كلّ ذلك إلى فعل اللّه تعالى، يقطع على أنّه لم يفعله إلّا للتّصديق و الإبانة؛ لأنّ إحياء الموتى و إن كان فعله تعالى، و واقعا موقع التّصديق بغير واسطة؛ فكذلك نقل الجبال و اجتماع العالم على التّصديق؛ لأنّ نقل الجبال يدلّ- إذا لم يكن من فعله تعالى على يد من ظهر عليه- على اختصاص الفاعل بقدر لم تجر العادة بمثلها، واقعة من فعله تعالى على سبيل التّصديق.

______________________________

(1) كذا في الأصل.

(2) في الأصل: ظهر، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: ابتدأ، و المناسب ما أثبتناه وفقا للمغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 213

و اجتماع الخلق على التّصديق يدلّ أيضا على أمور فعلها- جلّ و عزّ- على خلاف العادة، اقتضت بإجماع الدّواعي و اتّفاقها.

و جميع هذه الوجوه نأمن فيها أن يكون الاختصاص بالتّصديق واقعا ممّن يجوز أن يصدّق كذّابا.

و ليس كذلك الحال فيما يجري مجرى الكلام، إذا اعتبرنا وجه دلالته على النّبوّة؛ لأنّا إذا لم نعلمه مبتدأ في الحال، و لم نعلم- إن كان غير مبتدأ- أنّ نقله إلى من ظهر عليه- إنّما كان باللّه تعالى، و بمن أمره اللّه تعالى بنقله- يجوز أن يكون انتقاله و ظهوره إنّما كانا ممّن يجوز أن يصدّق الكذّاب، فلم يكن إلّا من هذا الوجه، و فارق ما تقدّم.

و لا فرق متى علم مبتدأ في

الحال- بين أن يكون من فعل اللّه تعالى، أو من فعل من ظهر عليه- بعد أن يكون غير معتاد؛ لأنّه إن كان من فعله تعالى جرى مجرى إحياء الموتى في الدّلالة بغير واسطة. و إن كان من فعل من ظهر عليه جرى مجرى نقل الجبال و قلب المدن- إذا علمنا أنّ اللّه تعالى لم يتولّ فعلهما- في الدّلالة على أمور وقعت من فعله تعالى موقع التّصديق، و هي العلوم التي يتمكّن معها من فعل مثل ذلك الكلام.

و ليس المعوّل- في الطّعن على ما اعتمده في هذا الموضع- على أنّ القرآن إذا لم يعلم مبتدأ في الحال و جوّز أن يكون حادثا قبلها لم يدلّ على النّبوّة حسب ما سأل عنه نفسه. بل المعوّل على ما بيّناه من أنّه إذا لم يعلم حادثا، و يجوز انتقاله ممّن يجوز منه فعل القبيح لم يكن [دالّا]. و إلّا فلو علمناه متقدّم الحدوث، و أمنّا أن يكون انتقاله و اختصاصه ممّن ظهر عليه من جهة من يجوز منه القبيح، لكان دالّا.

و لعلّنا أن نفصّل فيما يأتي من الكتاب- بعون اللّه- الكلام في المعجز الواقع

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 214

موقع التّصديق، و هل يجوز أن يتقدّم ما هذه صفته الدّعوى «1» أم لا يجوز؟

و هل القدر الكثيرة الّتي يتمكّن بها من الأفعال الخارجة عن العادة- إذا كانت.

هي المعجز و العلم الدالّ على الصّدق فيمن يختصّ بها- و يجوز أن يتقدّم الدّعوى، أم لا يجوز أن يتقدّمها، و لا بدّ من حدوثها في حال الدّعوى؟ فإنّ كلام صاحب الكتاب إلى هذه الغاية ليس يقتضي أكثر ممّا ذكرناه.

قال صاحب الكتاب «2»

«و على هذا الوجه قلنا: إنّ المبتدئ بالاستدلال على تعلّق الفعل

بالفاعل، و دلالته «3» على أنّه قادر قد يصحّ استدلاله متى علم تعلّقه بأحواله، و إن لم يفكّر في أنّ الأعراض يجوز عليها الانتقال، و إن كان متى عرضت له شبهة في ذلك يلزمه أن ينظر في حلّها، لا لأنّ أصل استدلاله لم يصحّ، و إنّما كان كذلك لأنّه مع تجويز الانتقال، حال ما يظهر منه في أنّه يقع بحسب أحواله عنده، كحاله متى لم يجز الانتقال عليه؛ فوجه الدّلالة لا يتغيّر بهذا التّجويز، فلم يتغيّر حاله في صحّة الاستدلال. فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة القرآن على النّبوّة.

يبيّن صحّة ذلك: أنّ الناظر في إحياء الموتى- و إن لم يستدلّ فيعلم أنّ الحياة لا يجوز فيها الانتقال و الظهور و الكمون- يمكنه أن يستدلّ به على صحّة النّبوّة، من حيث علم أنّه لو لا صحّة النّبوّة لم يحدث ذلك بالعادة، (فيقارن حاله عنده حال الأمور المستمرّة على العادة) «4»، فبهذه التّفرقة يمكنه الاستدلال؛ فإذا كانت صحيحة، و إن لم يقع النظر في أنّ حدوثه متجدّد في الحقيقة، أو

______________________________

(1) في الأصل: الدعوة، خلافا لما جرى عليه المؤلّف في الكتاب.

(2) المغني 16/ 170- 171.

(3) في الأصل: دلالته، و ما أثبتناه من المغني.

(4) زيادة من المغني ليست في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 215

حدوثه في هذه العين متجدّد، بل كان ذلك كالمجوّز عنده.

فكذلك القول في القرآن، أنّه لا فرق بين أن يعلم أنّ ظهوره ابتداء لم يتقدّم من قبل، أو جوّز تقدّمه، ثم ظهوره الآن على وجه لم تجر العادة بمثله، في أنّ على الوجهين جميعا قد علم التّفرقة بينه و بين ما يحدث على طريقة العادة.

و هذا يكشف لك عن «1» صحّة ما قلناه

من أنّ المعتبر في هذا الباب أن يعلم المستدلّ أنّه ظاهر عند الدّعوى، على وجه يفارق حاله حال الأمور المعتادة.

فمن «2» عرف هذه التّفرقة فقد صحّ استدلاله، و إن جوّز فيه ما ذكرناه».

الكلام عليه

يقال له: أمّا الناظر في تعلّق الفعل بالفاعل أنّه قادر متى «3» كان مجوّزا على الأعراض الانتقال- فإنّه لا سبيل له إلى العلم بأنّ اختراع ذلك الفعل الّذي علم ظهوره من الفاعل، إنّما كان به.

و الاستدلال- مع هذا التّجويز- على أنّه قادر على اختراعه و إحداث عينه، إنّما «4» يعلم تعلّق ظهوره به على الوجه الّذي ظهر عليه.

و متى علم في الأعراض أنّها لا يصحّ عليها الانتقال صحّ أن يعلم ما ذكرناه من تعلّق الحدوث به. و لم نجد صاحب الكتاب فصّل هذا التفصيل، بل أطلق القول بأنّ دلالة الفعل لا تختلف في الحالين.

فإن كان أراد أنّ الدّلالة على الإحداث و الاختراع لا تختلف- مع تجويز الانتقال و امتناعه- فقد بيّنا اختلافها. و إن أراد أنّها لا تختلف من الوجه الآخر، فقد ذكرناه.

______________________________

(1) في الأصل: من، و ما أثبتناه من المغني.

(2) في المغني: فمتى.

(3) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

(4) في الأصل: و إنّما، و هو غير مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 216

و قد تقدّم الكلام في أنّ النّاظر في القرآن إذا جوّز انتقاله إلى من ظهر على يده ممّن يجوز منه القبيح، لم يمكنه الاستدلال به. فبان الفرق بينه و بين دلالة الفعل على الفاعل.

فأمّا النّاظر في إحياء الموتى- مع تجويزه على الحياة الانتقال و الكمون و الظّهور- فليس تخلو حاله من وجهين:

إمّا أن يكون- مع تجويزه على الحياة الانتقال- يجوّز أن تنتقل بغير اللّه تعالى.

أو

يكون غير مجوّز لذلك، بل معتقدا أنّ انتقالها لا يكون إلّا به تعالى.

فإن كان على الوجه الأوّل: لم يصحّ استدلاله على النّبوّة؛ لما ذكرناه من التّجويز الّذي لا نأمن معه أن يكون الانتقال وقع ممّن يجوز أن يفعل القبيح.

و إن كان النّاظر على الوجه الثّاني: صحّ استدلاله مع تجويز الانتقال؛ لأنّ الانتقال في هذا الوجه يجري مجرى الحدوث و الاختراع في أنّه خارق للعادة، و من فعل من نأمن منه فعل القبيح، فكيف يتوهّم أنّ النّاظر في إحياء الموتى- دلالته على صدق من ظهر عليه- يمكنه الاستدلال به، مع تجويزه في الحياة أن تكون منتقلة بغير اللّه تعالى؟ و أن يكون ناقلها بعض من يجوز عليه تصديق الكذّاب؟

و هل هذا إلّا كقول من يقول: إنّ النّاظر في إحياء الموتى يمكنه الاستدلال به على النّبوّة، مع تجويزه أن تكون الحياة داخلة تحت مقدور البشر، و من جملة ما يمكنهم أن يفعلوه؟

فإذا كان ظهور الحياة- مع هذا التّجويز- لا يدلّ، من حيث كنّا لا نأمن إذا كانت الحياة مقدورة لهم من أن يقع من مصدّق للكذّاب! و كذلك حالها عند من جوّز عليها الانتقال بغير من نثق بحكمته. و هذا أوضح من أن يخفى على متأمّل.

فأمّا قوله: «إنّ المعتبر هو أن يعلم المستدلّ في القرآن و أمثاله أنّه ظاهر عند

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 217

الدّعوى، على وجه يفارق الأمور المعتادة. و متى عرف هذه المعرفة صحّ استدلاله، و إن جوّز فيه ما ذكرناه».

فقد مضى الكلام في أنّ القدر الّذي ذكره غير كاف في الدّلالة، و أنّه لا بدّ أن يأمن النّاظر من أن يكون ذلك الأمن الّذي ليس بمعتاد ظهر بفاعل يجوز عليه الاستفساد

و فعل القبيح؛ لأنّ حكم الأمر المفارق للعادة- في هذا الوجه- حكم الدّاخل تحتها، من حيث جاز فيهما جميعا أن يقعا من غير حكيم، و على وجه لا يوجب التّصديق.

ثمّ يقال له: من أيّ وجه لم يدلّ سائر الأفعال المعتادة منّا إذا ظهرت على بعض من يدّعي النّبوّة؟

فلا بدّ من أن يفزع إلى ما ذكرناه من أنّها إذا كانت بهذه الصّفة لم نأمن من أن تقع من مصدّق أو كذّاب.

فحينئذ يقال له: فإذا كانت هذه العلّة موجودة من بعض ما يقع على خلاف العادة من الأفعال، فلا بدّ من القول بأنّه غير دالّ، و إلّا فالمناقضة ظاهرة.

ثمّ يقال له: أ ليس قد يصحّ أن يستدلّ المستدلّ، فيعلم أنّ القديم تعالى قادر على أجناس و أفعال كثيرة لا يقدر البشر عليها، و إن كان شاكّا في حكمته و يجوّز أن يفعل القبيح؟ فلا بدّ من الاعتراف بذلك؛ لأنّ أحد العلمين غير متعلّق بالآخر.

فيقال له: خبّرنا عمّن نظر في بعض ما يظهر على مدّعي النّبوّة، فعرف أنّه من فعل اللّه تعالى، و ممّا لا يتمكّن البشر منه، و أنّه خارق للعادة: أ يصحّ استدلاله به على النّبوّة، مع تجويزه على اللّه تعالى فعل القبيح، و تصديق الكذّاب؟

فإذا قال: لا.

قيل له: فقد بطل قولك: إنّ المعتبر في صحّة الاستدلال هو بأن يظهر عند الدّعوة أمر مفارق للعادة، و أنّ ما عدا ذلك من أحواله لا حاجة إلى العلم به.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 218

و بعد، فإنّ الّذي منع في هذا الموضع من صحّة الاستدلال على النّبوّة، قائم في الموضع الّذي اختلفنا فيه، إذا جوّز أن يكون ظهور ذلك الأمر و انتقاله ممّن يجوز أن يفعل

القبيح.

فإن قال: إذا سوّيتم في الكلام الذي ذكرتموه بين المعتاد و غير المعتاد في أنّه غير دالّ، فلم شرطتم في دلالة المعجز أن يكون خارقا للعادة؟ و أيّ تأثير لكونه خارقا لها؟

قيل له: إنّا لم نجعل المعتاد مساويا بغير المعتاد في كلّ موضع، و إلّا أبطلنا الحاجة في دلالة المعجز إلى كونه خارقا للعادة كما ظننت، و إنّما سوّينا بينهما في امتناع الاستدلال على النّبوّة بهما في الموضع الّذي يجوز في كلّ واحد منهما أن يكون واقعا ممّن يجوز أن يفعل القبيح، و يصدّق الكذّاب.

فأمّا تأثير كون الفعل خارقا للعادة في غير هذا الموضع، فواضح معلوم؛ لأنّ ما وقع من أفعال اللّه تعالى على مجرى العادة إنّما لم يدلّ على النّبوّة من حيث جوّز النّاظر أن يكون واقعا لغير التّصديق، و على مجرى العادة. و إذا كان غير معتاد زال هذا التّجويز.

فإن قال: إنّما قلت: المعتبر بأن يعلم النّاظر في الأمر الظّاهر أنّه خارق للعادة، و يكتفي به في الاستدلال؛ لأنّه يأمن أن يكون ظهوره و. انتقاله ممّن يجوز أن يستفسد و يفعل القبيح، من حيث يعلم أنّ القديم تعالى لا يمكّن من ذلك، و يمنع منه من يرومه؛ فيصحّ استدلاله.

قيل له: فقد صرت إذا إلى قولنا، و تركت ما أنكرناه عليك، لأنّا لم نخالفك في الوجه الّذي منه أمن أن يقع من فاعل للقبيح، فيذكر فيه طريقا دون طريق! و إنّما أنكرنا إطلاقك أنّ العلم بما أوجبناه غير محتاج إليه و لا مفتقر في صحّة الاستدلال إلى تقدّمه، و أنّه ليس يحتاج إلى أكثر من العلم بأنّ الفعل على خلاف العادة. و إذا

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 219

اعترفت بأنّه لا بدّ

من أن يأمن وقوعه من فاعل للقبيح، فقد تمّ ما أردناه.

و سنتكلّم على فساد ما اعتمده- من إيجاب المنع من ذلك على اللّه تعالى- و نبيّن أنّه لا وجه لوجوبه فيما بعد، بمشيئة اللّه تعالى.

قال صاحب الكتاب «1»، بعد كلام قد تقدّم منّا إبطال ما فيه من شبهة:

«فإن قال: إنّ المفكّر إذا جوّز ذلك، (و أن تكون نقلت ذلك) «2» إلى الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، على وجه لا يدلّ [على النّبوّة] «3» بل إرادة للمفسدة، لأنّه يجوز أن يكون من فعل الملائكة، و أنّ عادتهم جارية بهذا الحدّ من الفصاحة، و إن كانوا يعصون و يجوز منهم الاستفساد. فكيف يصحّ مع هذا التجويز أن يقولوا إنّ الاستدلال به يصحّ؟

ثمّ قال: قيل له: قد بيّنا أنّ ما هو عادة للملائكة قد يكون نقضا للعادة فينا. و قد صحّ أيضا أنّ نقل الملائكة الشي ء إلى واحد دون آخر، من باب نقض العادة «4» من الوجهين، فلا يقدح «5» ذلك في دلالته على النّبوّة، و لو كان ذلك يقدح في دلالة النّبوّة لوجب لو ادّعى النّبوّة و جعل الدّلالة على نبوّته طلوع الشّمس من مغربها، بل حركة الأفلاك على خلاف عادتها و حصل ذلك، ألّا يمكن الاستدلال به على النّبوّة؛ لتجويز المفكّر أنّ ذلك من فعل بعض الملائكة؛ لأنّ العقل «6» كما دلّ على أنّ مثل القرآن قد (يجوز أن) «7» يقدر عليه الملك،

______________________________

(1) المغني 16/ 173- 174.

(2) في المغني: زيادة: و لم يتقدّم منه أنّ الملائكة لا تعصي، جوّز أنّها نقلت إلى الرسول.

(3) من المغني.

(4) في الأصل: للعادة، و ما أثبتناه من المغني، و بعدها في المغني: فيعلم المفكّر أنّ ذلك يتضمّن نقض العادة من

الوجهين، و هذه الزيادة ليست في الأصل.

(5) في الأصل: و لا تقدم، و ما أثبتناه من المغني.

(6) في الأصل: الفعل، و المناسب أثبتناه من المغني.

(7) ليست في المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 220

فكذلك قد دلّ على أنّ «1» ما ذكرناه في الشّمس و الفلك، قد يجوز أن يقدر عليه الملك؛ فإذا كان ذلك لا يقدح «2» في دلالتها «3» على النّبوّة من الوجه الّذي ذكرناه، فكذلك «4» في القرآن، فقد بطل ما سأل عنه».

الكلام عليه

يقال له: لا فرق بين ما ذكرته من حركة الشّمس في خلاف جهتها، و حركة الأفلاك على غير عادتها إذا جوّزنا، فرجع ذلك [بين] أن يكون من مقدور الملائكة و بين ما يظهر على مدّعي النّبوّة من الكلام الّذي يجوز أن يكون من مقدورهم، في أنّ جميعه لا يدلّ على النّبوّة إلّا بعد العلم بأنّ الملائكة لم تعص في فعل ذلك، على سبيل الاستفساد؛ لأنّ العلّة في كلّ واحدة.

و كيف ظننت أنّا نقول في حركة الأفلاك بخلاف ما قلناه في القرآن، حتّى اعتمدت و جعلت أصلا فعل من لا خلاف عليه، و لا نزاع فيما قرّره؟

و لست تخلو فيما ادّعيته من دلالة حركة الأفلاك على النّبوّة- مع التجويز الّذي ذكرناه- من أن يسند إلى ضرورة أو إلى استدلال، و ما نظنّك تدّعي في ذلك الاضطرار؛ لأنّك تعلم أنّ الفرق بين ما يدلّ على النّبوّة و ما لا يدلّ إلّا لا يعلم إلّا بدقيق النّظر و شديد التعب، فلم يبق إلّا الاستدلال الّذي كان يجب أن نذكر وجهه، لينتظم الوصفين معا.

ثمّ يقال له: أ يمكن النّاظر أن يستدلّ بما ذكرته من حركة الأفلاك و طلوع الشّمس، مع تجويزه وقوع

ذلك من فعل البشر، و كونه من جملة مقدوراتهم؟

______________________________

(1) من المغني.

(2) في الأصل: لا يقدم، و ما أثبتناه من المغني.

(3) في الأصل: دلالتهما، و ما أثبتناه من المغني.

(4) من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 221

فإذا قال: لا.

قيل له: و أيّ فرق بين البشر في هذا و الملائكة إذا كان مجوّزا- قبل صحّة النّبوّة- على الملائكة المعاصي و فعل القبيح كما يجوّزهما على البشر؟! فإنّه لا يتمكّن من إيراد وجه يفسد به الاستدلال، إذا كان مجوّزا لما ذكرناه في البشر إلّا و هو بعينه قائم ثابت في باب الملائكة.

فأمّا قوله في أوّل الفصل: «إنّ ما يجري به عادة الملائكة قد يكون ناقضا لعادتنا، و أنّ نقل الملائكة الشي ء إلى واحد دون آخر من باب نقض العادة»، فصحيح، غير أنّه لا ينتفع به؛ لأنّا قد بيّنا أنّ العلم بانتقاض العادة في هذا الموضع غير كاف مع التجويز، لما تقدّم في صحّة الاستدلال.

و إنّما يكون ما ذكره- من أنّ عادة الملائكة لا تمنع أن تكون فينا نقضا للعادة- جوابا لمن قال: إنّ عادتنا لا تنتقض إلّا بما نعلم «1» خروجه عن عادة كلّ أحد من الخلق، و هذا غير ما نحن فيه.

قال صاحب الكتاب «2» بعد سؤال و جواب لا طائل فيهما:

«فإن قال: إنّا نقول- فيما ذكرتموه في الشّمس و الفلك- إنّه يدلّ على النّبوّة؛ لأنّ الملك لو أراد أن يفعله على طريق الاستفساد لكان تعالى يمنع منه».

و أجاب بأن قال: فكذلك القول في القرآن. و ذكر أنّ هذا فصل بعد نقض العلّة، لأنّ الاعتلال إنّما كان بأنّ تجويز وقوعه ممّن ليس بحكيم يمنع من الاستدلال به «3».

______________________________

(1) في الأصل: نعلمه، و المناسب ما أثبتناه.

(2)

المغني 16/ 174- 175.

(3) قال القاضي عبد الجبّار في المغني 16/ 175: «قيل له: فكذلك القول في القرآن، على أنّ ذلك فصل بعد نقض العلّة؛ لأنّك اعتللت بأنّ ذلك إذا جوّز أن يكون من فعل من ليس بحكيم، فكيف يدلّ على النّبوّات؟».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 222

الكلام عليه

يقال: ما نسألك عن السّؤال الّذي أوردته على نفسك، و لا نعتلّ بما حكيته، و نحن نعلم شدّة حرصك على أن يعتلّ مخالفك بما ذكرته؛ لتنتهز الفرصة في مقابلته بمثله «1» في الموضع الّذي وقع الخلاف فيه! و لا شي ء أضعف و أظهر بطلانا من التّعلّق بمنع اللّه تعالى في الموضعين جميعا؛ لأنّه إيجاب عليه تعالى ما لا وجه لوجوبه.

قال صاحب الكتاب «2»:

«فإن قال: إنّ الباب في جميع ذلك واحد عندي «3»، في أنّه يجب ألّا يدلّ على النّبوّات، و إنّما يدلّ عليها ما لا يجوز حدوثه إلّا منه تعالى.

قيل له: قد بيّنا في باب مفرد أنّ ما يدخل «4» جنسه في مقدور العباد، إذا وقع على وجه لم تجر العادة بمثله، فحلّ «5» محلّ ما لا يدخل جنسه تحت مقدورهم، إنّما يدلّ «6» على النّبوّة لخروجه في الحدوث عن طريق «7» العادة؛ و لهذا الوجه لا يدلّ حدوث الثّمار و خلق الولد في الأرحام على النّبوّات، و يدلّ على ذلك إحياء الموتى.

فإذا صحّ ذلك، و وجدت هذه الطّريقة فيما يقدرون عليه في الجنس- إذا حدث على وجه مخصوص، نحو تغيّر الأفلاك في حركاتها، و الشّمس و القمر في مطالعها، إلى غير ذلك- فيجب أن يكون دالّا على النبوّات.

على أنّ هذا القول يوجب أن لا تعتبر «8» العادات إلّا فيما يختصّ تعالى بالقدرة

______________________________

(1) في الأصل: مثله، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) المغني 16/ 175.

(3) في الأصل: واحد في جميع ذلك عندي.

(4) في المغني: يدلّ.

(5) في الأصل: يحلّ، و ما أثبتناه من المغني.

(6) في المغني دلّ.

(7) في الأصل: طريقة، و ما أثبتناه من المغني.

(8) في الأصل: يغير.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 223

عليه، لأنّ على ما

سأل «1» عنه، إذا صحّ في هذه الأمور أن يحدث من الملائكة، و جوّز قبل السّمع أن يفعلوا ذلك و يريدوا الفساد؛ فيجب أن يكون ذلك قدحا في العادة، و كونها جارية على حدّ واحد من الحكيم «2».

و لو صحّ ذلك لما علمنا العادات، فيما يختصّ تعالى بالقدرة عليه أيضا؛ لأنّا لا نرجع «3» في كلّ ذلك إلّا إلى طريقة واحدة».

الكلام عليه

يقال له: إنّك بدأت «4» بالسّؤال الّذي أوردته على نفسك ابتداء صحيحا، ثمّ ختمته بما أفسدت به السّؤال جملة، و طرّقت لنفسك كلاما تشاغلت به عن الفرض المهمّ الّذي يدار الخلاف عليه.

و قد قلنا فيما تقدّم: إنّ حركة الفلك و طلوع الشّمس- مع التّجويز الّذي ذكرناه- لا يدلّان «5» على النّبوّة كما لا يدلّ غيرهما، و أنّ العلّة في الجميع واحدة.

إلّا أنّا لم نقل ذلك من حيث لم يدلّ على النّبوّة عندنا إلّا ما لا يجوز وقوع جنسه إلّا منه تعالى، حتّى يكون جوابك لنا عنه: أنّك ثبت في فصل مفرد أنّ ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد يجري مجرى ما لا يقدرون على جنسه، في باب الدّلالة إذا كان خارقا.

و إنّما أبطلنا دلالة ما ذكرته على النّبوّة من الوجه الّذي تقدّم و تكرّر، و هو أنّا لا نأمن أن يكون من فعل من يجوز أن يصدّق الكذّاب، و لو أمنّا من ذلك لدلّ عندنا، و إن كان جنسه مقدور العباد، فقد صحّ أنّ التشاغل وقع بما لم ترده، و لا يجدي نفعا.

______________________________

(1) في المغني: سألت.

(2) في المغني: الحكم.

(3) في الأصل: نرجع، و ما أثبتناه من المغني.

(4) في الأصل: بدّلت، و المناسب ما أثبتناه.

(5) في الأصل: لا بد لأن يدلّ، و ما أثبتناه هو

المناسب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 224

و أمّا اعتبار العادة فيما يختصّ القديم تعالى بالقدر عليه فلا بدّ منه؛ لأنّ الاستدلال على النّبوّة يفتقر إليه، حسب ما ذكرناه في ما تقدّم. فأمّا ما يجوز دخوله تحت مقدور من لا نأمن أن يفعل القبيح، فإنّ اعتبار العادة و الاستدلال بخرقها، إنّما يصحّان متى «1» أمنّا أن يكون وقع من مستفسد فاعل للقبيح؛ لأنّا متى أمنّا ذلك عاد الأمر- في صحّة الاستدلال- إلى الوجه الّذي دلّ أنّ أحد الأمرين تعلّق بالآخر، حتّى يقال: من فساد هذا فسد ذلك.

فإن قال: فكيف السّبيل إلى العلم- فيما يجوز دخوله تحت مقدور غير القديم جلّ و عزّ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح من ملك أو جنّيّ- أنّه لم يقع إلّا منه تعالى، حتّى يستدلّ به على النّبوّة؟

و إذا كان لا سبيل إلى ذلك عاد الأمر إلى أنّ الّذي يدلّ على النّبوّات، هو ما يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه؛ و بطل قولكم إنّ ما يشاركه في القدرة على جنسه قد يدلّ أيضا.

قيل له: قد يمكن ذلك بأن يعلم من الأمر الظّاهر كالقرآن مثال أنّه متعذّر على البشر، إذا تحدّى به فصحاءهم فقعدوا عن معارضته، مع توفّر الدّواعي و قوّة البواعث. و يعلم أنّ حكم من ليس بفصيح منهم حكم الفصحاء في التّعذّر لا محالة.

و يعلم أنّه ليس من فعل ملك و لا جنّيّ، بأن يكون اللّه تعالى قد أعلمنا على يد بعض رسله؛ فمن أيّده بمعجز خارج عن أجناس مقدورات جميع المحدثين، كفعل الحياة و اللّون و اختراع الجسم، يبلغ ما ينتهي إليه الملائكة و الجنّ في الفصاحة، و أنّ عادتهم فينا كعادتنا، و الغايات التي ينتهون إليها لا تجاوز

غاياتنا؛ فحينئذ يصحّ الاستدلال به على النّبوّة، و إن كان جنسه مقدورا لغير اللّه تعالى.

______________________________

(1) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 225

قال صاحب الكتاب «1»، بعد أن أعاد السّؤال الّذي يتضمّن الاعتلال بأنّ اللّه تعالى يمنع من جميع ذلك، لما فيه من الاستفساد:

«و أجاب عنه بأنّ هذا الوجه قائم في القرآن، فيجب لو كان من فعل «2» غيره- على طريق الاستفساد- أن يمنع منه.

و ذكر أيضا: أنّ من لم يخطر ذلك بباله، قد «3» يمكنه الاستدلال «4».

فإن قال: فهل يجوز أن يدلّ ذلك على النّبوّة، إذا كان من فعل الملك على وجه؟

ثمّ قال: قيل له: لا يمتنع أن يدلّ على ذلك، حتّى لا يفترق الحال بين أن يكون من قبله [تعالى] «5» و بين أن يكون من فعل الملك؛ و إنّما منعنا فيما تقدّم أن يكون من فعله على جهة الاستفساد، و أوجبنا أن يمنع القديم تعالى من ذلك.

فأمّا على غير هذا الوجه فلا يمتنع «6»؛ لأنّه لا فرق بين أن يقلب تعالى عادة الملائكة في أن يحدثوا خلافها، أو يحدث فيهم خلاف ذلك، إذا ثبت أنّهم يطيعون و يستمرّون على ذلك؛ لأنّ عادتهم على هذا الوجه كالعادة الثانية «7»، من جهة الحكم «8»؛ فإذا جرت عادة الملك في أن يحرّك الفلك على طريقته «9»؛ ثمّ انتقض ذلك علم أحد أمرين:

إمّا أنّه تعالى ألجأه و أحدث خلاف ما جرت به العادة في عليّته «10»، أو غيّر دواعيه الّتي تتبعها العادات.

______________________________

(1) المغني 16/ 176- 177.

(2) في المغني: قبل.

(3) ليست في المغني.

(4) قال القاضي في استدلاله: «و بعد، فإنّ من لم يخطر بباله ذلك يمكنه الاستدلال، فيجب أن لا

يكون المعتبر في صحّته إلّا بما ذكرناه، من كون ذلك خارجا عن العادة، فيعلم عند ذلك أنّه من قبل الحكيم، أو يكشف عن أمر من قبله، فصحّ الاستدلال على نبوّته».

(5) من المغني.

(6) في الأصل: يمنع، و ما أثبتناه من المغني.

(7) في المغني: الثابتة.

(8) في المغني: الحكيم.

(9) في الأصل: طريقه، و ما أثبتناه من المغني.

(10) في الأصل: تخليته، و ما أثبتناه من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 226

و كذلك القول في القرآن إنّه «1» إذا أنزله الملك، و أوصله- عند ادّعاء الرّسول النّبوّة- إليه، حتّى ظهر؛ فلا بدّ من أن يكون فيه «2» نقض عادة (على أحد الوجهين اللّذين ذكرناهما.

و على هذا الوجه قال شيوخنا: إنّ نزول الملك على الرّسول معجز لذلك الملك الّذي هو رسول إليه عن اللّه تعالى؛ و إن كان النزول من فعله لما كان عندهم يتضمّن من نقض العادة.

و ما ذكرناه، فإن اتّفق مع ذلك أن ينزل على خلاف صورته فقد انضاف إليه معجز آخر؛ لأنّ العادة لم تجر بمثله «3».

و على هذا الوجه تعدّ مشاهدته صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل عليه السّلام نقض عادة «4»؛ لأنّها لم تجر بذلك، و كلّ ذلك يصحّح (ما ذكرناه من قبل) «5».

و إنّما يجب في المعجز «6» أن يكون في حكم الواقع من قبله تعالى، حتّى يصحّ أن يكون بمنزلة التّصديق؛ و قد يكون كذلك بأن يحدث و بأن يعلّق «7» بأمر حادث من قبله، على بعض الوجوه.

و لو أنّ الواحد منّا قال لزيد: أنا رسول عمرو إليك، فطالبه بالدّلالة، لكان إذا أقبل على «8» عمرو فقال: إن كنت رسولك فصدّقني (أو حرّك يدك) «9» على رأسك، أو قل لعبيدك و

أولادك- الّذين تعلم من حالهم أنّهم يصدرون فيما يفعلون عن رأيك، و لا يخالفونك- أن يصدّقوني فيما ادّعيت، فوقوع ذلك منهم، و الحال «10» ما ذكرناه، كوقوع التّصديق من قبله، فكذلك القول فيه تعالى».

______________________________

(1) ليست في المغني.

(2) في المغني: منه.

(3) في الأصل: مثله، و المناسب ما أثبتناه.

(4) زيادة في الأصل ليست في المغني.

(5) في المغني: ما قدّمناه.

(6) في المغني: المعجزات.

(7) في المغني: بأن تحدث و أن تتعلّق.

(8) من المغني.

(9) في الأصل: و حرّك، و ما أثبتناه من المغني.

(10) في الأصل: و الحال ذلك.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 227

الكلام عليه

يقال له: قد عرّفناك أنّا نرتضي السّؤال الّذي كرّرت إيراده على نفسك، و لا تعقل ما تضمّنه بوجه من الوجوه.

و قولك: «إنّ من لم يخطر ذلك بباله قد يمكنه الاستدلال»، ليس يخلو من أن تريد به: أنّ من لم يخطر بباله، هل القرآن متقدّم الحدوث؟ أو حادث في الحال؟ أو المنزل له على الرّسول بعض الملائكة، و اللّه تعالى المتولّي لذلك، بعد أن يكون آمنا من أن يكون المنزل له- من الملائكة، أو المحدث له منهم إذا كان مجوّزا بحدوثه من جهتهم- من عصى اللّه في إنزاله و إحداثه على سبيل الاستفساد؟

و تصديق من ليس بصادق، يمكنه الاستدلال به على النّبوّة، و لا يضرّه إلّا أن يكون عالما بحصول بعض الأحوال الّتي ذكرناها.

أو تريد أنّ من لم يخطر بباله هذه الأمور، يكون متمكّنا من الاستدلال به على النّبوّة، مع أنّه لا يأمن أن يكون المحدث له- من الملائكة أو المنزل له- قد عصى في إحداثه أو إنزاله، و صدّق به من لا يجب تصديقه.

أو مع تجويزه، أن يكون من ظهر على يده هو النّاقل

له إلى نفسه عمّن جعله اللّه تعالى علما على صدقه.

فإن أردت الأوّل فهو صحيح لا شبهة فيه، و الّذي أنكرناه غيره.

و إن أردت الثّاني فقد بيّنا بطلانه، و دللنا على أنّ الاستدلال لا يصحّ مع قيام هذا التّجويز، و قلنا: إنّه لا فرق بين من قال ذلك و بين من قال: إنّ من لم يخطر بباله في الفعل الّذي يظهر على مدّعي النّبوّة؛ هل هو من جملة مقدور البشر- فيما يتمكّنون من فعله- أم ليس كذلك؟ يمكنه الاستدلال به على موته «1»، و أنّ فقد

______________________________

(1) كذا في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 228

هذا العلم لا يضرّ باستدلاله؟

و كذلك من لم يخطر بباله: هل القديم تعالى غير محتاج، و هل يجوز أن يفعل القبيح أم لا يمكنه الاستدلال على النّبوّة، بما يعلم ظهوره من جهته على مدّعي النّبوّة، إذا علمه خارقا للعادة؟

و ليس يمكن أحدا أن يفسد دلالة ما ذكرناه على النّبوّة بشي ء إلّا و هو بعينه يفسد الدّلالة بما خولفنا فيه.

فأمّا قوله: «إنّه لا فرق بين أن يتغيّر العادة في حركة الفلك بفعل القديم تعالى، أو بفعل الملك في باب الدّلالة على النّبوّة، بعد أن نعلم أنّ الملائكة لا يعصون و لا يستفسدون»، فصحيح غير منكر، و لا فرق بين أن يعلم من حالهم أنّهم لا يعصون و لا يستفسدون بما أوجبه- من المنع الّذي لا يجب عندنا- أو بغيره؛ لأنّ الفرض وقوع الأمان من ذلك.

و هذا القول في إنزال الملك بالقرآن إلى الرّسول، متى ثبت الأمان من الحال الّتي ذكرناها، يكون دالّا على النبوّة؛ و تكون عادة الملائكة- إذا علمنا أنّهم لا يعصون- كالعادة الثّانية من جهة القديم تعالى، في أنّ

خرقها يكون دالّا.

و المثل الّذي ضربه- فيمن ادّعى منّا على غيره أنّه رسوله، و أنّه لا فرق بين أن يصدّقه هو نفسه، أو يأمر بعض عبيده بتصديقه- صحيح أيضا، و إنّما يكون هذا المثل مشبها لما أنكرناه لو صدّقه من عبيده و أولاده من لم يعلم أنّه أمره بتصديقه، و لا أمنّا منه أن يعصيه و يفعل خلاف مراده.

و كلام صاحب الكتاب الآن يخالف ما تقدّم؛ لأنّه لم يشترط فيما أطلقه أوّلا- من أنّه لا معتبر إلّا بوقوع الفعل على خلاف العادة- أن يأمن أن يكون واقعا أو منقولا، بمستفسد عاص للّه تعالى، و لو شرط ذلك لأراح نفسه و أراحنا من التّعب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 229

قال صاحب الكتاب «1»:

«فإن قال: كيف يصحّ في القرآن- و قد تقدّم من اللّه تعالى حدوثه «2» قبل بعثة الرّسول بزمان- أن يدلّ على النبوّة؟ أ تقولون: إنّه الدالّ على النبوّة، أو إنزال الملك به، أو تمكّن «3» الرّسول عليه السّلام من إظهاره؟

فإن قلتم: إنّ الّذي يدلّ عليه هو نفس القرآن، فتقدّم حدوثه منه تعالى يمنع من ذلك.

و إن قلتم: إنّه يدلّ من الوجهين الآخرين «4»، أدّى إلى أن يكون الدالّ على نبوّته فعل الملك، أو فعل الرّسول، على وجه لا يتعلّق بفعله تعالى! ثمّ قال: قيل له: إنّ ظهور القرآن- عند ادّعاء «5» النّبوّة- من قبله هو الدالّ، و هذا كما نقول «6»: إن الفعل هو الدالّ على حال الفاعل، لكنّه إنّما يدلّ لتعلّقه به.

فكذلك القرآن (لا بدّ من أن يكون) «7» له تعلّق به و بدعواه، و لا يكون كذلك إلّا بظهوره «8» من قبله، أو من قبل الملك، أو كأن «9» يحدث على حدّ

الابتداء؛ و إن كان ذلك لا يعلم من حاله إلّا بعد الاستدلال به على نبوّته، فيعلم من بعد أنّه تعالى «10» أحدثه، و لم يكن من قبل حادثا، أو أنّه عليه و آله السّلام أحدثه بأن مكّن من علوم خارجة عن (العادة الّتي كانت للعرب) «11».

و على كلّ حال، فتقدّم وجوده لا يمنع من صحّة كونه دالّا، كما أنّ تقدّم الإقدار على نقل الجبال و قلب المدن لا يمنع عند ظهور ذلك من قبل المدّعي للنّبوّة،

______________________________

(1) المغني 16/ 177.

(2) من المغني.

(3) في المغني: تمكين.

(4) ليست في المغني.

(5) في المغني: ادعائه.

(6) في المغني: تقول.

(7) في المغني: لأنّه قرآن يكون.

(8) في المغني: بظهور.

(9) في المغني: بأن.

(10) من المغني.

(11) في المغني: عن عادة العرب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 230

من كونه دالّا، و إن كان قد تقدّم وجوده.

و هذا بيّن؛ لأنّه تعالى إذا فعل زيادة القدر لهذا الوجه، ثمّ ظهر بالفعل عند ادّعاء النبوّة، فكأنّه فعله في الحال. فكذلك لا فرق بين أن يقدّم إحداث القرآن، أو يحدثه في حال ادّعائه النبوّة في الوجه الذي ذكرناه، فكأنّ «1» دلالته لا تتكامل إلّا (بظهوره عند ادّعاء النبوّة، كما أنّ دلالة زيادة القدر لا تتكامل إلّا) «2» بظهور الفعل.

و لا «3» فرق بين أن يفعل تعالى عند الدّعوة نفس الدّلالة، و بين أن يقدّمها لهذا الغرض و تتكامل «4» في «5» هذه الحال في أنّ دلالته لا تتغيّر.

فإن أراد مريد بعد ذلك أن يقول: إنّ الّذي يدلّ على النبوّة القرآن من حيث ظهر على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله. أو قال: يدلّ من حيث اختصّ بالعلم العظيم به. أو قال:

يدلّ من حيث أنزله الملك.

فلا «6» يخرج ذلك

القرآن من أن يكون دليلا، و إن جوّز في (وجه، لأنّه) «7» واحد من هذه الوجوه».

الكلام عليه

يقال له: قد مضى الكلام على من ظنّ أنّ القرآن يكون دالّا على النّبوّة، مع تجويز النّاظر في وجه دلالته أن يكون انتقاله أو حدوثه، ممّن يجوز أن يفعل القبيح، و يصدّق الكذّاب، و بقي أن نبيّن كيفيّة دلالة القرآن، إذا علم تقدّم حدوثه قبل بعثة الرّسول، مع الأمان من أن يكون حدوثه أو انتقاله و اختصاص المختصّ به

______________________________

(1) في الأصل: مكان.

(2) من المغني.

(3) في المغني: فلا.

(4) في الأصل: تكامل.

(5) في الأصل: من، و ما أثبتناه من المغني.

(6) في المغني: فلذلك لا.

(7) في المغني: وجه دلالته، على.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 231

من فاعل يجوز عليه الاستفساد.

و هذه المسألة في القرآن- على الحقيقة- ساقطة عنّا و غير متوجّهة على مذهبنا؛ لأنّ المعجز عندنا- القائم مقام التّصديق- هو: الصّرف عن معارضة القرآن، و ذلك حادث و متجدّد عقيب الدّعوى.

و لا فرق في صحّة دلالة ما ذكرناه بين تقدّم حدوث القرآن و بين تأخّره، إلّا أنّ الأمر في القرآن و إن كان على ما قلناه، فقد كان يجوز عندنا أن يكون خارقا لعادتنا بفصاحته، و يكون تعذّر معارضته على الفصحاء من حيث لم تجر عادتهم بمثله إلّا للصّرف في الحال، و يصحّ ذلك على وجهين:

إمّا بأن يكون أزيد ممّا هو عليه من الفصاحة، حتّى يظهر التّفاوت بينه و بين كلّ كلام فصيح، أو بأن تكون منازل الفصحاء فيما يفعلونه من الفصاحة دون ما هي عليه الآن.

و إذا كان هذا التقدير عندنا صحيحا لزمنا أن نبيّن كيفيّة القول في دلالته، إذا كانت حاله هذه، و تقدّم حدوثه، و صار ما

يمرّ من خصومنا على مذهبهم الثّابت في القرآن من الجواب، يلزمنا على سبيل التقدير «1».

لقائل أن يقول في هذا الوجه: قد علمتم أنّ المعجز الدالّ على صدق النّبيّ المدّعي للرّسالة لا بدّ أن يكون من فعل اللّه تعالى- لأنّه هو الّذي يجب أن يصدّقه في دعواه عليه، و يفعل ما يجري مجرى قوله له: صدقت في ادّعائك رسالتي- فليس يجوز أن يكون إنزال الملك بالقرآن- إذا كان قد تقدّم حدوثه- هو العلم المعجز الواقع موقع التّصديق. و لهذا الوجه لا يجوز أن يكون إظهار الرسول صلّى اللّه عليه و آله له إلينا هو المعجز.

______________________________

(1) كذا في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 232

و لا فرق بين أن يكون ناقلا له و حاكيا إذا فرضنا تقدّم حدوثه، و بين أن يكون هو المبتدئ بإحداثه في أنّ الأمرين إذا عادا «1» فيه إلى فعله، لم يصحّ أن يكون هو المعجز على الحقيقة.

و لا يجوز أن يكون القرآن نفسه هو العلم الدالّ على النّبوّة إذا كان متقدّم الحدوث؛ لأنّه إنّما يدلّ عليها إذا وقع موقع التّصديق، و التّصديق لا يصحّ إلّا بعد تقدّم الدّعوى الّتي يتعلّق بها؛ و لهذا يجعلون وقوع الدّعوى و طلب التّصديق و حصول الإجابة على الوجه المطلوب يجري مجرى المواضعة في الحال. و يقوم مجموع هذه الأمور- في باب الدّلالة- مقام تقدّم المواضعة، فكيف يصحّ مع ذلك أن يكون الأمر الواقع موضع التّصديق متقدّما للدعوى؟! و هو إنّما يكون تصديقا، إذا وقع عقيب الدّعوى، و إجابة للطّلب.

أو لستم أيضا تفصلون بين ما يقع من انتقاض العادات بعد زوال التكليف، و بين ما يقع في حال التكليف، في باب الدّلالة على النبوّة، بأن

تقولوا: إنّ الواقع في دار التكليف إنّما دلّ؛ لوقوعه مطابقا لدعوى مدّع للرّسالة، و ليس ذلك فيما يقع عند قيام السّاعة، و انقطاع التكليف؛ فليس يصحّ على حال من الأحوال أن يتقدّم حدوث القرآن، و يكون هو بعينه القائم مقام التّصديق.

و هكذا القول في تقدّم الإقدار على نقل الجبال و سائر الأفعال الخارقة للعادات؛ لأنّه لا يجوز أن يتقدّم ذلك دعوى النّبوّة، و يكون متعلّقا بها تعلّق التّصديق، و لا الفعل الواقع بتلك القدر يصحّ أن يكون بهذه الصّفة، لجميع ما تقدّم.

و الجواب عن ذلك: أنّ القرآن إذا علمنا حدوثه في السّماء قبل نبوّة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ الملك كان ينزله عليه، فالمعجز في الحقيقة- الواقع موقع

______________________________

(1) في الأصل: عاد، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 233

التّصديق- هو أمر اللّه تعالى للملك بإنزاله إليه؛ لأنّ العادة لم تجر به، و هو من فعله تعالى.

و ليس يجوز [أن يكون] المعجز في هذا الوجه القرآن نفسه، و لا إنزال الملك به، لما ذكرناه في السّؤال.

و لو كان القرآن ممّا تقدّم حدوثه، و كان اللّه تعالى هو المخاطب به الرّسول عليه و آله السّلام و المتولّي لإنزاله عليه، كان إنزاله على هذا الوجه هو المعجز، و فارقت حاله حال إنزال الملك به.

و كذلك لو كان القرآن من فعل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بأن مكّنه اللّه تعالى من علوم لم تجر بها العادة، كان المعجز اختصاصه بتلك العلوم الّتي لم تجر بها العادة.

فليس يصحّ على ما ذكرناه، أن يكون حدوث القرآن هو المعجز و الدّالّ على التّصديق، إلّا بأن نعلمه حادثا من اللّه تعالى في حال ادّعاء النبوّة؛

فكان المعجز- على ما يحصل من كلامنا- هو ما يفعله اللّه عقيب الدّعوى، على وجه لم تجر به العادة، ليصحّ أن يتعلّق بها التّصديق.

و ليس لأحد أن يقول: من أين تعلمون إذا كان الملك لا ينزل القرآن إلّا بأمر اللّه تعالى أنّ أمره بإنزاله إنّما كان حادثا عند ادّعاء الرّسالة؟ و لعلّه أمره متقدّما بذلك، و إن فعله الملك بعد الدّعوى.

فإن تقدّم الأمر فيما هذه سبيله لا يمتنع، و ذلك أنّ أمره تعالى للملك بإنزاله القرآن، إذا كان القصد به تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، دون غيره من الوجوه الّتي يجوز أن يفعل من أجلها- لأنّه لا يجوز أن يخصّه بأمر لم تجر به العادة إلّا على سبيل التّصديق له، و علمنا أنّ تصديقه لا يصحّ إلّا بعد أن تتقدّم منه الدّعوى ليقع التّصديق مطابقا لها، و ليكون متعلّقا بها- فقد وجب القطع على أنّ أمره تعالى للملك بإنزاله لا بدّ أن يكون متجدّدا عند تجدّد الدّعوى، و واقعا عقيبها، ليتمّ الغرض المقصود.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 234

و هذا بعينه جوابنا لمن قال: ألا أجزتم أن يتقدّم تمكين اللّه للرّسول صلّى اللّه عليه و آله من فعل القرآن بفعل العلوم فيه زمان النّبوّة؟! و ما المانع أيضا من أن يتقدّم الإقدار على نقل الجبال، و قلب المدن و ما أشبههما؛ و إن وقع الفعل من المدّعي النّبوّة في الحال، و يكون القصد بذلك- و إن تقدّم- إلى التّصديق؟! لأنّا إذا كنّا قد بيّنا أنّ ما هو مقصود به من التّصديق لا يتمّ و لا يصحّ إلّا بعد أن تتقدّم الدّعوى، و أنّ تقدّمها «1» بغير التّصديق لا «2» يجوز، فقد

صحّ ما قلناه و بطل جميع ما ذكره صاحب الكتاب في الفصل.

قال صاحب الكتاب «3»:

فإن قال: إذا جوّز في القرآن أن يكون منقولا إليه على هذا الوجه عند استدلاله، فيجب أن يجوّز «4» أن يكون «5» ظهر على بعض النّاس، أو بعض من يعصي و يستفسد، ثمّ نقله هو إلى نفسه، أو نقله غيره إليه «6»، فلا يصحّ أن يستدلّ به على النّبوّة، لأنّكم قد ذكرتم أنّه «7» إنّما يدلّ على النّبوّة إذا كان حادثا من قبله تعالى، أو من قبل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، بأن «8» يصدر عن علوم خارقة للعادة يحدثها [اللّه تعالى] «9» فيه عليه السّلام، أو بأن يكون واقعا من ملائكة، قد علم من عادتهم أنّهم لا يفعلون ما هو استفساد.

فإذا كان كلّ ذلك منتفيا «10» فيما ذكرناه، فيجب إذا جوّزه ألّا يصحّ أن يستدلّ به على النّبوّة.

______________________________

(1) في الأصل: تقدّمه، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و لا.

(3) المغني 16/ 179.

(4) في الأصل: يكون، و ما أثبتناه من المغني.

(5) في الأصل: أن يكون أيضا.

(6) إليه: ليست في المغني.

(7) من المغني.

(8) في الأصل: أن، و ما أثبتناه من المغني.

(9) من المغني.

(10) في المغني: متيقّنا.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 235

ثمّ قال «1»: قيل له: لا يخلو من يسأل عن هذه المسألة من أن يكون مسلّما لنا أنّه معجز ناقض للعادة، فإن «2» سلّم ذلك فلا وجه لهذا الطعن «3» للطّعن.

ثمّ قال: فإن قال: إنّي أسلّم أنّه معجز لنبيّ ما، و لست أسلّم أنّه ممّا يصحّ أن يستدلّ به على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فلا فرق بين أن لا يثبت لكم ذلك- مع ثبوت كونه معجزا، أو

مع بطلان كونه معجزا- في أنّ غرضكم لا يتمّ.

قيل له: إذا صحّ أنّه معجز فلا بدّ أن يكون ظاهرا على رسول، فلا بدّ من أن يكون تعالى كما لا يجوز أن يظهره على كذّاب، فكذلك لا يجوز أن يمكّن منه من يكذب في ادّعاء النبوّة، لأنّ الاستفساد في الوجهين قائم، لأنّ ما لأجله لا يظهره على كذّاب هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق في ظهور ذلك عليه، و لا بدّ من أن (يكون تعالى يميّز) «4» بينهما.

فكذلك إذا أمكن منه المتنبّي «5»، فقد حصل مثل هذه الصفة، فيجب أن يقع من جهته تعالى المنع منه «6»؛ لأنّ الدّلالة قد دلّت على أنّه تعالى كما «7» لا يفعل الاستفساد، فكذلك يمنع منه في التّكليف، و أحد الأمرين كالآخر في هذا الباب».

ثمّ سأل نفسه عن الشّبه الّتي يدخلها المكلّف على نفسه و على غيره في الأدلّة، و أنّه إذا لم يجب على اللّه تعالى المنع منها، و إن لم يجز أن يفعلها فألّا جاز مثله في باب المعجز؟ «8»

______________________________

(1) المغني 16/ 180.

(2) في الأصل: و إن، و ما أثبتناه من المغني.

(3) من المغني، و في الأصل: للطعن.

(4) هكذا الأصل، و في المغني: يميّز تعالى.

(5) ليست في المغني.

(6) ليست في المغني.

(7) زيادة في الأصل.

(8) قال القاضي عبد الجبّار في المغني 16/ 180: «و إن قال: أ ليس لم يمنع تعالى المكلّف من أن يدخل الشبه على نفسه و على غيره في باب الأدلّة، و إن كان تعالى لا يجوز أن

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 236

و أجاب عن ذلك: بأنّه تعالى قد مكّن من إزالة الشّبه «1»، بما نصب من الأدلّة، و لو مكّن في

المعجز ممّا سئل عنه، لم يكن للمكلّف طريق إلى غير تمييز المعجز ممّا ليس بمعجز، و الحجّة من الشّبهة.

الكلام عليه

يقال له: نحن نسلّم لك أنّ القرآن نفسه يصحّ كونه معجزا و دالّا على صدق من ظهر عليه، لكن إنّما نعلم ذلك فيه متى علمنا أنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّ به مدّعي النّبوّة. و سنبيّن فيما يأتي ما يصحّ أن يكون الطريق إلى العلم بما ذكرناه.

فأمّا التّسوية بين إظهار المعجز على الكذّاب، من حيث كان دلالة التّصديق و قائما مقامه؛ فإذا لم يجز أن يصدّق الكذّاب قولا- لأنّ تصديقه قبيح- لم يجز أن يفعل ما يجري مجراه و يقوم مقامه، و ليس في تمكين الكذّاب منه دلالة على تصديقه.

على أنّ هذا القول يقتضي أن يكون التمكين من الشّي ء يجري مجرى فعله، و يجب على من اعتمده أن يمنع من تمكين اللّه تعالى من فعل القبيح و سائر ضروب الشّبهات، كما يمنع من أن يفعل ذلك. و إلّا فإن جاز أن يمكّن من القبيح و الشّبهات و لم يجز أن يفعلهما، جاز أيضا أن يمكّن الكذّاب من تناول المعجز و ادّعاء النّبوّة به.

______________________________

يفعلها؟ فهلّا جاز القول بأنّه تعالى لا يظهر ذلك على المتنبّي، و يمكّن المتنبّي منه بأن يقتل الرّسول الذي ظهر عليه، و يدّعيه معجزة لنفسه، أو يلقيه إلى من يدّعيه معجزة لنفسه؟».

(1) في الأصل: الشبهة، و الأنسب ما أثبتناه من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 237

و إن لم يجز أن يظهره على كذّاب، هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق خطاء، لأنّ العلّة لو كانت ما ذكرناه لكان لمن خالف في أصل النّبوّات أن يقول: و أيّ شي ء في ارتفاع تمييز

الصّادق من الكذّاب من طريق الدّلالة، إذا لم يكن لذلك وجه في العقول، و لا عليه دلالة؟! فدلّوا أوّلا على أنّ المعجز دالّ على الصّدق في بعض المواضع، ليصحّ أن يمنعوا من ظهوره غير دالّ عليه، و يقولوا: إنّه يقتضي التباس الصّادق بالكاذب.

و الرّجوع إلى ما ذكرناه في المنع من ظهور المعجز على الكذّاب هو الصّحيح.

على أنّ ما ذكرناه لو كان صحيحا نصّا و واقعا في المنع من إظهار المعجز على من ليس بصادق موقعه، لم يكن ما بناه عليه صحيحا؛ لأنّه ظنّ أنّ المعجز إذا مكّن اللّه تعالى منه المتنبّي، فقد ارتفع طريق التمييز بين الصّادق و الكاذب- كما يكون مرتفعا لو أظهره على يده- ليس لأمر كما ظنّه؛ لأنّ الطّريق إلى تمييز الصّادق من الكاذب باق مع تجويز ما ذكرناه، و هو بأن يظهر على يد المدّعي ما يعلم أنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّه به، و أيّده بإظهار عليه.

و ليس هذا استفسادا كما قال؛ لأنّه تعالى قد مكّننا من ألّا ننفسد بما يجري هذا المجرى، و دلّنا على أنّه لا يحسن منّا تصديق من لم يعلم أنّه تعالى هو المصدّق له.

و أيّ استفساد يرجع إلى اللّه تعالى؟ و إنّما المستفسد لنا من أظهر ما لم يخصّه اللّه تعالى به، و ادّعى من الاختصاص ما ليس بصادق فيه.

فأمّا المنع من الاستفساد فلا يجب بأكثر من الأمر و النهي اللّذين لا ينافيان التّكليف، فمن ادّعى فيها زائدا على ما ذكرناه و أوجبه على اللّه تعالى فقد أوجب على اللّه تعالى ما لا وجه لوجوبه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 238

و الفرق بين أن يمكّن من الاستفساد و لا يمنع منه المنع الّذي

يرتفع معه، و بين أن يفعله هو الفرق بين أن يمكّن من القبيح و لا يمنع «1» منه، و بين أن يتولّى فعله «2».

ثمّ يقال له «3»: خبّرنا أ ليس قد ضلّ بما ظهر من ماني «4»، و زرادشت «5»،

______________________________

(1) في الأصل: منع.

(2) أورد الشريف المرتضى رحمه اللّه هذه الشّبهة في كتابه الذخيرة/ 386، بقوله: «إنّ المنع من الشبهات و فعل القبائح في دار التكليف غير واجب، و ليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف».

(3) قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386- 387: «أ ليس قد ضلّ بزرادشت و ماني و الحلّاج، و من جرى مجراهم من المنخرقين و الملتمسين جماعة، و فسدت بهم أديانهم، فألّا منعهم اللّه تعالى من هذا الاستفساد، إن كان المنع منه واجبا؟».

(4) دجّال ظهر في القرن الثالث الميلاديّ، كان أوّل أمره مجوسيّا ثمّ انقلب على المجوسيّة، و بدأ ينشر فضائح كهنتها و أحبارها، ثمّ أعلن نبوّته سنة 242 م، و كان له كتاب سمّاه «ارژنگ»، يحتوي على مجموعة من الرسوم و الصور الجميلة، فبهر بها أعين الناس.

انتشر مذهب المانويّة انتشارا وسيعا في بلاد فارس و أنحاء من آسيا و أوربا. يقال إنّ مذهبه متأثّر إلى حدّ بعيد بالبوذيّة و الغنوصيّة و الزرادشتيّة. حكم على ماني بالموت في بلاده، و قاومت الزرادشتيّة و النصرانيّة مذهبه في بلاده و أنحاء من الإمبراطوريّة الرومانيّة، فقضي عليها.

(5) هو نبيّ المجوس، و مؤسّس الديانة الزرادشتيّة أو المجوسيّة حوالي القرن 7 و 6 ق. م.

كتابه المقدّس هو (الأقستا) أو (زند أقستا)، و عماد الديانة المجوسيّة مبنيّ على صراع

الخير و الشرّ في العالم، و يحيط الغموض بجوانب كثيرة من شريعة المجوس، و قد أباد المسلمون حينما فتحوا بلاد فارس تراثهم و كتبهم المقدّسة، و يصنّف الإسلام المجوسيّة في عداد أهل الكتاب من أهل التوحيد.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 239

و الحلّاج «1»، و من أشبههم من ذوي المخاريق و النّواميس «2» خلق كثير، و اعتقدوا نبوّتهم و صدقهم، و كذلك القول في إبليس و من هلك بغوايته، و ضلّ بوساوسه؟! فلا بدّ من: نعم.

فيقال له: أو ليس القديم تعالى قادرا على منع جميع هؤلاء من تلك الأفعال المضلّة و الحيلولة بينهم و بينها؟! فلا بدّ من الاعتراف بذلك، لأنّه تعالى قادر لا يعجزه شي ء.

فيقال له: فألّا منعهم؟! و هل يلزم إذا لم يمنعهم جواز أن يفعل مثل تلك الأفعال القبيحة؟ ثمّ هل يكون مستفسدا للمكلّفين بتمكينهم منها؟

فإن قال: إنّما لم يجب عليه تعالى أن يمنعهم، و لا كان مستفسدا لهم من حيث كان قد مكّنهم من أن لا يفسدوا بشي ء من ذلك، و لا يغترّوا به بما نصبه من الأدلّة و أظهر من الحجج؛ فالضّالّ منهم إنّما دهي من قبل نفسه؛ لأنّه لو أنعم النظر في تلك الأفعال لعلم أنّها مخاريق و أباطيل، فإنّ اللّه تعالى لم يتولّها و لا أراد فعلها، و إنّه إنّما يريد من المكلّف أن يصدّق من علم ظهور ما له صفة المعجز في التّخصيص عليه.

قيل له: فهذا جوابك بعينه عمّا ألزمته، فتأمّله؛ لأنّ اللّه تعالى قد مكّن المكلّف بالأدلّة الواضحة من أن يفرّق بين من ظهر على يده ما لا يعلم أنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّه به، و بين من يعلم ذلك من حاله، و

أوجب عليه تكذيب الأوّل و تصديق

______________________________

(1) هو الحسين بن المنصور، قيل في حقّه المتناقضات، إذ عدّه البعض من كبار المتعبّدين و الزهّاد، و ذهب آخرون إلى أنّه من الملاحدة الزنادقة. ولد بفارس و تجوّل في بلدان عديدة، و ظهر أمره سنة 299 ه و اتّبعه جماعة من الناس، و اختلفت الأقوال و تضاربت الآراء حوله و حول معتقداته. أعدم ببغداد و أحرقت جثّته سنة 309 ه.

(2) المراد بالنواميس هنا ما يتنمّس به من الاحتيال و الكذب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 240

الثاني، فمتى لم ينصح نفسه، و قصّر في النّظر، و اشتبه عليه الأمر كان اللّوم عليه، و اللّه تعالى بري ء من عهدته.

فإن قال: أرى كلامك هذا مخالفا للأصول الّتي قرّرها الشّيوخ في باب الاستفساد، لأنّهم «1» أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد، كما أوجبوا أن لا يفعله، و لم يفرّقوا بين الأمرين، و لم يجر عندهم مجرى غيره من ضروب القبائح، بل أجازوا فيما لم يكن استفسادا من القبيح ألّا يمنع تعالى منه، و إن لم يجز أن يفعله فكيف ألحقتم أحد الأمرين بالآخر؟

قيل له: ليس الاستفساد- أوّلا- هو: ما وقع عنده القبيح و الفساد، لكنّه ما وقع عنده الفساد من المكلّف، و لو لاه لاختار الصّلاح من غير أن يكون تمكينا من الأمرين، بل يكون المكلّف متمكّنا من الصّلاح و الفساد مع عدمه، كما هو متمكّن منهما مع وجوده. و هذا ما لا خلاف بيننا فيه.

و قد علمت أنّ أبا هاشم «2» يجيز أن يقوّي اللّه تعالى شهوة المكلّف، فيصير فعل الواجب و الامتناع من القبيح عليه شاقّا، و يستحقّ من الثّواب عليهما أكثر ممّا كان يستحقّه لو لم يكن بهذه

الصّفة، و إن كان في معلومه تعالى أنّ المكلّف «3» عند زيادة الشّهوة و قوّتها يفعل [المعصية] «4» و لا يختار الطّاعة، و أنّه لو ضعّف شهوته

______________________________

(1) قبلها زيادة في هامش الأصل بلا علامة التصحيح لا توافق السياق، هي: «لأنّها كما أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد».

(2) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ. ولد سنة 277 ه بجبّا من أعمال خوزستان، و عاش ببغداد. يعدّ أبو هاشم من رءوس المعتزلة و أئمّتها و منظّريها، و صاحب آراء و نظريّات و مدرسة تتلمذ فيها جماعة من أعلام القرن الثالث و الرابع، منهم الصاحب بن عبّاد. أطلق على أصحابه و أتباع مدرسته اسم (البهشميّة)، توفّي ببغداد سنة 321 ه. له تصانيف عديدة.

(3) في الأصل: الكذب، و المناسب ما أثبتناه.

(4) زيادة يقتضيها السياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 241

و لم يزد فيها، لا يقع منه «1» المعصية، و يجعل هذا من باب التمكين، لا باب الاستفساد.

و يقول في غواية إبليس مثل ذلك، و يجيز أن ينفسد عندها من لو لاها لم يفسد، بعد أن يكون الحال على ما قدّرناه في زيادة الشّهوة و كثرة ما يستحقّه على الامتناع من الثّواب؛ و إن كان أبو عليّ «2» يخالف في هذه الجملة، و يلحق هذين الأمرين بباب الاستفساد. و على مذهبهما جميعا يصحّ ما قدّمناه من كلامنا.

أمّا على مذهب أبي هاشم الذي حكيناه فلا يمتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في تمكين المكلّف المتنبّئ «3» من تناول القرآن و ادّعاء النّبوّة زيادة مشقّة على المكلّفين في النظر و تمييز الصّادق من الكاذب، يستحقّون لأجلها من الثّواب أكثر ممّا كانوا يستحقّونه مع فقدها، فلا

يجب أن يمنع تعالى منه؛ لأنّه خارج من باب الاستفساد عنده، داخل في باب التّمكين و التّعريض لزيادة الثّواب.

و يلحق هذا الوجه- على مذهبه بتقوية الشّهوة- بتمكين «4» إبليس من الغواية و الإضلال، و تمكين من ذكرناه أيضا من ماني و زرادشت و غيرهما من مخاريقهم المضلّة و نواميسهم المفسدة.

و أمّا على مذهب أبي عليّ فهو أيضا صحيح مستمرّ؛ لأنّ أبا عليّ يقول: إنّما مكّن اللّه تعالى إبليس من الغواية و الدّعاء إلى الفساد، و لم يمنعه من ذلك من حيث

______________________________

(1) في الأصل: و لا يقع من.

(2) هو محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ- والد أبي عليّ الجبّائيّ- ولد سنة 235 ه بجبّا من أعمال خوزستان، درس على أبي يعقوب الشحّام الذي كان أهمّ رجال المعتزلة بالبصرة، فأصبح بعد موت شيخه رئيسا لمدرسة المعتزلة، و ظلّ هكذا إلى حين وفاته. و من تلامذته أبو الحسن الأشعريّ. له تصانيف كثيرة.

(3) في الأصل: الميني، و الظاهر ما أثبتناه.

(4) في الأصل: و بتمكين.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 242

علم تعالى أنّ كلّ من انفسد بدعائه و إضلاله قد كان ينفسد لولاهما. و يقول: لو لا هذا لمنعه من أفعاله، و لم يمكّنه منها.

و على هذا، غير ممتنع أن يعلم تعالى أنّ جميع من يضلّ و يفسد عند تمكين المتنبي بما ذكرناه، قد كان لو لا هذا التمكين يضلّ أيضا و يفسد، و أنّه ليس يحصل مع تمكينه من الفساد و الضّلال إلّا ما كان سيحصل لو لاه.

فيصير جواب أبي عليّ- عن غواية إبليس، و عن تمكين من ذكرناه من الكذبة الممخرقين من أفعالهم- هو جوابها بعينه لمن أوجب أن يمنع القديم تعالى ما «1» أجزناه.

و هذه الطّريقة

الّتي سلكناها- في إبطال قول من أوجب على القديم تعالى المنع ممّا ذكرناه، لما ظنّه من الاستفساد- تبطل أيضا قول من أوجب عليه تعالى منع الملائكة أو الجنّ من فعل ما تنخرق به عادتنا، على سبيل التّصديق للكذّاب، على ما مضى من كلام صاحب الكتاب المتقدّم.

و تبطل قول من أوجب منعه تعالى من أن ينقل هذا الكتاب ناقل إلى بعض البلدان البعيدة الّتي لم يتّصل بأهلها دعوة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و لم يسمعوا بأخباره، فيدّعي به هناك النّبوّة، على ما اعتمده صاحب الكتاب فيما يأتي من كلامه؛ لأنّ مرجع كلّ ذلك إلى التّعلّق بالاستفساد الّذي قد كشفنا ما فيه و أوضحناه. الموضح عن جهة إعجاز القرآن النص 242 قال صاحب الكتاب: ..... ص : 242

قال صاحب الكتاب «2»:

«فإن قال: و من أين أنّ ذلك لو وقع كان لا يتميّز من الحجّة؟ بل ما أنكرتم أنّه إنّما يكون حجّة، إذا علم أنّه لم يحدث إلّا عند دعواه، فمتى «3» حصل له هذا العلم زال التّجويز الّذي ذكرناه، و يصحّ أن يستدلّ به.

______________________________

(1) في الأصل: بما، و الظاهر ما أثبتناه.

(2) المغني 16/ 181.

(3) في الأصل: فمن، و ما أثبتناه من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 243

و ليس كذلك إذا كانت الحال ما ذكرتم، لأنّه مع تجويزه أن يكون قد أخذ من غيره، لا يحصل «1» له العلم، فيعلم أنّه لم يتكامل (له شروط دلالته) «2»، فينفصل عنده من الحجّة، كانفصال سائر الأدلّة من الشّبه.

ثمّ قال: قيل له: قد بيّنا أنّ علم المكلّف بأنّه حدث عند ادّعاء النبوّة، (على خلاف العادة) «3»، يكفي في صحّة الاستدلال.

و بيّنا أنّ العلم الّذي سأل عنه، لو كان

شرطا لكان لا يتمّ الاستدلال بإحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص، إلّا بعد أن يعلم أنّ حدوث ذلك لا يجوز أن يكون بالانتقال «4».

فإذا لم يجب ذلك، و صحّ الاستدلال بها لمن لم يخطر (ذلك له) «5» بالبال، فقد بطل كون هذا العلم شرطا.

على أنّ هذا العلم لو كان شرطا، لم يخل من أن يكون طريقه الاضطرار أو الاستدلال:

فإن كان طريقه «6» الاضطرار فيجب أن يكون له طريقة يعلم عندها، و لا طريق يشار إليه يعلم عنده أنّ القرآن لم يظهر إلّا على الرّسول صلّى اللّه عليه و آله عند ادّعائه النبوّة، و أنّه لم يظهر على أحد من قبل.

و كذلك فلا يصحّ فيه الاستدلال؛ لأنّه لا دليل يدلّ على أنّه لم يظهر إلّا عليه، كما يدلّ الفعل «7» على أنّه من قبل فاعله؛ لأنّ ذلك إنّما يصحّ فيه لما كان فعله حادثا من قبله، فعلم أنّه لم يحدث إلّا منه بالدّليل الّذي نذكره في هذا الباب.

و القرآن؛ فليس من فعله على الحدّ الّذي يكون معجزا، فكيف يمكن أن يستدلّ

______________________________

(1) هكذا في المغني، و في الأصل: يجعل.

(2) في المغني: شرط دلالته.

(3) في المغني: على وجه ينفصل ممّا جرت العادة بمثله.

(4) في المغني: زيادة: و أن يزيل هذه الشّبهة».

(5) في المغني: له ذلك.

(6) من المغني.

(7) في المغني: الفصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 244

به على أنّه لم يظهر على غيره، مع أنّه لا بدّ من القول بأنّه حدث من قبل غيره؟

و إذا لم يصحّ حصول العلم من الوجهين، فكيف يصحّ أن يجعل شرطا، مع أنّ كونه شرطا يبطل كونه معجزا، و قد سلّم السّائل أنّه معجز في الأصل؟».

الكلام عليه

يقال له: قد بيّنا بطلان

ما ظننته من التباس الحجّة بالشّبهة، و أوضحنا كيفيّة التمييز بينهما، مع تجويز ما ألزمناك أن تجوّزه.

و قد مضى الكلام أيضا سالفا في أنّ الذي اخترته و اقتصرت عليه من وقوع الفعل على خلاف العادة غير كاف في الدّلالة على النبوّة، و استقصيناه.

و كذلك الكلام في دلالة «1» إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص، و ميّزنا الوجه الذي تكون هذه الأفعال عليه دالّة على النّبوّة، مع تجويز الانتقال على الحياة، من الوجه الذي لا يدلّ معه لأجل هذا التّجويز. و لم يبق إلّا أن نبيّن الطّريق إلى العلم بأنّ القرآن لم يظهر على غير من علمنا «2» ظهوره من جهته؛ لأنّا قد سلّمنا لك أنّه يمكن أن يكون معجزا على الوجه الذي يدّعيه، فلا بدّ من أن نبيّن ما يمكن أن يعلم به اختصاصه بمن ظهر عليه، و إلّا بطل تقدير كونه معجزا على كلّ وجه.

و إن كنّا لا نحتاج في نصرة مذهبنا إلى شي ء من هذا؛ لرجوعنا في الدّلالة على النّبوّة إلى ما يعلم حدوثه في الحال، و لا يمكن فيه التّقديم.

و يمكن أن يعلم القرآن و أمثاله من الكلام [على] ما ذكرناه من وجهين:

أحدهما: أن يكون متضمّنا من الأخبار لما يعلم مطابقته لأحوال من ظهر عليه، و قصصه و الحوادث في أيّامه، فيعلم أنّه المختصّ به دون غيره.

______________________________

(1) في الأصل: دلة، و الصحيح ما أثبتناه.

(2) في الأصل: علمناه، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 245

و قد شرحنا هذا الوجه فيما تقدّم من كتابنا «1»، و أوضحناه، و ذكرنا من جملة ما في القرآن من الأخبار الدّالّة على اختصاص الرّسول صلّى اللّه عليه و آله به قطعة

وافرة، و هذا طريق واضح لا يمكن دفعه.

و الوجه الآخر: أن يعلم من جهة بعض الأنبياء من قد علمنا نبوّته بمعجز لا يمكن فيه النقل و الحكاية؛ لأنّ الكتاب الّذي ظهر لم يتقدّم حدوثه، فنأمن أن يكون المختصّ به غير من ظهر عليه.

و ليس لأحد أن يقول: إنّكم إذا علمتم من جهة النبيّ الذي ذكرتموه أنّ ذلك لم يتقدّم حدوثه فقد علمتم نبوّة من ظهر عليه، و صدقه بقوله، جرى «2» أن يقول: هذا نبيّ صادق فاتّبعوه؛ و ذلك أنّ القدر الّذي علمناه بقول النّبيّ هو أنّ الكتاب لم يتقدّم حدوثه، و هذا غير كاف في الدّلالة على صدق من ظهر عليه. بل لا بدّ من النّظر في أحوال الكتاب؛ فإذا علمنا استيفاءه لشرائط المعجز، علمنا صدقه.

و ليس له أن يقول: أيّ فائدة في النّظر في الكتاب الّذي يظهره، و أنتم إذا علمتم من جهة النّبيّ الآخر أنّه لم يتقدّم، أمكن أن تعلموا نبوّة هذا المدّعي و صدقه من جهته، و يصير النّظر في الكتاب لا معنى له! لأنّه يمكن أن تكون الفائدة فيه من حيث علم اللّه تعالى أنّ المكلّفين بتصديق «3» من ظهر عليه الكتاب من نظروا فيه و علموا به صدقه، كانوا أقرب إلى اتّباعه و قبول ما دعاهم إليه منهم لو علموا نبوّته من جهة نبيّ آخر، أو بمعجز غير الكتاب على الحدّ الذي يقوله في إظهار معجز دون معجز، و على وجه دون وجه، في وقت دون وقت، و كما نقول (في العبادة ينقض) «4» الأفعال دون بعض.

______________________________

(1) راجع الصفحة 142 لغاية 153.

(2) في الأصل: و جرى.

(3) في الأصل: لتصديق.

(4) كذا في الأصل، و لعلّه: في العادة: بعض.

الموضح عن جهة

إعجاز القرآن، النص، ص: 246

قال صاحب الكتاب بعد كلام لم نحتج إلى ذكره «1»:

«فإن قال «2»: أ فلستم قد جعلتم هذا العلم شرطا، من حيث قلتم: إنّه تعالى إذا لم يجز أن يمكّن من الاستفساد فلا بدّ من أن يعلم أنّ ذلك لم يظهر على غيره، فقد عدتم إلى أنّ هذا العلم شرط في الاستدلال؟

ثمّ قال: قيل له: إنّا لا نجعل ذلك شرطا، لكنّا نجعله دافعا للشّبهة و مزيلا لها إذا وردت على المكلّف، كما قلنا إنّ إحياء الموتى يصحّ الاستدلال به [على النّبوّة، و لم نجعل شرط الاستدلال به] «3» العلم باستحالة الانتقال على الأعراض، و إن كان من «4» خطر بباله، و صارت شبهة يمكنه إزالة ذلك بأن يعلم بالدليل الظّاهر أنّ الانتقال لا يجوز عليها، فكذلك القول فيما قدّمناه.

و بعد، فلو جعلنا ذلك شرطا لكنّا قد جعلنا الشّرط ما يصحّ وجوده للمكلّف عند النظر في النبوّات؛ لأنّه قد علم أنّ القديم تعالى حكيم، و أنّه يرسل الرّسول للمصالح، و أنّه لا بدّ من أن يفرّق بين النبيّ و المتنبّي، و يمنع ممّا يؤدّي إلى أن لا فرق بينهما، فيعلم عند ذلك أنّ القرآن لا يظهر على من أخذه من غيره، و جعله دلالة نبوّته، مع كونه كذّابا.

و ليس كذلك ما جعلته شرطا؛ لأنّك أحلت على علم لا طريق لك إلى ثبوته من الوجه الّذي ادّعيته [فسلم ما قلناه، و بطل ما ادّعيته] «5».

على أنّه لا بدّ من القول بما ذكرناه على كلّ حال، و إن لم نقل: إنّ ظهور القرآن على من هذا حاله يوجب التباس النّبيّ بالمتنبّي، و ذلك لأنّه [كما] «6» يجب أن يمنع من إظهاره تعالى المعجزات على الصّالحين، لما فيه من المفسدة- على ما بيّناه

من قبل- فيجب أن نمنع من أن يمكّن أحدا من ادّعاء معجزة لنفسه، على

______________________________

(1) لاحظ كلام القاضي عبد الجبّار و استدلاله في المغني 16/ 183.

(2) المغني 16/ 184- 185.

(3) من المغني.

(4) في المغني: متى.

(5) من المغني.

(6) من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 247

وجه يلتبس «1» حاله بحال من يظهر نفس المعجز عليه؛ لأنّ هذا أدخل في المفسدة و التنفير».

الكلام عليه

يقال له: قد دللنا على أنّ النّاظر في دلالة ما يجري مجرى الكلام- الذي يتأتّى فيه النقل و الحكاية- على النّبوّة، لا بدّ من أن يكون آمنا من ظهور ذلك على غير من أتى به، و أنّ هذا العلم لا بدّ من كونه شرطا في صحّة الاستدلال؛ لأنّه متى لم يحصل الثّقة بأنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّه به جوّز «2» النّاظر أن يكون اختصاصه على جهة الاستفساد من فاعل يجوز أن يفعل القبيح، و أجرينا ذلك مجرى العلم بأنّ الفعل الظّاهر على مدّعي النّبوّة خارج عن مقدور البشر و مجرى العلم بأنّ القديم تعالى غنيّ لا يجوز أن يختار فعل القبيح، في أنّهما يشرطان في صحّة الاستدلال بما يظهر على النبوّة، لا دافعان للشّبهة عند خطورهما بالبال.

و لا فرق بين من دفع في العلم الأوّل- الّذي ذكرنا «3» كونه شرطا- و أنزله منزلة ما يدفع الشّبهة عند ورودها- و إن كان فقده غير مخلّ بصحّة الاستدلال- و بين من قال بمثل ذلك في العلمين «4» الآخرين.

و قد «5» مضى الكلام أيضا في أنّ من جوّز على الحياة الانتقال بفاعل غير اللّه تعالى لم يصحّ استدلاله بها على النبوّة، كما لا يصحّ استدلاله لو كان مجوّزا حدوثها بغيره عزّ و جلّ؛ فلا معنى

لتكراره- بتكرار صاحب الكتاب- التعلّق به مرّة

______________________________

(1) من المغني، و في الأصل: تلبيس، و سيرد في آخر المبحث «يلتبس».

(2) في الأصل: و جوّز، و الظاهر ما أثبتناه.

(3) في الأصل: ذكرناه، و المناسب ما أثبتناه.

(4) في الأصل: العالمين، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(5) في الأصل: فقد.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 248

بعد أخرى، فقد ذكرنا ما يمكن أن يكون طريقا إلى العلم بما ذكرنا أنّه شرط، و أنّه ممّا يمكن المكلّف إدراكه و إصابته، فسقط قوله: «إنّ الّذي ذكره لو كان شرطا لأمكن العلم به و أنّ الّذي ذكرناه لا طريق إليه».

فأمّا منعه ممّا ألزمناه لما فيه من التّنفير و المفسدة- قياسا على المنع من ظهور المعجزات على الصّالحين و من ليس بنبيّ- فقد بيّنا فيما أمليناه من كتابنا «الشافي في الإمامة» «1» جواز ظهور المعجزات على أيدي الأئمّة و الصّالحين، و دللنا على أنّه لا تنفير في ذلك و لا فساد.

على أنّا لا نمنع ممّا اقتضاه ظاهر كلام الكتاب، لأنّه قال: «فيجب أن يمنع من أن يمكن أحدا من ادّعاء معجزة لنفسه، على وجه يلتبس بها حاله بحال من يظهر نفس المعجز عليه».

و نحن نمنع ممّا ذكره من كان بهذه الصّفة من الالتباس «2»؛ لأنّ المفهوم من الالتباس ما لا يمكن معه إصابة الحقّ، و لا القطع على الصّواب.

و قد بيّنا أنّ الّذي جوّزناه لا يقتضي التباس المعجز بما ليس بمعجز، و لا يرفع طريق التّمييز بيننا. اللّهمّ إلّا أن يريد بلفظة «الالتباس» قوّة الشّبهة و شدّة المشقّة على المكلّف مع تمكّنه من «3» إصابة الحقّ، و هذا إن أراده، يسقط بجميع ما تقدّم؛ لأنّ القديم تعالى لا يجب عليه المنع من الشّبهات.

ثمّ

قال صاحب الكتاب «4» في جملة فصل يتضمّن: «بيان صحّة التّحدّي بالكلام الفصيح»، بعد أن بيّن أنّ امتناع المعارضة لا يجوز أن يكون؛ لأنّ اللّه تعالى فعل فيهم منعا عن الكلام:

______________________________

(1) الشافي في الإمامة 1/ 196.

(2) في الأصل: التباس، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: بل، و الظاهر ما أثبتناه.

(4) المغني 16/ 214.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 249

«فإن قال «1»: امتنع عليهم ذلك بأن أعدمهم اللّه تعالى العلوم الّتي معها يمكن الكلام الفصيح، فصار ذلك ممتنعا عليهم؛ لفقد العلم لا للوجوه التي ذكرتموها.

ثمّ قال: قيل له: ليس يخلو فيما ادّعيته «2» من وجهين:

إمّا أن تقول: قد كان ذلك القدر من العلم حاصلا من قبل معتادا، فمنعوا منه [عند] «3» ظهور القرآن.

أو تقول «4»: إنّ المنع من ذلك مستمرّ غير متجدّد، و إنّهم لم يخصّوا «5»، و لا من تقدّمهم بهذا القدر من العلم.

فإن أردت [الوجه] «6» الأوّل فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدر ما جرت به العادة من قبل، و إنّما منعوا من مثله في المستقبل.

و لو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن؛ لكونه مساويا لكلامهم، و لتمكّنهم من قبل من فعل مثله في قدر الفصاحة. و إنّما يكون «7» المعجز ما حدث فيهم «8» من المنع، فكان التحدّي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن، حتّى لو لم ينزّل اللّه تعالى عليه «9» القرآن و لم يظهره «10» أصلا، و جعل دليل نبوّته امتناع الكلام عليهم على الوجه الّذي اعتادوه لكان وجه الإعجاز لا يختلف، و هذا ممّا يعلم «11» بطلانه باضطرار؛ لأنّه عليه السّلام تحدّى بالقرآن، و جعله العمدة في هذا الباب.

على أنّ ذلك لو

صحّ لم يقدح في صحّة نبوّته؛ لأنّه كان يكون بمنزلة أن يقول صلّى اللّه عليه و آله: دلالة نبوّتي أنّي أريد المشي في جهة، فيتأتّى لي العادة، و تريدون

______________________________

(1) المغني 16/ 218.

(2) في المغني: لست تخلو فيما ادّعيت.

(3) من المغني.

(4) في الأصل: يقول.

(5) في المغني: لم يختصّوا.

(6) من المغني.

(7) في المغني: كان يكون.

(8) في المغني: منهم.

(9) ليس في المغني.

(10) في المغني: يظهر.

(11) في المغني: نعلم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 250

المشي فيتعذّر عليكم. فإذا وجدوا «1» الأمر كذلك دلّ على نبوّته، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضا للعادة».

الكلام عليه

يقال له: أمّا صورة مذهبنا في الصّرفة فقد ذكرناها في صدر هذا الكتاب و شرحناها، و بيّنا أنّ اللّه تعالى إنّما يصرف عن المعارضة بأن يفقد من رام تعاطيها في الحال العلم بالفصاحة، و لا يمكن معه المعارضة، و إن كان متى لم يقصدها لم يفقد هذه العلوم.

و دللنا على أنّ العلوم الّتي يمكن معها معارضة القرآن- بما يقاربه في الفصاحة و يخرجه عن أن يكون خارقا لعادة العرب بالفصاحة «2»- قد كانت موجودة في القوم، و معتادة لهم.

فأمّا إطلاق القول على القرآن بأنّه معجز و ليس بمعجز، فقد مضى أيضا ما فيه مشروحا، و أوضحنا ما يتعلّق في هذا الباب بالمعنى و ما يرجع إلى العبارة، و أنّ الشّناعة المقصودة لا تلزم، و تتوجّه على من قال: «إنّ القرآن ليس بمعجز»، يعني أنّ البشر يتمكّنون من مساواته أو مقاربته، و أنّه لا حائل بينهم و بين ذلك. أو بمعنى أنّه لا حظّ له في الدّلالة على نبوّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

فأمّا من نفى عنه ما ذكرناه، و قال: إنّه ليس بمعجز

بنفسه و لا خارق للعادة بفصاحته، لكنّه يدلّ على ما هو المعجز في الحقيقة، و يسند إلى الأمر الخارق للعادة، فلا شناعة عليه.

و ليس يجب إذا كان المنع عن المعارضة هو العلم على الحقيقة، ألّا يقع التحدّي بالقرآن، كما ظنّ صاحب الكتاب؛ لأنّه لو لا التّحدّي بالقرآن و قصور

______________________________

(1) في المغني: وجد.

(2) في الأصل: بفصاحة، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 251

العرب عن معارضته لما علمنا ذلك المنع، و لا كان لنا إليه طريق. فكأنّه صلّى اللّه عليه و آله قال للعرب: هاتوا مثل هذا القرآن، فإذا تعذّر عليكم- مع أنّ فصاحته ممكنة لكم و معتادة منكم- فاعلموا أنّ اللّه تعالى قد صرفكم عن معارضتي، و منعكم منها، تصديقا لي و دلالة على نبوّتي.

فكان الأمر في المنع الّذي ذكره لا ينكشف إلّا بالتحدّي بالقرآن، فكيف تظنّ أنّ التحدّي به مستغنى عنه، إذا كان الأمر على ما ذهبنا إليه؟ أو لا ترى أنّ اللّه تعالى لو كان يمكّن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من فعل القرآن بأن فعل له علوما خارقة للعادة على مذهبه لكان المعجز في الحقيقة هو تلك العلوم لا نفس القرآن، و مع ذلك فالتحدّي بالقرآن لا بدّ منه؛ لأنّ به ينكشف حال تلك العلوم، و من جهته يتطرّق إلى إثباتها.

و لم يكن لأحد أن يقول: إذا كانت تلك العلوم هي العلم المعجز الدّالّ على التّصديق فلا معنى للتّحدّي بالقرآن، بل كان يجب أن يقع التحدّي بالعلوم المخصوصة! و هكذا القول: لو كان تعالى قد مكّن رسوله صلّى اللّه عليه و آله من قدر لم تجر بمثلها العادة، يتأتّى بها من ضروب الجمل ما لا يتّسع له

البشر؛ لأنّ المعجز في هذه الحال هو القدر و التحدّي بالفعل الواقع عنها، و إظهاره، و المطالبة بمثله، ممّا لا بدّ منه.

و لا شكّ في أنّ اللّه تعالى لو لم ينزّل القرآن أصلا، و جعل دليل نبوّته امتناع الكلام على القوم، لكان دالّا و معجزا على ما ذكر. إلّا أنّه ليس يجب- إذا لم يفعل ذلك، و جعل دليل نبوّته امتناع معارضة القرآن عليهم- ألّا يقع التحدّي بالقرآن، و المطالبة بالإتيان بمثله! و كأنّه يقول: إذا صحّ أن يقوم مقام القرآن غيره، و صحّ «1» وقوع المنع منه

______________________________

(1) في الأصل: و صحّت، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 252

على وجه الإعجاز، وجب أن لا يكون في ظهوره فائدة، و لا في التحدّي بالمنع من معارضته.

و هذا ممّا لا يخفى بطلانه على أحد؛ لأنّه لا شي ء من الأفعال يقع المنع منه على وجه الإعجاز إلّا و لو قام مقامه غيره لم يختلف وجه الدّلالة، و لا يقتضي ذلك ألّا يكون فيما وقع المنع منه من الأفعال فائدة.

على أنّ من ذهب في إعجاز القرآن إلى الفصاحة، يلزمه إذا كان اللّه تعالى قادرا على أن ينزل مكان هذا القرآن غيره ممّا يماثله في الفصاحة أو يزيد عليه فيها زيادة كثيرة، و نحن نعلم أنّه لو أنزل ما هو أفصح منه، لكان الأمر في إعجازه أظهر- إلّا أن يكون في إنزال القرآن و التحدّي به فائدة.

فإن قال: من ذهب إلى ما ذكرناه- أنّه و إن جاز أن ينزّل غيره و يقوم في الدّلالة مقامه، أو يكون أوضح أمرا منه- فيجب إذا لم يفعل ذلك و أنزل هذا القرآن، أن يقع التحدّي به، لينكشف الأمر

في إعجازه. و لو أنزل غيره لكان التحدّي يقع بذلك.

قيل له: و هكذا يجب- إذا كان اللّه تعالى قد جعل دليل نبوّة رسوله عليه و آله السّلام المنع من معارضة هذا القرآن دون غيره- أن يقع التحدّي بالقرآن أو المطالبة بالإتيان بمثله، لينكشف الأمر في المنع الّذي هو العلم على صدقه.

و لو جعل دليل النبوّة امتناع الكلام، أو الحركات، أو غيرهما من الأفعال، لكانت المطالبة تقع بتلك الأفعال.

فأمّا قوله: «و هذا ممّا يعلم بطلانه باضطرار؛ لأنّه عليه و آله السّلام تحدّى بالقرآن و جعله العمدة». فإن أراد أنّ المعلوم بطلانه باضطرار أنّه صلوات اللّه عليه و آله لم يتحدّ بالقرآن و لا طالب القوم بمثله بل عدل إلى سواه فيما طالبهم بفعله، فلا شكّ في بطلان ذلك. و هو إذا صحّ كان شاهدا لقولنا و غير مناف

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 253

لمذهبنا، على ما بيّناه.

و إن أراد- فيما ادّعى العلم ببطلانه اضطرار- شيئا آخر غير ما ذكرناه، فقد كان يجب أن يفصح به، و ما نظنّه أراد غيره. و قوله: «بأنّه عليه و آله السّلام تحدّى بالقرآن و جعله العمدة» عقيب ذكر الاضطرار، يدلّ على أنّه أراد ذلك.

و كيف لا يجعله عليه السّلام العمدة في ذلك و المفزع في الحجّة، و الأمر في نبوّته لا يكشف إلّا بالنّظر فيه، و العلم بأنّ القوم طولبوا بالإتيان بمثله و ببعضه فلم يفعلوا. و أنّ امتناعهم من معارضته إنّما كان للتعذّر و القصور اللّذين سببهما ما فعله اللّه تعالى فيهم من المنع و سلب العلوم.

فإن قال: المعلوم من حال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، خلاف ما يذكرونه «1» و يذهبون إليه؛ لأنّه عليه و

آله السّلام كان يجعل القرآن دليل نبوّته، و العلم على صدقه، و يذكر أنّ اللّه تعالى أبانه به، و مذهبكم يخالف جميع ما ذكرناه.

قيل له: أمّا المعلوم الّذي لا إشكال فيه فهو أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يحتجّ بالقرآن، و يدعو في الاستدلال على نبوّته إليه، و يطالب العرب بفعل مثله، و يشهد قاطعا متيقّنا بأنّهم لا يفعلون، و يجعل قصورهم دليل نبوّته.

فأمّا وجه الاحتجاج به، و هل هو لأنّ القرآن بنفسه المعجز، أم مستند إلى ما هو المعجز على الحقيقة و متعلّق به، و كون قصور القوم عن المعارضة دليلا على نبوّته؟ و هل ذلك لأنّ القرآن في نفسه خارق للعادة بفصاحته، أم لأنّهم منعوا من المعارضة و صرفوا عنها؟ ممّا ليس بمعلوم من جهته عليه و آله السّلام و لا من ظاهر حاله، و إنّما يعلمه النّاظر بالدّليل الّذي ربّما خفي إدراكه على كثير من المتكلّمين.

______________________________

(1) في الأصل: يذكر فيه، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 254

و لو كان ما ذكرناه ثابتا معلوما على حدّ العلم بما ذكرناه أوّلا، لوجب أن يكون جهة كون القرآن معجزا و دالّا على النّبوّة معلومة باضطرار، كما أنّ التحدّي بالقرآن معلوم ذلك، فكان لا يصحّ أن يخالف من جهة دلالته مقرّ بصدق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صحّة نبوّته، كما لا يصحّ أن يخالف فيما جرى مجراه.

على أنّا ما نأبى القول بأنّ القرآن دليل نبوّته عليه و آله السّلام، و العلم على صدقه، و لا يمتنع من هذه الجملة.

و إن أردنا بذلك أنّ النّاظر في أحواله و المتأمّل لها يفضي به نظره إلى العلم بما هو الدّليل

و العلم على الحقيقة، فمن حيث كان وصلة إلى الدّليل و طريقا إليه و متعلّقا به، جاز أن يصفه بصفته.

كما لا يمتنع الكلّ من وصف القرآن بأنّه دليل و علم، و إن كان من فعله عليه و آله السّلام، من حيث كان مستندا و متعلّقا بما هو الدّليل و العلم على الحقيقة من العلوم «1».

و كذلك الوصف لما يظهره الرّسول عليه السّلام من حمل الجبال و قلب المدن، إذا كان واقعا عن قدرة. و لا ينكر وصفه بأنّه دليل، على التفسير الذي ذكرناه.

و كما يصف أيضا إخباره صلّى اللّه عليه و آله عن الغيوب، و إنذاره الحوادث الكائنة في المستقبل بأنّها أدلّة له و أعلام، من حيث استندت إلى العلوم الّتي هي في الحقيقة واقعة موقع الإعلام.

و ليس لأحد أن يقول: إنّه عليه و آله السّلام كان يجعل القرآن دليلا و حجّة دون وجه كذا على خلاف ما ذكرتم؛ لأنّا قد بيّنا أنّ كيفيّة كونه دليلا و حجّة، فهل هو الدالّ بنفسه أم بغيره، بما لم يعلمه من دونه «2» صلّى اللّه عليه و آله اضطرارا؟ و لا يدّعي العلم به

______________________________

(1) كذا في الأصل، و الظاهر: الأعلام.

(2) في الأصل: من دينه، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 255

من هذه الجهة إلّا غبيّ أو معاند، و إنّما يعلم ذلك بالأدلّة التي تستخرج بها أمثاله.

فأمّا ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله أنّ اللّه تعالى أبانه بالقرآن، فغير مخالف لمذهبنا؛ لأنّا نقول:

إنّ اللّه تعالى أبانه عليه و آله السّلام به، كما أبانه بنزول جبرئيل عليه السّلام، إلى غير هذا من ضروب الاختصاصات و فنون الكرامات.

غير أنّ هذه الإبانة لا يمكن أن نعلم

بها في الأصل صحّة نبوّته، بل لا بدّ من أن يعلم صحّة النبوّة قبلها بما ذكرناه من ثبوت المنع عن المعارضة؛ فإذا علمنا ذلك رجعنا إلى خبره عليه السّلام في حصول الإبانة و الاختصاص و نزول جبرئيل عليه السّلام و ما أشبههما. و هذه جملة كافية تأتي على ما ذكره في الفصل.

ثمّ قال صاحب الكتاب في جملة فصل مترجم بذكر: «وجوه إعجاز القرآن و ما يصحّ من ذلك و ما لا يصحّ» «1».

«فإن قالوا «2»: إنّا نجعله معجزا، لصرفه تعالى «3» إيّاهم عن المعارضة.

فقد «4» بيّنا من قبل: أنّه لا يجوز أن يكونوا ممنوعين من الكلام بكذا ... و أشار إلى ما ذكره «5».

ثمّ قال: و بيّنا أنّ هذا الوجه لو صحّ لم يوجب كون القرآن معجزا، و كان يجب أن يكون المعجز منعهم من فعل مثله، كما أنّه تعالى لو جعل دلالة نبوّته صلّى اللّه عليه و آله «6» أن يتمكّن من مشي، أو كلام، أو تحريك يد، في حال يتعذّر

______________________________

(1) المغني 16/ 316- فصل: «في وجوه إعجاز القرآن، و ما يصحّ من ذلك و ما لا يصحّ، و ما يتّصل بذلك».

(2) المغني 16/ 322.

(3) في المغني: و إن كان كذلك لصرفه.

(4) في الأصل: قد، و ما أثبتناه من المغني.

(5) يشير إلى ما ذكره القاضي في بداية هذا الفصل، و كرّره في هذا المقام من قوله: «بأن دللنا على أنّ المنع و المعجز لا يختص كلاما دون كلام، و أنّه لو حصل ذلك في ألسنتهم لما أمكنهم الكلام المعتاد، و المعلوم من حالهم خلاف ذلك».

(6) من المغني.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 256

على جمعهم «1» مثله، لقد كان ذلك معجزا، لكن المعجز

كان منعهم «2» من ذلك؛ لأنّ الخارج عن العادة، دون تمكّنه صلّى اللّه عليه و آله ممّا فعله، لأنّ ذلك معتاد. و من سلك هذا المسلك في القرآن، يلزمه ألّا يجعل «3» له مزيّة البتّة.

على أنّ ذلك يبطل بنصّ «4» القرآن؛ لأنّه تعالى قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «5».

و لو كان الوجه الّذي له تعذّر عليهم المنع، لم يصحّ ذلك؛ لأنّه لا يقال في الجماعة «6» إذا امتنع عليها الشي ء: إنّ بعضها يكون ظهيرا لبعض؛ لأنّ المعاونة و المظاهرة «7» إنّما تمكن مع القدرة، و لا تصحّ مع المنع و العجز» «8».

الكلام عليه

يقال له: لسنا نذهب في الصّرف إلى أنّه المنع من الكلام، و الّذي نذهب إليه فيه قد ذكرناه و أوضحناه. و لو لا أنّ كلامك هذا على من ذهب إلى «9» أنّ القوم منعوا من الكلام يمكن أن يطعن به طاعن فيما نذهب إليه لتجاوزنا عنه، و لم نتشاغل بالكلام عليه. و بطلانه واضح على كلّ وجه؛ لأنّا قد بيّنا فيما مضى الكلام على من ألزم إطلاق القول بأنّ القرآن ليس بمعجز، و شرحناه.

فأمّا إلزامنا أن لا يكون له مزيّة، إذا كان العلم المعجز في الحقيقة غيره فليس

______________________________

(1) في المغني: جميعهم.

(2) في المغني: لكان المعجز منعهم.

(3) في الأصل: جعل، و ما أثبتناه من المغني.

(4) في المغني: بعض.

(5) سورة الإسراء: 88.

(6) في الأصل: الجملة، و ما أثبتناه من المغني.

(7) في الأصل: المطابقة، و ما أثبتناه من المغني.

(8) في المغني: العجز و المنع.

(9) في الأصل: على، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 257

يخلو

من ألزمنا نفي مزيّته من أن يريد نفيها في باب الدّلالة، أو التّحدّي، أو الفصاحة.

و كلّ هذه الوجوه قد تقدّم الكلام على أنّ القرآن- و إن لم يكن هو العلم في الحقيقة- فغير واجب نفي المزيّة عنه في شي ء منها.

فأمّا الآية الّتي تلاها صاحب الكتاب فهي أبعد ما يسأل عنه و يقدح «1» به؛ لأنّه تعالى أراد أن يخبرنا عن تعذّر معارضة القرآن على الخلق أجمعين، فنفى ذلك على آكد الوجوه.

و نحن نعلم أنّ مع التظاهر و التعاون ربّما تأتّى ما يتعذّر، و أنّ الشي ء إذا كان متعذّرا و غير متأتّ مع التوازر و التظاهر كان أبعد من التأتّي مع الانفراد، و كان نفي تأتّيه آكد و أبلغ؛ فلهذا قال تعالى: وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.

و ليس في الإخبار عن أنّ المعارضة لا تقع، و تأكيد نفي وقوعها- بما جرت عادة أهل العربيّة بأن يؤكّدوا به بخطابهم- دلالة على وجه التعذّر ما هو.

و أكثر ما نستفيد بالآية أنّ المعارضة لا تقع، و أنّها متعذّرة على كلّ حال؛ فأمّا من أيّ وجه لم تقع، و هل تعذّرت لمنع عن الكلام، أم لفقد علوم، أو قدر؟ فممّا لا تدلّ عليه الآية.

و قوله: «إنّ المعاونة إنّما تمكن مع القدرة، و لا تصحّ مع المنع».

صحيح، لكن لخصمه أن يقول: إنّ اللّه تعالى لم يرد أنّ المعارضة لا تقع منهم و إن تظاهروا و تعاونوا على فعلها، و إنّما نفى وقوعها- و إن تظاهروا و تعاونوا- بما يقدرون عليه من الأفعال في طلبها، و الاحتيال لتمامها؛ فالتّظاهر لم يعن به إلّا ما هو مقدور ممكن.

______________________________

(1) في الأصل: و يقدم، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص:

258

و نحن نعلم أنّ القائل إذا قال: «لو تظاهر الخلق بأجمعهم أو تعاونوا على فعل جوهر أو سواد لما وقع منهم» يكون كلامه صحيحا مفيدا لتعذّر وقوع ذلك على أبلغ الوجوه، و يجرى مجرى أن يقول في عشرة: إنّهم لو تظاهروا و تعاونوا على حمل جبل لما أمكنهم، و إن كان حمل الجبل مقدورا لهم، و ممكنا على جهة التّفريق «1».

و الأوّل غير ممكن و لا مقدور على وجه من الوجوه، و إنّما حسن القول الأوّل- مع استعمال لفظ التعاون فيه- للوجه الّذي ذكرناه.

على أنّا قد بيّنا أنّ اللّه تعالى إنّما منعهم عن المعارضة بأن أعدمهم في الحال العلوم بالفصاحة، فلن تخرج المعارضة من أن تكون مقدورة- و إن كانت متعذّرة- لفقد العلوم، فيجب أن يصحّ استعمال لفظ «التّظاهر» غير مطابق لمذهبنا في تعذّر المعارضة، للزم صاحب الكتاب و جميع أهل مذهبه مثل ذلك؛ لأنّه يقول فيما من أجله لم تقع المعارضة مثل قولنا بعينه، و ينسب تعذّرها إلى فقد العلوم بالفصاحة، كما ننسبه «2»، و إن كان الفرق بيننا و بينه أنّا نقول: إنّ القوم أفقدوا العلوم في الحال، و هو يقول: إنّهم كانوا فاقدين لها في جميع الأحوال، مستقبلها و مستدبرها؛ لأنّ العادة لم تجر بحصول كلّ تلك العلوم لهم.

فإن قال: إنّي لم أوجّه كلامي في الفصل نحو مذهبكم، و إنّما خصصت به من قال: إنّ القوم منعوا عن الكلام جملة.

قيل له: قد علمنا ما قصدته، و كلامنا الأوّل متناول لغرضك بعينه، و كلامنا الثّاني إنّما أوردناه استظهارا و بيانا.

ثمّ قال صاحب الكتاب، بعد أن ذكر أنّ دواعي العرب إنّما انصرفت عن

______________________________

(1) في الأصل: الفريق، و الظاهر ما أثبتناه.

(2) في الأصل: ينسبه،

و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 259

المعارضة، لعلمهم بأنّها غير ممكنة، من حيث باينت فصاحة القرآن جميع فصاحاتهم، لا للصّرف الّذي يدّعيه من يقول: إنّ المعارضة كانت ممكنة، و إنّها لم تقع لأنّ دواعيهم صرفت «1»:

فإن قال «2»: و من أين أنّ الحال على ما ذكرتم؟

قيل له «3»: لأمور:

منها: ما نقل عنهم من اعترافهم بمزية القرآن عند المذاكرات، على ما قدّمنا ذكره.

و منها: أنّ آية التّحدّي تدلّ على تعذّر مثله «4»: وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.

و منها: أنّ هذا القول يوجب أنّ القرآن ليس بمعجز (في الحقيقة، و أنّ صرف هممهم عمّا جرت عادتهم بمثله هو المعجز) «5»، و يوجب أن يدلّ القرآن، لو كان كلاما متوسّطا في الفصاحة، حتّى يكون حاله في الإعجاز، و هو كذلك (مثل حاله) «6» الآن، لأنّ المعتبر صرف هممهم و دواعيهم، فالرّكيك «7» في ذلك و الفصيح بمنزلة.

و منها: أنّ الذي ذكروه يقتضي خروجهم عن العقل ...

ثمّ بيّن أنّ دواعيهم لا يجوز أن تنصرف مع كمال عقولهم.

الكلام عليه

يقال له: و هذا الفصل أيضا- و إن كانت وجهته إلى غير مذهبنا- فنحن نتكلّم

______________________________

(1) راجع تفصيل كلام القاضي عبد الجبّار و أجوبته و نقوضه، في المغني 16/ 324.

(2) المغني 16/ 325.

(3) في الأصل: قال لهم.

(4) في المغني: مثله عليهم.

(5) زيادة في الأصل، ليست في المغني.

(6) في المغني: كحاله.

(7) في الأصل: و الركيك.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 260

عليه؛ لإمكان التعلّق به علينا.

فنقول: و ما في الاعتراف بمزيّة القرآن في الفصاحة ممّا يدلّ على أنّ جهة إعجازه هي الفصاحة، و أنّه خارق بها عادات العرب؟! و ما المنكر أن يكون عالي الطّبقة في

الفصاحة، فيشهد له بالمزيّة فيها، و إن كان امتناع معارضته إنّما هو الصّرف؟! و قد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا أنّ الاعتراف بمزيّته «1» في الفصاحة إنّما يكون رادّا على من نفى فصاحته. فأمّا من اعترف بأنّه أفصح الكلام و أبلغه و لم يجعله خارقا للعادة من حيث الفصاحة، فإنّه لا يلزمه شي ء من ذلك.

على أنّا قد تكلّمنا على الألفاظ الّتي يستدلّ بها على اعتراف القوم بفضل فصاحته، و ذكرنا ما يمكن أن يقال فيها.

و أمّا التعلّق بلفظ «التّظاهر»، فقد مضى الكلام عليه و على التّعلّق بإخراج القرآن من أن يكون معجزا، و بيّنا أنّ دلالته من الوجه الّذي ذكرناه، و إن لم يختلف بأن يكون كلاما متوسّطا في الفصاحة أو ركيكا، بل ربّما تأكّدت، فغير منكر أن تكون المصلحة للمكلّفين تابعة لإنزاله على هذا الوجه من الفصاحة.

و ذكرنا من لزوم مثل ذلك لمن خالفنا، و أنّه لا بدّ من أن يفتقر فيه إلى مثل جوابنا، ما لا حاجة بنا إلى إعادته «2». فأمّا ردّه على من ذهب إلى صرف الدّواعي بما ذكره فصحيح «3» لازم، و قد بيّنا في صدر هذا الكتاب على الكلام «4» بيانا شافيا.

______________________________

(1) في الأصل: لمزيّته، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: حادثة، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: و صحيح، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(4) كذا في الأصل، و الظاهر: الكلام عليه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 261

ثمّ قال صاحب الكتاب «1»:

«فإن قالوا «2»: لو لا أنّ الّذي لأجله عدلوا عن المعارضة الصّرف الّذي ذكرناه، كان لا يجب أن يجري أمرهم على حدّ واحد، مع أنّ فيهم المتقدّم الّذي يعلم باضطرار تعذّر المعارضة عليه، و فيهم من لا يعلمها

كذلك.

قيل لهم «3»: قد بيّنا أنّ فيهم من جاء بمعارضة ركيكة، و من لم يأت بها فلأنّه علم من حالها ما وصفناه، أو كان في حكم العارف، أو تابعا للعارف؛ فلذلك اتّفقوا على العدول عن المعارضة.

و هذا بيّن من حال الجمع العظيم؛ لأنّهم ينظرون إلى المتقدّم منهم في الرّتبة، و يقع من جهتهم التأسّي؛ فلمّا رأى أتباعهم الأكابر قد ضاق ذرعهم بالقرآن، و عدلوا عن المعارضة إلى الأمور الشاقّة، تبعوهم في هذه الطّريقة؛ لعلمهم بأنّهم عن ذلك أشدّ عجزا؛ فلذلك استمرّت أحوالهم على هذا الوجه، لا الصّرفة «4» الّتي ظنّها «5» السائل.

و لو لا أنّهم علموا أنّ القرآن في أعلى رتبة من الفصاحة الجامعة لشرف اللّفظ و حسن المعنى حتّى بهرهم ذلك، لقد كان يجوز أن يختلفوا في سائر «6» المعارضة، فيكون فيهم من يكفّ، و فيهم من يحاول، و فيهم من يأتي بما يزداد علمهم بعظم شأن القرآن عنده «7» تأكيدا.

لكن الأمر في القرآن لمّا كان على ما ذكرناه، عدلوا عن المعارضة؛ لظهور حاله.

و لو لا صحّة ذلك من هذا الوجه، لقد كان القول بالصّرفة يقوى من حيث لم تجر العادة مع التّنافس «8» الشّديد، و تباين الهمم، و امتداد الأوقات، بأن «9» يقع

______________________________

(1) المغني 16/ 327- 328.

(2) في المغني: قال.

(3) في المغني: له.

(4) في الأصل: للصّرف.

(5) في الأصل: طلبها.

(6) في الأصل: شأن.

(7) في الأصل: عندهم.

(8) في الأصل: التناقض.

(9) في المغني: أن.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 262

الكفّ عن الأمر المطلوب الّذي قويت الدّواعي إلى فعله؛ فكان يصحّ أن يتعلّق بالصّرفة، و يراد بها انصرافهم عن المعارضة، و إن كانت غير مؤثّرة، دون المعارضة المؤثّرة، و لأنّ هذه المعارضة يعلم أنّها لا

تحصل بما قدّمناه من الأدلّة. لكن ذلك يبعد؛ لأنّه متى جوّز «1» في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصّرفة، لم نأمن «2» أن تكون المعارضة الصّحيحة أيضا «3» ممكنة، و إنّما عدلوا عنها للصّرفة التي ذكرناها السّائل. و هذا بيّن فيما أوردناه».

الكلام عليه

يقال له: قد بيّنا في الدليل الثّاني- الّذي اعتمدناه في صحّة القول بالصّرفة- ما إذا تؤمّل كان مبطلا لما تعلّقت به في هذا الفصل؛ لأنّا ذكرنا أنّ العرب لو لم يصرفوا عن المعارضة على كلّ وجه يقع معه ضرب من الاشتباه و الالتباس- سواء كانت المعارضة مماثلة على الحقيقة أو مقاربة- لوجب أن يعارضوا بما يدّعون أنّه مماثل، و إن لم يكن على التّحقيق كذلك، و أنّهم كانوا بفعلهم هذا قد أوقعوا الشّبهة لكلّ من لم يكن في غاية الفصاحة، ثمّ لا يفرّق بين ما أتوا به و بين القرآن.

و نحن نعلم أنّ الخلق أجمعين- إلّا النفر اليسير منهم- لا يفرّقون بين ذلك، و إنّما يرجعون فيه إلى غيرهم. و إذا كان ذلك الغير الّذي يرجع إليه يدّعي المساواة و المماثلة استحكمت الشّبهة و انسدّ الطّريق إلى العلم بالإعجاز! و بيّنا أنّهم قد استعملوا من ضروب المكائد و صنوف الحيل ما كان هذا الّذي ذكرناه أوقع منه و أنفع فيما قصدوه؛ لأنّهم لجأوا إلى أفعال كثيرة لا يدخل على عاقل شبهة في خروجها عن باب الحجّة. و أنّ الضّرورة حملت عليها، و القصور

______________________________

(1) في الأصل: يجوز، و ما أثبتناه من المغني.

(2) في المغني: يأمن.

(3) ليست في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 263

دعا إلى فعلها؛ فكيف ذهبوا عن هذا الأمر الغريب الّذي يدخل الشّبهة على أكثر الخلق، و يشعرهم براءة

عهدتهم، و علوّ كلمتهم؟! و ليس تتوجّه هذه الطّريقة من حيث ظنّ صاحب الكتاب؛ لأنّه بنى السّؤال على أنّ المعارضة كان يجب وقوعها، فمن لم يعلم من جملة القوم تعذّر المعارضة، و أنّه لا يمتنع أن يختلف حالهم فيكون فيهم من يعلم تعذّرها فلا يعارض، و فيهم من لا يعلم ذلك فيشتبه عليه الأمر فيعارض.

بل الطّريق الّذي سلكناه في لزوم الكلام أولى؛ لأنّا بيّنا أنّ القوم مع العلم بتعذّر المعارضة المطلوبة عليهم كان يجب أن يعارضوا بما يقدرون عليه، و يدعوا المساواة؛ و إن كان غير بعيد لزوم الكلام من الوجه الّذي سأل نفسه عنه.

و ليس قوله في جواز ذلك: «إنّ من لم يكن عارفا بتعذّر المعارضة كان تابعا للعارف» بشي ء يعتمد؛ لأنّا لم نجد من أتى بالمعارضة الرّكيكة اتّبع في الإمساك عنها من عدل عن المعارضة من العارفين المتقدّمين، بل تعاطاها و إن كان «1» هؤلاء لم يتعاطوها! فألّا وقع من بعض من يشتبه عليه الأمر في إمكان المعارضة و تعذّرها ما يظنّ أنّه بصفة المعارضة المطلوبة؟! و كيف لم يخالف من عارض الطّبقة الّتي لم تعارض من المبرّزين المتقدّمين إلّا بإيراد معارضة، لا شبهة على عاقل فضلا عن فصيح، في أنّها غير واقعة موقعها، و أنّها من أبعد الكلام عن الفصاحة و الجزالة؟! و نحن نعلم أنّ بعض القوم لو أتى بكلام له حظّ من الفصاحة و رتبة من البلاغة و ادّعى به المعارضة لكانت الشّبهة قويّة و الارتياب مستحكما، فكيف خالفوا أكابرهم و متقدّميهم فيما لا يقع لهم [حيلة] «2» فيه، و لا شبهة تدخل على عاقل

______________________________

(1) في الأصل: كانوا، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) وضعناها لاقتضاء السياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن،

النص، ص: 264

بمثله، و لم يخالفوهم فيما ذكرناه؟! و فيه من ارتفاع الشّبهة و نفوذ الكيد ما أشرنا إليه؟! و قد بيّنا فيما مضى من الكتاب- عند الاعتماد على هذه الطريقة- أنّه غير ممكن أن يكون ترك القوم لهذا الضّرب من المعارضة إنّما هو للخوف من تكذيب الفصحاء لهم، و تهجينهم لفعلهم، و شهادتهم عليهم بالمكابرة.

فإن قلنا: إن كان الخوف من تكذيب من في جملة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الفصحاء، فهو غير مانع ممّا ذكرناه من وقوع الشّبهة و تمام الحيلة؛ لأنّ أكثر ما في هذا الأمر أن يشهد من في جملة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ تلك المعارضة غير صحيحة و لا مؤثّرة، و يشهد من بإزائهم من الفصحاء- و هم أكثر منهم- بضدّ ذلك؛ فتتقابل الأقوال و تتكافأ، لا سيّما عند من لم تكن الفصاحة صنعته، و لا بلغ فيها الرّتبة التي يفرّق معها بين ضروب الكلام الفصيح و بين كلّ ضرب منه [دون] «1» منزلته. و هذا نهاية سؤل العرب، و غاية أملهم.

و إن كان الخوف ممّن لم يكن في صحبة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا على دينه فلا خوف من هؤلاء؛ لأنّهم أحذق «2» و أمكن (من أن يردّوا) «3» ما يوافق إرادتهم، و يضعف أمر عدوّهم! و ذكرنا أيضا: أنّ ما اقتضى إمساكهم عمّن عارض بأخبار الفرس، مع علمهم بعد ما أتى به عن المعارضة، و عدولهم عن تكذيب من قال: لو نشاء لقلنا مثل هذا، مع قطعهم على كذبه و بهته، يقتضي الإمساك عمّن يعارض بكلام له حظّ من الفصاحة، و يدّعي المماثلة. بل الإمساك عن هذا أولى؛ لما تقدّم

ذكره.

فأمّا قوله: «و لو لا صحّة هذا الوجه لكان التعلّق بالصّرفة يقوى من وجه كذا،

______________________________

(1) وضعناها لاقتضاء السياق.

(2) في الأصل: أحنق، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: من برووا، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 265

و يراد بها انصرافهم عن المعارضة الّتي ليست مؤثّرة، دون المؤثّرة؛ لأنّ هذه المعارضة يعلم بما تقدّم من الأدلّة أنّها لا تحصل». ثمّ قوله بعد: «لكن ذلك يبعد؛ لأنّه متى جوّز في أحد المعارضتين الصّرفة، لم نأمن في الأخرى مثله» «1»؛ فمن الكلام الطّريف الظّاهر التّناقض؛ لأنّه فرّق أوّلا بين المعارضتين- المؤثّرة و غير المؤثّرة- في صحّة التعلّق بالّتي ليست بمؤثّرة، لو لا ما خرّجه من الوجه الّذي ذكره، ثمّ سوّى بينهما من غير وجه يقتضي التّسوية، و جعل تجويز الصّرفة عن إحداهما تجويزا في الأخرى.

فكيف يصحّ ما ذكره من الطّرق و ضروب الاستدلالات الّتي تتناول- إذا صحّت- المعارضة الّتي ليست بمؤثّرة، و لا يمكن أن يعلم بها امتناع وقوعها، فكان المتعلّق بالصّرفة من هذا الوجه يقول له: الّذي يؤمن وقوع الصّرفة عن المعارضة المطلوبة قدّمته، و ادّعيت أنّه أدلّة على امتناعها، و ليس ذلك بمؤمن حصول الصّرفة عن المعارضة الأخرى. فعلى أيّ وجه سوّيت بينهما، سيّما مع اعتقادك أنّ المؤثّرة على الحقيقة غير ممكنة و لا متأتّية، و على ذلك بنيت ما استدللت به على تعذّرها، و الّتي ليست بمؤثّرة! و لا يمكنك أن تقول: إنّها غير متأتّية و لا ممكنة، و أكثر ما تدّعيه أنّها لا تقع لشي ء تذكره، لا يقتضي خروجها من الإمكان، فقد صحّ بما ذكرناه اضطراب كلامه في الفصل، و هذا آخر ما احتجنا إلى تتبّعه من كلامه.

مسألة تتعلّق بالصّرفة

إن سأل

سائل فقال: كيف يصحّ مذهبكم في الصّرفة، و معلوم أنّ القوم الّذين

______________________________

(1) في المغني 16/ 328: «لكن ذلك يبعد؛ لأنّه متى جوّز في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصّرفة، لم يأمن أن تكون المعارضة الصحيحة أيضا ممكنة».

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 266

تدّعون أنّهم كانوا متى همّوا بالمعارضة و راموا فعلها، صرفوا عنها و أفقدوا العلوم الّتي تتأتّى معها، لا بدّ من أن يكونوا عارفين بذلك من أحوال أنفسهم، و مميّزين بين أوقات المنع و التّخلية.

و إذا كانت معرفتهم به واجبة، و كان أمرا خارقا لعادتهم مباينا لسنّتهم و مذاهبهم، فلا بدّ من أن يتذاكروه و يتفاوضوه، و يخوضوا فيه، و يعجبوا منه؛ لأنّ النفوس مولعة بذكر العجائب، ملهية بنشر الغرائب، بهذا قضت العادات، و عليه دلّت التّجارب، و هو أصل في باب الأخبار و معرفة الحوادث كثير، متى نقضه ناقض لزمه من الجهالات ما لا قبل له به.

و إذا كان الخوض فيما ذكرناه لا بدّ أن يقع بمجرى العادة فلا بدّ أن يكون ظاهرا فاشيا؛ لأنّ ظهور الشّي ء و بروزه، إنّما يكونان بحسب موقعه من النّفوس، و بقدر الاهتمام به؛ و الاهتمام به يكون بقدر استغرابه و استطرافه. فإذا انضاف إلى الاستغراب و الاستطراف ما يرجع إلى المنافع و دفع المضارّ، قويت دواعي الإعلان و تأكّدت.

و إذا كان الظّهور واجبا فواجب حصول العلم به و زوال الرّيب فيه، كما حصل العلم بجميع ما جرى مجراه من أحوال القوم و أفعالهم الظّاهرة.

و كيف لا يكون ذلك معلوما لنا، إذا فرضنا ظهوره من القوم و وقوع الخوض منهم فيه، و عناية سلفنا بنقل ما جرى مجراه من آيات النّبيّ صلّى اللّه عليه و

آله و براهينه و معجزاته، أتمّ عناية و أوفرها.

و لا شي ء أظهر و أكبر في باب الدّلالة و الآيات من اعتراف العرب بما يجدون أنفسهم عليه من المنع عن المعارضة. و في ارتفاع العلم دلالة على أنّه لم يقع هناك خوض فيه و تحدّث به، و إذا لم يجر شي ء من ذلك فلا صرفة.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 267

الجواب:

يقال له: أمّا ما قدّمته من وجوب معرفة العرب- بما هم عليه- من تعذّر المعارضة عليهم، على سبيل الجملة، فصحيح، و كذلك ما أتبعته به من علمهم بخروج ذلك عن عهدهم و عادتهم.

فأمّا ما أوجبته من بعد من التحدث بذلك و التذاكر به ثمّ إظهاره و إعلانه، فغير واجب، بل الواجب خلافه؛ لأنّا نعلم أنّ القوم قد بلغوا الغاية في عداوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حسده، و تطلّب ما شكّك فيه و نفّر عنه، و العدول عن كلّ ما آنس به و قرّب منه. و هم يعلمون أنّ التذاكر بما يجدون أنفسهم عليه من تعذّر معارضته أقوى الأسباب في تصديقه و وجوب اتّباعه؛ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما ادّعى الإبانة منهم و المزيّة عليهم بهذا القدر الّذي يوجب أن يعترفوا به و يتذاكروه، فكيف يصحّ أن يقع منهم ما ظننته، و حالهم هذه؟! فكأنّك أيّها الملوم تقول: يجب أن تقع نهاية التّصديق ممّن دواعيه متوافرة، و حيلته كلّها مصروفة إلى نهاية التّكذيب! على أنّه لو وقع من بعضهم ممّن لا يعرف عاقبة قوله، و لا يتثبّت في أفعاله، أو ممّن يطلب «1» السّلامة لقوي في نفسه انكتام خبره [و متى صدر] ذكر لهذا المعنى، و حرص فيه لم

يجب أن يكون ظاهرا شائعا، بل لا عاقل من القوم يذكر مثل هذا عن نفسه، إلّا لمن هو عنده أوّلا على نهاية الثّقة و الأمانة، ثمّ لا يذكره إلّا على آكد وجوه الاستسرار و الخفاء، فمن أين يجب ظهوره و العلم به و هو إذا وقع كانت هذه حاله؟! و إنّما يجب العلم بالأمور الّتي تقع في الأصل ظاهرة و شائعة، ثمّ تتوفّر

______________________________

(1) في الأصل: يغلب، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 268

الدّواعي إلى نقلها، و يحكم فيما جرى هذا المجرى بأنّه لم يكن، متى لم ينقل و يعلم فإمّا ما لا يجب ظهوره و استفاضته و يجوز وقوعه إن وقع مستسرّا به، فليس يجب متى فقدنا نقله أو العلم به أن نحكم بنفيه. و لهذه العلّة ما علمنا أحوال الملوك الظّاهرة و الحوادث في أيّامهم المستفيضة، و لم نعلم جميع أسرارهم، و ما كتموه من أخبارهم، و ألقوه إلى الواحد و الاثنين من ثقاتهم. و القول فيما ذكرناه أوضح من أن يحتاج إلى شرط.

و ليس لأحد أن يقول: هبكم لا توجبون التّذاكر بذلك من جهة الاستطراف و الاستغراب، أ لا وجب أن يذكره بعضهم لبعض؛ ليعرف كلّ واحد منهم هل حال غيره في الامتناع و التعذّر كحاله أم لا؟

و ذلك أنّ التحدّث به لو وجب من هذه الجهة، لم يكن إلّا على الوجه الذي بيّناه من الخفاء و الكتمان؛ لأنّ ما دعا من المسألة عنه لا يدعو إلى إظهارها، بل دواعي سترها قائمة من حيث ذكرنا، فلا منفعة للسّائل فيما ذكره إذا التزمناه، و كان ممّا لو وقع لم يظهر، و لم يجب أن يعلم. على أنّ ما أوجبه

من هذه الجهة لا يجب أيضا؛ لأنّ سؤال بعضهم بعضا إنّما يحسن متى استفيد به ما ليس بمعلوم. فأمّا إذا كان لا يفيد إلّا ما يعلمه السّائل فلا طائل في تكلّفه.

فكلّ واحد من العرب يعلم- من حال غيره من المنحرفين عن دعوة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، المظاهرين له بالعداوة- ما يقتضي «1» أنّ المعارضة متى أمكنته فعلها و بادر إليها، و أنّه لم يمسك عنها و دواعيه متوفّرة إليها إلّا و حاله في التّعذّر مساوية لحاله، فأيّ فائدة في سؤاله و تعرّف ما عنده؟!

______________________________

(1) في الأصل: و ما يقتضي.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 269

مسألة أخرى

إن قال قائل- معترضا على ما اعتمدناه في دليلنا على صحّة الصّرفة، حيث قلنا: إنّ القرآن لو كان خارقا للعادة بفصاحته لوجب أن يقع الفرق بين كلّ سورة منه و بين أفصح كلام العرب، لكلّ من وقع له الفرق بين أعلى كلامهم في الفصاحة و أدونه، و يكون الفرق بين القرآن و بين سائر الكلام، إذا كان خارقا للعادة، من المزيّة و الفرق أكثر ممّا بين كلّ كلامين جرت بهما العادة- لم أنكرتم أن يكون ما أوجبتموه غير واجب؟ لأنّ الفرق بين أفصح كلام العرب و أدونه و بين شعر امرئ القيس- من هو في أعلى الطّبقات- و شعر المقصّر من المحدثين، إنّما ظهر على الحدّ الّذي ذكرتموه من حيث جمع بين ما لا فصاحة له- و إن كانت فيسيرة ضعيفة- إلى ما كثرت فصاحته و تناهت بلاغته، فوقع الفرق على أقوى وجه الظّهور.

و ليس هذا سبيل للقرآن و ما يضمّ إليه من أفصح كلام العرب؛ لأنّ القرآن و إن بان من جميع ذلك و تقدّم

في الفصاحة عليه بما يجاوز «1» العادة و يخرقها، فإنّ الفرق لا يجب ظهوره في الأوّل؛ لأنّ ما يصحّ [نسبته] إلى القرآن قد استبدّ برتبة في الفصاحة قويّة و منزلة فيها رفيعة، تقتضيان هذا اللّبس و الاشتباه. أ لا ترون أنّ أكثر النّاس يفرّقون بين ثوب القصب الّذي يساوي دينارا، و بين ما يساوي عشرة دنانير، و لا يفرّق بين الفصّ الزّجاج الّذي قيمته درهم و بين الفصّ الياقوت الّذي قيمته دينار إذا زالت عنهما وجوه التمويهات و التدليسات.

و ليس يفرّق هؤلاء بين كلّ ثوبين و كلّ فصّين كانت بينهما هذه القيمة، بل و لا

______________________________

(1) في الأصل: يجاوزه، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 270

أضعافها؛ لأنّه قد يلتبس عليهم الفرق بين فصّ بعشرة دنانير و الآخر بألف دينار، و كذلك في الثّياب، حتّى يفتقر في العلم بما هذه حاله إلى ذوي الحذق و البصيرة.

و هذا يبيّن أنّ اللّبس لم يقع مع التفاوت و التباعد إلّا من الوجه الّذي ذكرنا، و أنّه لا يجب أن يظهر الفرق بين سائر الأشياء على نسبة واحدة، و فيه بطلان ما اعتمدتموه.

الجواب:

يقال له: هذا الّذي ظننته عكس العقول، و قلب موجباتها؛ لأنّ من المعلوم أنّ ظهور الفرق بين الشّيئين تابع لمزيّة أحدهما على صاحبه، و كلّما كانت المزيّة أكثر كان الفرق أظهر، لو لا هذا لجاز أن يفرّق بين الكبير و الصّغير من الأجسام من لا يفرّق بينهما، إذا كان الكبير أكبر ممّا هو عليه، و الصّغير أصغر ممّا هو عليه، على ما كنّا ذكرناه فيما تقدّم من بعض الكتاب.

و الّذي ذكرته في الثّياب و الفصوص غير مماثل- إذا صحّ- لما نحن فيه؛

لأنّه غير منكر أن يفرّق بين الفصّين من لا يفرّق بين غيرهما، و إن كانت القيمة في اللّذين لم يفرق بينهما أكثر تفاوتا منها في اللّذين فرّق بينهما، و إنّما جاز ذلك من حيث لم تكن زيادة القيمة في الجواهر تابعة لوجه واحد دون غيره، حتّى تزيد بزيادته، و تنقص بنقصانه، بل هي تابعة لوجوه كثيرة.

و لو كان الوجه الّذي فرّق بين الفصّين بعينه هو الّذي زاد و تضاعف في غيرهما لاستحال ألّا يظهر لمن ظهر له ما نقص عنه.

يبيّن ما ذكرناه أنّ من فرّق بين الفصّ الياقوت و غيره، للونه أو لمائه مثلا، لم يجز أن يتضاعف ما من أجله فرّق، و الفرق غير حاصل، و إن جاز أن تتزايد

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 271

و تتضاعف وجوه أخر تكثر لها القيمة و إن لم يظهر الفرق.

و ليس يمكن أن يقال: فقولوا مثل هذا في القرآن، و أجيزوا أن يكون خفاء القرآن بينه و بين ما ذكرتموه إنّما هو لاستبداده بوجوه من الفصاحة ليست فيما ظهر لنا الفرق بينه و بين غيره؛ و ذلك أنّ الكلام إنّما يكون أفصح من غيره على أحد وجهين:

إمّا بأن يزيد عدد ما فيه من الألفاظ الفصيحة؛ أو بأن يكون نفس ألفاظه أفصح و أجزل من ألفاظ غيره.

فمتى وقع الفرق بين كلامين، أحدهما أفصح من الآخر فلا بدّ متى ضممنا إلى الأنقص فصاحة ما هو أفصح من الأوّل، يظهر لنا فصاحته. و كذلك متى ضممنا ما هو أفصح من الجميع، و على هذه النسبة أبدا.

و متى اعتبرت هذه الطّريقة في النثر و النّظم و كلّ فصيح من الكلام، فوجدتها مستمرّة غير منتقضة، فليس يمكن الإشارة في الفصاحة

إلى وجوه مختلفة يجوز أن يظهر بعضها لمن يميّز بين الفصاحة و يخفى عنه البعض، مع زيادته و تفاوته، كما جاز مثله في القيمة؛ لأنّ ذلك لو كان صحيحا لوجب أن لا يقع الفرق بين أظهر سور القرآن فصاحة، و بين أنقص كلام العرب فصاحة، كما لم يقع الفرق بين مواضع منه، و بين أفصح كلام العرب؛ لأنّ العلّة في ارتفاع الفرق واحدة، و هي ما ادّعى من مخالفة الطّريقة. أ لا ترى أنّ من لم يظهر له الفرق بين الكتابة السّريانيّة العربيّة «1»- من حيث لم يكن عارفا بطريقة السّريانيّة- لم تختلف حاله في ارتفاع الفرق بين أن يجمع بين السّريانيّة إلى أردا خطوط العربيّة، و بين أن يجمع إلى

______________________________

(1) في الأصل: العبريّة، و ما أثبتناه مناسيب لما يأتي من الكلام.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 272

أحسنها! و نحن عالمون في القرآن ضرورة خلاف ذلك.

و بعد، فلو كان ما تضمّنه السّؤال صحيحا لكنّا لا نأمن أن يكون بين شعر امرئ القيس، و شعر من قاربه و كان في طبقته، مثل النّابغة و الأعشى و من جرى مجراهما، من التعاقب في الفصاحة أكثر ممّا بين شعره و شعر أحد المحدثين، و تكون العلّة في خفاء الفرق علينا- مع ظهور الفرق بين شعره و أشعار المحدثين- ما ذكره السّائل و جعله علّة في ارتفاع العلم بالقرآن و غيره.

و ليس يؤمن ما ذكرناه إلّا الطّريقة التي سلكناها من أنّ الأمر لو كان على هذا لوجب أن يظهر الفرق بين شعر امرئ القيس و النّابغة، إذا فرضنا التّفاوت بينهما في الفصاحة، لكلّ من ظهر له [ما] بينه و بين شعر المحدث.

و ليس لأحد أن يقول: قد

كان الشكّ في ذلك جائزا، لو علمنا بخلافه من مذاهب أهل البصيرة بالشّعر و نقده، الّذين لا يجوز عليهم أن يخفى ما يخفى علينا في هذا الباب؛ لأنّهم مطبقون على تقارب هذين الرّجلين في الشّعر، و أنّه لا تفاوت بين فصاحتهما.

و ذلك أنّه يلزمه على هذا أن نكون- لو لا ما علمناه من حال هؤلاء و مذاهبهم في هذين الشّاعرين- مجوّزين بخلافه، و شاكّين في أنّ بين شعر امرئ القيس و النّابغة من الفصاحة أكثر ممّا بين شعره و شعر المتنبّي، مع ظهور الفرق بين شعره و شعر المتنبّي لنا، و اشتباه الأمر في شعره و شعر النّابغة علينا، و هذا حدّ لا يبلغه متأمّل لأمره.

على أنّ هاهنا وجها يزيل كلّ شبهة في هذا الباب، و هو: أنّ خفاء الفرق بين القرآن و أفصح كلام العرب علينا، لو كان سببه ما ادّعي من وفور حظّ ما يضمّه إليه

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 273

من الفصاحة و البلاغة، و أنّ ذلك هو النّقيض للاشتباه «1»- و إن كان التفاوت في الفصاحة حاصلا- لوجب أن لا تظهر لنا فصاحة بعض القرآن على بعض؛ لأنّ بعضه أقرب إلى بعض في الفصاحة من كلّ كلام يضمّ إليه.

و ما لا تظهر فصاحته من جملة ظهورها في غيره أوفر حظّا في الفصاحة على كلّ حال من جميع الكلام، حتّى أنّه ينتهي عند خصومنا فرط فصاحته إلى خرق العادة. فصارت العلّة الّتي ذكروها في تعذّر الفرق بين مواضع من القرآن و فصيح كلام العرب، تقتضي على آكد الوجوه ارتفاع الفرق بين بعضه و بعض.

و إذا علمنا ضرورة ظهور بعض فصاحته على بعض بطل ما ظنّه خصومنا، و صحّ مذهبنا.

و هذا

الوجه يسقط أيضا قول من جعل العلّة في خفاء الفرق استبداد القرآن بطريقة في الفصاحة مخالفة لسائر الطّرق.

*** و إذا انتهينا إلى هذا الموضع من الكتاب فقد كان الواجب قطعه عليه، لاستيفائنا الكلام في جميع ما شرطناه و أجرينا بكتابنا إليه، لكنّا آثرنا الآن أن نضمّ إليه فصولا في الدّلالة على وقوع التحدّي بالقرآن، و أنّه لم يعارض، و أنّ معارضته لم تقع لتعذّرها، و أنّ تعذّرها كان على وجه يخالف العادة، ليكون ما أسّسناه في صدر الكتاب من هذه الأمور- تعويلا على ارتفاع الخلاف بيننا و بين من خالف في الصّرفة- مدلولا عليه و مبرهنا على صحّته، و ليكون كتابنا هذا حجّة على مخالفي الملّة، كما أنّه حجّة على الموافق فيها، و حتّى لا يفتقر النّاظر فيه و المعوّل عليه في

______________________________

(1) كذا في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 274

دلالة القرآن على النّبوّة إلى غيره، و لا يحتاج أن يرجع إلى سواه.

و هذه الفصول، و إن وردت في الكتاب متأخّرة- لأنّ الغرض في ابتدائه لم يقتض إيرادها- فموقعها على الحقيقة متقدّم، و ليس للتقديم و التأخير تأثير في هذا الباب، إذا كان ما يحتاج إليه من المعاني بالحجج موجودا مستوفى، و مذكورا و مستقصى.

و نحن نستأنف القول فيها، مستعينين باللّه تعالى، و معتمدين على توفيقه و تسديده.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 275

فصل في الدّلالة على وقوع التّحدّي بالقرآن

اشارة

المعتمد في تحدّيه صلّى اللّه عليه و آله بالقرآن حصول العلم لكلّ عاقل سمع الأخبار و خالط أهلها بذلك، على حدّ حصوله بظهوره عليه و آله السّلام بمكّة، و ادّعائه النّبوّة و دعائه النّاس إلى نفسه، إلى أمثال ما ذكرناه من أحواله الظّاهرة المعلومة.

و لا فرق بين

من أنكر بعضها و أظهر الشّكّ فيه و بين من أنكر جميعها؛ لأنّ طريق العلم بالكلّ للعقلاء متّفق غير مختلف.

و الواجب أن نعلم مرادنا بذكر التّحدّي الّذي ندّعي وقوع العلم به على هذا الوجه و لكلّ أحد؛ فإنّ كثيرا ممّن نفى العلم به و أظهر الشكّ فيه يقدّر أنّا نريد بالتحدّي [معنى] مخصوصا، و لفظا يتضمّن التبكيت و التعجيز و المطالبة بفعل مثل القرآن مسموعا.

و ليس مرادنا ذلك، و الّذي نريده و نحيل على العقلاء في العلم به و ارتفاع الشّكّ فيه، ما هو معلوم من قصده و الظّاهر من حاله أنّه عليه و آله السّلام كان يحتجّ بالقرآن و يدّعي من جهته الإبانة و المزيّة، و أنّ اللّه تعالى خصّه به و أيّده بإنزاله، و ينتظر نزول الوحي به، و هبوط جبرئيل عليه السّلام بالشي ء منه بعد الشي ء.

و هذا ممّا لا يمكن أحدا دفعه، و من دفعه قام مقام الدافع لسائر ما عددنا.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 276

و ليس ينكر وقوع التجاهل و دفع الضّرورات من الواحد و الاثنين، و لا اعتبار بمثل ذلك فيما يعمّ العلم به و تزول الشّكوك فيه.

وهب أنّ قوما شكّوا في بعض ما ذكرناه- و إن كان لا طريق للشّكّ عليه- و نحن نعلم أنّ أحدا لا يشكّ في أنّه عليه السّلام كان ينتظر نزول الوحي بالقرآن، و يدّعي أنّ جبرئيل عليه السّلام يتولّى إنزاله عليه و مخاطبته به، و أنّه كان يجعل ذلك مزيّة له و إبانة.

و هذا غاية التّحدّي و نهاية ما يبعث على المساواة و المعارضة؛ لأنّه عليه و آله السّلام إذا ادّعى النبوّة و ألزم البشر الانقياد له و مفارقة ما هم

عليه من دين و عادة و رئاسة، و لم يظهر منه شي ء يمكن أن يدّعي به الإبانة إلّا انتظاره للوحي بالقرآن. و الدّواعي إذا متوافرة إلى مساواته في الأمر الّذي متى سوّي فيه لم يكن له مزيّة و لا في يده حجّة و لا شبهة، فكان يجب أن يظهر كلّ واحد منهم- من العرب- مثل ما أظهره و يدّعي مثل ما ادّعاه، و يفعل كلاما بعد كلام يظهر أنّ جبرئيل عليه السّلام- أو غيره من الملائكة- أنزله إليه، و يتعمّد لانتظاره و وقت نزوله في الأوقات؛ فإنّ مثل القرآن- إذا لم يكن معجزا و لا ممنوعا عن معارضته- ممكن لهم، و ادّعاء نزول الملائكة به أدخل في باب التّمكّن؛ لأنّه ممكن لكلّ قادر على الكلام، و إن كان الأوّل يختصّ بالتمكّن منه الفصحاء.

و ممّا يبيّن أنّ الحال الّتي وصفناها تقوم مقام التحدّي بالقول و التقريع باللّفظ- بل ربّما زادت عليهما- أنّ أحدنا لو نال رئاسة في الدّنيا جليلة، و وصل إلى منزلة رفيعة، و أظهر أنّ له فضلا على غيره و تقدّما على سواه، و أنّ ما ناله يستحقّه بما هو عليه، و كان له مع ذلك أعداء و منافسون يحسدونه، و يثقل عليهم تقدّمه و وصوله إلى ما وصل إليه، و يحبّون أن ينتقض أمره، و يفسد حاله، و لم يظهر لهم من أحواله ممّا كان كالذّريعة إلى تلك الرّتبة و بلوغ تلك المنزلة، إلّا أمر من الأمور

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 277

أو فعل من الأفعال لم يبن منهم إلّا به، و هم طامعون في مساواته فيما أظهره و [فيما] يفسد أمره، و يحلّ عقده، و يبطل نظام رئاسته؛ فإنّا نعلم

أنّ ظهور هذه الحال في باب التحدّي و البعث على المساواة في الأمر الّذي تطلب «1» الرئاسة بسببه، أبلغ و أقوى من التحدّي بالقول و التقريع باللّفظ، حتّى يقطع متى لم يقع من هؤلاء الحسّاد و الأعداء مثل هذا الفعل الّذي ذكرناه، على قصورهم عنه و تعذّره عليهم، كما يقطع على القصور و التعذّر متى وقع الطّلب بالقول و التحدّي باللّفظ.

فإن قيل: كيف يصحّ أن يكون إضافته عليه و آله السّلام الكتاب إلى ربّه و انتظاره نزول الملك به تحدّيا، فطلبا من القوم المساواة فيه، و أنتم تعلمون أنّ موسى عليه السّلام كان يدّعي في التوراة مثل ذلك، و لم يكن متحدّيا بها، و لا هي معجز عند كلّ أحد؟

قلنا: إنّا لم نجعل الإضافة و انتظار الوحي فقط هما المقتضيين للتّحدّي، بل لوقوعهما على وجه الاحتجاج و ادّعاء التميّز و التخصّص. و هذا معلوم من قصيده عليه السّلام، و ظاهر من حاله:

و موسى عليه السّلام لم يدّع قطّ نزول التّوراة على سبيل الاحتجاج على مخالفيه و الإبانة منهم، و إنّما كان يذكر ذلك لأصحابه و أتباعه ممّن عرف صدقه بغيرها من معجزاته.

على أنّ موسى عليه السّلام لمّا ادّعى النبوّة و الإبانة أظهر ما جعله اللّه تعالى برهانا لنبوّته و تحدّى النّاس به، كانقلاب العصا و غيرها، و لم يقتصر على ادّعاء نزول التّوراة عليه؛ فوجب أن يطلب بمساواته فيما تحدّى بفعله و صرّح بالاحتجاج «2» به.

______________________________

(1) في الأصل: تقلب، و الظاهر ما أثبتناه.

(2) في الأصل: الاحتجاج، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 278

و لو أنّه ادّعى النّبوّة و المزيّة و لم يظهر شيئا يدّعي به الإبانة و التخصيص أكثر من

قوله: إنّ التّوراة كلام اللّه تعالى و أنّه يوحى بها إليّ، لكان يجب على من حاجّه و قصد إلى إبطال أمره أن يساويه فيما احتجّ به، و يظهر كلاما يدّعي فيه ما ادّعاه موسى عليه السّلام في التوراة، ليبيّن للنّاس أنّه كغيره و أنّه لا مزيّة له.

و ليس هكذا نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّا نعلم ظهور شي ء على يده، و ادّعى به المزيّة و الإبانة، و احتجّ به في جميع الأحوال، فجرى مجرى القرآن.

و ليس لأحد أن يقول: فلعلّ تعويله في دلالة نبوّته إنّما كان على معجزاته الّتي ليست بقرآن، كانشقاق القمر، و الميضأة «1»، و حنين الجذع، و ما شاكل ذلك، فلا يثبت لكم معنى التحدّي في القرآن من حيث ظهر عليه، إذا كان قد أغنى عنه في باب الحجّة؛ و ذلك لأنّا قد بيّنا أنّ المعلوم من قصيده صلّى اللّه عليه و آله في إضافته إلى ربّه تعالى، و انتظار نزول الملك به طريقة الاحتجاج و ادّعاء المزيّة، فحاله إذن كحال غيره من المعجزات؛ إن ثبت أنّها ظهرت و ادّعى بها النبوّة على حدّ ظهور القرآن.

فكيف و ليس ذلك بثابت؛ لأنّه لا شي ء من معجزاته- سوى القرآن- يعلم ظهوره و احتجاجه و فزعه إليه على حدّ العلم بالقرآن؟! و إنّما يرجع في إثبات هذه المعجزات إلى ضروب من الاستدلال و الطّرق التي يعترضها كثير الشّبهات، و لا يحتاج إلى شي ء منها في القرآن.

______________________________

(1) الميضأة: الموضع الذي يتوضّأ فيه، أو المطهرة التي يتوضّأ منها. ذكره المؤلف في فصل (في الدلالة على صحّة ما عدا القرآن من معجزاته صلوات اللّه عليه و آله) من كتابه المغني ص 404، فقال: «و منها خبر الميضأة

و أنّه وضع يده فيها، و كان الماء يفور بين أصابعه، حتّى شرب الخلق الكثير من تلك الميضأة و رووا». و هذا الخبر مرويّ باختلاف في الألفاظ، راجع تفصيل ذلك في: بحار الأنوار 17/ 286؛ دلائل النبوّة 6/ 132؛ مسند أحمد بن حنبل 5/ 398.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 279

على أنّه لا شي ء من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله إلّا و قد تقدّم ادّعاءه للنّبوّة و مطالبته الخلق «1» بالانقياد له و الدّخول تحت طاعته (وجوده و ظهوره) «2» سوى القرآن؛ فكيف يصحّ نفي جعله عليه السّلام دليل نبوّته؟

*** و ممّا يعتمد عليه في ثبوت التّحدّي بالقرآن:

أنّا قد علمنا ادّعاءه عليه و آله السّلام النبوّة، و إلزامه النّاس طاعته و الدّخول في ملّته. و لا بدّ لمن دعا إلى مثل هذه الحال- بل إلى ما هو دونها- من إظهار أمر ما يقوم مقام الحجّة و الدّلالة؛ لأنّ أحدا من الفضلاء لا يجوز أن يقدم على مثل هذه الدعوى من غير تعلّق بحجّة أو شبهة. حتّى أنّ جميع المتنبّين و ضروب الممخرقين «3» قد فزعوا، فيما ادّعوه و دعوا إليه، إلى تعلّق أشياء ادّعوا أنّها حجج و براهين؛ فلو ساغ أن يقدم على ما ذكرناه عاقل مع بعده، لم يجز- لمن ادّعى عليه الرئاسة، و طالبه بالطّاعة و الانقياد، و ألزمه مفارقة دينه و عادته- ألّا يطالبه بحجّة على قوله و برهان على وجوب اتّباعه.

فكيف يصحّ أن يدّعي نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله- من بين جماعة العرب- النّبوّة و الرئاسة، و يطالبهم بالانسلاخ من جميع ما ألفوه و عرفوه من العبادات، و العادات و الأفعال، من غير أن يظهر شيئا يجعله كالحجّة على صحّة أمره و صدق قوله،

و لا يكون فيهم من يطالبه بذلك، مع علمنا بتوفّر دواعيهم و شدّة حرصهم على تكذيبه و توهين أمره، و أنّهم قد تحمّلوا في طلب ذلك المشاقّ، و بذلوا فيه الأنفس

______________________________

(1) في الأصل: للحقّ، و المناسب ما أثبتناه.

(2) كذا في الأصل: و فيه اضطراب بيّن.

(3) أي من يأتي بالخوارق من المشعبذين.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 280

و المهج، و تعلّقوا بكلّ أباطيل و شبهة، و كان من جميع ما تكلّفوه أن يطالبوه بحجّة على قوله، و يواقفوه على أنّه مطالب بما لو طولب بمثله لم ينفصل؟! و كيف جاز أيضا من جماعة من عقلائهم و فضلائهم و من لا ينسب إلى عناد و لا يرمى بقلّة تديّن و تحرّج، أن ينقادوا له و يتّبعوه؟! بل كيف جاز من جميع المستجيبين- مع كثرتهم و وفور عدّتهم، و علمنا بتديّن أكثرهم- أن يتّبعوه و يؤازروه و يصدّقوه، و هو لم يظهر شيئا يقتضي التّصديق، إمّا بالحجّة أو الشّبهة؟! و كلّ هذا لو جاز لكان فيه نقض العادة و خروج عن المعهود المألوف فيها، و لكان يقتضي الإعجاز و الدّلالة مثل ما يقتضيه التحدّي بالقرآن، بل ما هو أظهر منه في باب الأعجوبة؛ فكان المدافع للتحدّي بالقرآن لا يتمكّن من دفعه الاعتراف بما يجري في الإعجاز مجراه و يزيد عليه.

و إذا وجب- بجميع ما ذكرناه- أن يكون عليه و آله السّلام محتجّا بأمر ما، و مدّعيا به الإبانة و التميّز، و لا شي ء يدّعى فيه ذلك إلّا و حال القرآن أظهر، و لا طريق إلى إثباته عليه و آله السّلام متحدّيا و محتجّا بغيره إلّا و هو على أوضح الوجوه، فقد «1» صحّ التحدّي بالقرآن، و

صار ما دلّ على ثبوت التحدّي بأمر من الأمور في الجملة يدلّ- بالتّرتيب الّذي رتّبناه- على ثبوت التحدّي بالقرآن بعينه.

*** و ممّا اعتمد في العلم بالتّحدّي:

أنّ القرآن قد صحّ نقله بالتّواتر الّذي صحّ به أمثاله. و آيات التّحدّي المتضمّنة

______________________________

(1) قبلها في الأصل زيادة: طريق إلى إثباته متحدّيا. و هو سهو من الناسخ.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 281

للتّوبيخ و التّعجيز في صحّته، من «1» جملته. و قد كان القوم يسمعونها حالا بعد حال، و فيها من التّحريك و الإزعاج ما هو معلوم. و هذه الآيات نزلت بمكّة، و العلم بنزولها هناك مستفاد بالنّقل الّذي به علم نزولها في الجملة، فليس لأحد أن يشكّك في تقدّم نزولها، و يقول: لعلّها ممّا نزل في آخر الأمر! على أنّه لو ثبت تأخير نزولها لكان ما قصده من إثبات التحدّي بالقرآن حاصلا على كلّ حال، و لا فرق بين تقدّمه و تأخّره في الدّلالة إذا علمنا أنّ المعارضة لو كانت ممكنة لوجب وقوعها.

و سنبيّن فيما يأتي بمشيئة اللّه تعالى أنّ اختلاف الأحوال، و زيادة عدد الأنصار و قلّتهم، و قوّة الأمر و ضعفه، لا تأثير له في ذلك، و أنّ المعارضة لو أمكنت لوقعت على تصرّف الحالات.

و ربّما طعن طاعنون في هذه الطّريقة بأن يقولوا:

من أين علمتم أنّ آيات التحدّي من جملة القرآن الّذي سمعه العرب و تلي عليهم، و لعلّها مضافة إلى الكتاب بعد تلك الأزمان؟

و كيف يصحّ أن يجمعوا بين جملة القرآن- و ما جرى مجراه من الأقوال الظّاهرة- و بين تفصيل آياته و كلمه في وقوع العلم و زوال الرّيب؟ و أنتم تعلمون أنّ العلم بجملته مخالف العلم بتفصيله؛ لأنّ العلم الأوّل يشترك فيه جميع العقلاء المخالطين لأهل الأخبار من غير اختصاص، و لا يصحّ دخول الشّبه عليه منهم.

و الثّاني يدّعيه قوم من جملتهم، و لو شكّكوا فيه لشكّ أكثرهم، فيجب أن يصحّحوا أنّ حكم آيات

التّحدّي حكم جملة القرآن، ليصحّ ما ادّعيتموه.

______________________________

(1) في الأصل: و من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 282

و الجواب عن هذا الطّعن:

أنّا لا نشكّ في الفرق بين العلم بجملة القرآن و تفصيله، من الوجوه التي ذكرت «1»، لأنّ العلم بجملته لا يشكّ في عمومه و زوال الشّبه عنه، و العلم بتفصيله يجوز دخول الشّبه فيه.

و لسنا نرتضي طريقة من سوّى بين الأمرين و ادّعى أنّ العلم بالتفصيل كالعلم بالجملة، و أنّ من دفع العلم بالحرف و الكلمة و الآية، في أنّه دافع لما يعلمه ضرورة، كالدافع بجملة الكتاب.

غير أنّه ليس إذا لم يقع العلم بالشي ء ضرورة- إن جعل العلم بجملة القرآن من باب الضّرورة، أو على وجه لا مجال للشكّ و الشّبه عليه- وجب أن ينفي و يمنع من أن يكون إلى العلم به طريق.

و العلم بآيات التحدّي و ما جرى مجراها، من تفضيل القرآن، و إن لم يكن على حدّ العلم بجملته؛ فإلى العلم بها طريق واضح، و هو نقل جماعة المسلمين و تواترهم؛ لأنّهم بأجمعهم ينقلون أنّ هذه الآيات ممّا كان يتلى على عهد الرّسول عليه و آله السّلام في جملة الكتاب. و قد علمنا أنّ شروط التّواتر حاصلة فيهم، بل في كلّ فرقة من فرقهم؛ فيجب أن يعلم بخبرهم صحّة نقل هذه الآيات، و بطلان قول من قدح في إثباتها.

على أنّ آيات التحدّي ليس يخلو حالها من وجهين: إمّا أن تكون من جملة ما كان يقرأه الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و يحتجّ به على القوم، أو لا تكون كذلك و تكون مضافة إلى الكتاب بعد أن لم تكن فيه.

فإن كانت على الوجه الأوّل: فقد ثبت ما أوردناه من

التّحدّي على آكد الوجوه.

______________________________

(1) في الأصل: الذي ذكر، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 283

و إن كانت على الوجه الثّاني: فقد كان يجب أن يكون التعلّق بها في وقوع التحدّي حادثا مستقبلا، و لو كان كذلك ما أمسك اليهود و النّصارى و سائر الطّوائف الخارجة عن دين الإسلام عن مواقفة أهل الإسلام على ذلك؛ لأنّ إمساكهم لا يخلو أن يكون مع العلم بحالهم فيما أضافوه إلى كتابهم، أو مع عدم العلم به، و لأنّ ما فعلوه ممّا يجوز أن يخفى عليهم.

و لن يجوز أن يمسكوا مع العلم؛ لعلمنا بتوفّر دواعيهم، و شدّة تعلّقهم و توصّلهم إلى كلّ أمر هجّن الإسلام و أهله، و أدخل الشّبه على معتقديه.

و لا يجوز أيضا أن يكون ذلك ممّا خفي عليهم؛ لأنّهم إذا كانوا من الاختلاط بأهل الإسلام على ما هو معروف، و علمنا أنّ احتجاج المسلمين عليهم في النبوّة متّصل غير منقطع، سلفا على سلف، و خلفا على خلف، فلا بدّ متى ظهر منهم في باب التحدّي و الاحتجاج على صحّة ما لم يعرفوه، ثمّ أضافوه إلى قولهم- بعد أن لم يضيفوه إليه- أن يعلموا بذلك من حالهم، و يواقفوهم عليه، و يحتجّوا عليهم به.

أ لا ترى أنّ المسلمين- بعد ما سبق لهم من الاحتجاج في المعجزات الّتي دلّ عليها الكتاب و الّتي لم يدلّ عليها ما سبق- لو أضاف بعضهم إلى القرآن آية أو آيات تتضمّن ذكر معجزة باهرة لم يقدّم ذكرها و الاحتجاج بها، ثمّ حاجّ بها مخالفي الملّة- لوجب أن يعلموا محاله، و يواقفوا على أنّ ما فعله مبتدع لم يتقدّم وجوده؟

و إذا صحّ ما ذكرناه- و لم يكن أحد من

مخالفي الإسلام يدّعي أنّ آيات التحدّي ممّا حدث الاحتجاج بها، و أن يشير إلى زمان بعينه ذكرت فيه، و لم تكن مذكورة قبله، و لا أنّ أحدا وقف على ذلك و لا ادّعاه- فقد ثبت أنّها من جملة الكتاب الّذي أظهره الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و قد اعتمد بعض المتكلّمين في ثبوت التّحدّي بالقرآن على ما نقل من قول

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 284

الوليد بن المغيرة في القرآن: «إنّي قد سمعت الشّعر و الخطب، و ليس هذا منه في شي ء»، و وصفه له بأنّه سحر! و قول أميّة بن خلف: «لو نشاء لقلنا مثل هذا».

و إحضار بعضهم أخبار الفرس، و ادّعائه أنّه معارض للقرآن.

قال: لأنّ التحدّي لو لم يكن واقعا به و معلوما من جهته، لم يكن لجميع ذلك معنى.

و ليس هذا ممّا يصحّ الاعتماد عليه؛ لأنّ جميع ما ذكر ليس بمعلوم و لا مقطوع عليه، و إنّما المرجع فيه إلى أخبار آحاد. و ليس يصحّ أن يثبت التحدّي من طريق الظنّ، بل لا بدّ فيه من العلم اليقين.

و الكتاب- و إن نطق ببعض هذه الأخبار- فليس يصحّ الاعتماد عليه في صحّتها؛ لأنّ الكتاب لا يكون حجّة و مقطوعا على صحّة أخباره إلّا بعد صحّة التّحدّي به، فكيف يصحّ أن يرجع في إثبات التحدّي إلى ما لا يعلم إلّا بعد ثبوته؟! على أنّ قول أميّة بن خلف: «لو نشاء لقلنا مثل هذا» لا يدلّ على أنّه تحدّي به و طولب بفعل مثله. و قد يقول الإنسان هذا مبتدئا فيما لا يدعى إليه.

و كذلك تعجّب الوليد منه و وصفه بأنّه سحر لا يدلّ على أكثر من استغرابه له و استطرافه. فأمّا الاستدلال

به على التحدّي فبعيد، و المعتمد على ما تقدّم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 285

فصل في أنّ القرآن لم يعارض

الكلام في هذا الباب يقع في موضعين:

أحدهما: مع من يدّعي أنّ القرآن قد عورض بمعارضة محفوظة منقولة، و يومئ إلى كلام مسيلمة، أو ما جرى مجراه ممّا سنذكره.

و الموضع الآخر: مع من يقول: جوّزوا وقوع المعارضة، و إن لم تكن محفوظة و لا معلومة، و يدّعي أنّ نقلها- لو كانت واقعة- غير واجب، أو يدّعي حصول موانع عن نقلها. و الكلام على الوجه الثّاني أهمّ و أوسع، و نحن نقدّمه.

فنقول: إنّ القرآن لو عورض لوجب نقل المعارضة و العلم بها؛ لأنّ ظهورها في الأصل واجب، و الحاجة إلى نقلها ماسّة، و الدّواعي متوفّرة، و العهد قريب.

و إنّما يجيز وقوع الشّي ء و إن لم ينقل، اختلال «1» هذه الشّروط الّتي ذكرناها فيه، أو بعضها.

فأمّا إذا تكاملت فلا بدّ من النّقل، و لهذا قال المتكلّمون: إنّ معارضة القرآن لو وقعت لجرت في النّقل مجرى القرآن، بل زادت عليه؛ لأنّ جميع ما يقتضي نقل

______________________________

(1) في الأصل: لاختلال، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 286

القرآن- من توفّر الدّواعي، و شدّة الحاجة، و قرب العهد- حاصل في المعارضة، و هي تزيد عليه من حيث لو وقعت لكانت هي الحجّة في الحقيقة، و كان القرآن قائما مقام الشّبهة و نقل الحجّة. و ما به تزول الشّبهة أولى في الدّين، و الدّواعي إليه أقوى. و إذا صحّت هذه الجملة و لم نجد نقلا في المعارضة، وجب القطع على انتفائها، و كذب مدّعيها.

فإن قيل: دلّوا أوّلا على تكامل الشّروط الّتي ذكرتموها في المعارضة لو كانت ثابتة، و أنّ ظهورها في الأصل واجب، و الدّواعي متوفّرة إلى جميع

ما عددتموه، ثمّ دلّوا على أنّ ما هذه حاله لا بدّ من نقله، و أنّه إذا لم ينقل علم انتفاؤه.

قلنا: أمّا الذي يدلّ على أنّ المعارضة لو وقعت لكانت ظاهرة فاشية، فهو أنّ الّذي يدعو إلى فعلها يدعو إلى إشاعتها و إعلانها؛ لأنّ ما دعا إلى تعاطيها هو طلب التّخلّص ممّا طلب الرّسول عليه و آله السّلام القوم به من مفارقة عاداتهم في الأديان و العبادات و الرئاسات، و أن يدفعوا بها نبوّته، و يدحضوا حجّته، و يصرفوا الوجوه عن اتّباعه و نصرته.

و هذه الأمور بعينها داعية إلى إظهار المعارضة و إعلانها؛ لأنّ الغرض بها و الاحتجاج بفعلها لا يتمّان إلّا مع الإظهار دون الإخفاء و الكتمان، أو لا يرى الشّاكّ فيما ذكرناه أنّ غرض القوم في تكلّف المعارضة لم يكن ليعلم اللّه تعالى أنّهم قد عارضوا، بل ليعلم ذلك المحتجّ عليهم و النّاس جميعا، فيسقطوا عنهم ما ظنّوه بهم من العجز «1» و القصور، و يشهدوا بوضوح حجّتهم، و علوّ كلمتهم، و تزول الشّبهة في صدق من ادّعى النّبوّة فيهم. و هذا كلّه لا يصحّ إلّا مع إظهار الاحتجاج و إعلانه، و تكراره و ترداده.

______________________________

(1) في الأصل: المعجز، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 287

و أمّا العلم بأنّ الحاجة إلى نقلها ماسّة و الدّواعي متوفّرة فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى تكلّف دلالة؛ لأنّا نعلم علما لا يخالجنا فيه شكّ و لا يعترضنا ريب أنّ مخالفي الملّة من اليهود و النّصارى، و المجوس و البراهمة، و أصناف الملحدين، من الحرص على التشكيك في الإسلام و تطلّب ما يوهنه و يوقع الشّبهة فيه، على ما لا زيادة عليه و

لا غاية وراءه، و أنّهم يتدبّرون و يبذلون الأموال لمن أوقع فيه شبهة و إن ضعفت، و عضهه بعضيهة «1» و إن بعدت، حتّى أخرجتهم هذه الأحوال إلى حفظ السّبّ و الهجاء، و إن كان لا حجّة في شي ء منها و لا شبهة، و إلى نقل كلام مسيلمة الرّكيك الدالّ على ضعف عقله، و نقصان تمييزه، و ما جرى مجراه، فكيف بهم لو ظفروا بمعارضة مشبهة، و كلام مماثل؟! و ما يشكّ عندنا عاقل عارف بأحوال النّاس في أنّ الدّواعي إلى نقل ما ذكرناه تبلغ من القوّة إلى حدّ الإلجاء الذي لا مصرف عنه و لا معدل.

و أمّا الكلام في قرب العهد فواضح جدّا؛ لأنّ حكم المعارضة في القرب حكم القرآن و سائر ما علمنا وقوعه و ظهوره في تلك الأزمان، فكيف يؤثّر بعد العهد في بعض هذه الأمور دون بعض، و حكم الكلّ فيه متّفق غير مختلف؟

فأمّا الدّلالة على أنّ ما اختصّ بهذه الشّرائط فنقله واجب، و هي أنّ الدّواعي إلى النقل إذا كانت على ما وصفناه من القوّة، و لا مانع عن النقل يعقل فيوجب وقوعه؛ لأنّ تجويز ارتفاعه ينقض ما علمناه من حصول الدّواعي و قوّتها. و يجري النقل في هذا الباب مجرى سائر الأفعال الّتي متى علمنا قوّة الدّواعي إليها و ارتفاع الموانع عنها حكمنا بوجوب وقوعها، و متى جوّزنا ارتفاعها نقض هذا التّجويز ما فرضناه من قوّة الدّواعي، و ارتفاع الموانع.

______________________________

(1) عضهه بعضيهة: قذفه بالباطل، و باختلاق الكذب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 288

و بمثل هذه الطّريقة يعلم أنّه لم يكن في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله نبيّ ظهر على يده من المعجزات و الآيات أكثر

و أبهر ممّا ظهر على نبيّنا عليه و آله السّلام، و أنّه لم يظهر على يده قرآن آخر أظهر فصاحة و أبين بلاغة من هذا، و أنّه لم تنقلب على يده المدن، و لم يقم «1» الأموات من قبورهم و لم تصر «2» السّماء أرضا، و الأرض سماء.

و هذه الطّريقة أيضا نسلك في أنّه ليس بين بغداد و الكوفة بلد أوسع و أكثر أهلا من بغداد؛ و أنّه لم يكن بين ملكين عرفنا أحوالهما و اتّصلت بنا آثارهما، ملك أعظم قدرا منهما و أكثر جندا، لم يتّصل بنا خبره و لم ينقل إلينا أحواله. و نظائر ما ذكرناه كثيرة.

و متى لم تصحّ الطّريقة الّتي سلكناها في نفي المعارضة، لم يكن إلى نفي سائر ما ذكرناه طريق.

على أنّا قد بيّنا أنّ المعارضة لو وقعت، لكانت مساوية للقرآن فيما اقتضى نقله و ظهوره و العلم به، و ليس يصحّ أن يتساوى شيئان في المقتضي للحكم و لا يستويان في الحكم.

و إذا وجب نقل القرآن و ظهوره وجب نقل كلّ ما جرى مجراه فيما المقتضي النّقل و الظّهور.

فإن قيل: قد ادّعيتم أنّ الدّواعي إلى النّقل متوفّرة و الموانع مرتفعة، و قد مضى دليلكم على إثبات الدّواعي، فمن أين حكمتم بارتفاع الموانع؟ و لم أنكرتم أن يكون الخوف من أنصار النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أعوانه، و تظاهر «3» المستجيبين لدعوته

______________________________

(1) في الأصل: و يقوم، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و تصير، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: و الا تظاهر، و هو من سهو الناسخ.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 289

و تكاثرهم هو المانع من نقل المعارضة، و الموجب لانكتامها و اندفانها؟! قلنا:

هذا يسقط من وجوه:

أحدها: أنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل جملة و العدول عنه على كلّ وجه.

و إنّما يمنع- إن منع- من التّظاهر به، بهذا جرت العادات. أ لا ترى أنّ الخوف من بني أميّة في نقل فضائل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و سلامه، و مناقبه و سوابقه، لمّا أن كان معلوما و منتهيا إلى أبعد الغايات لم يمنع من نقل الفضائل، و لا اقتضى انقطاع نقلها، و إنّما منع من التّظاهر بالنّقل في بعض الأحوال.

و نحن نعلم أنّه لم تكن حال مخالفي الإسلام في زمن من الأزمان مشاكلة لحال «1» الشّيعة في أزمان بني أميّة و ما أشبهها فيما يوجب التّقيّة و يقتضي الخمول و الخوف، و يمنع من التصرّف على الاختيار.

و إذا كان غاية الخوف و نهاية ما يوجب التقيّة لم يمنعا من النّقل، فأولى أن لا يمنع من ذلك ما يبلغ هذه الغاية و لم يقاربها.

و ثانيها: أنّ أهل الإسلام إنّما كثروا و صاروا بحيث يخاف منهم بعد الهجرة.

و مدّة مقامهم بمكّة كانوا هم الخائفين المغمورين، و التقيّة فيهم لا منهم؛ فقد كان يجب أن تظهر المعارضة في هذه المدّة و تنتشر في الآفاق و يسير بها الرّكبان، و لا تكون قوّة الإسلام و أهله من بعد مؤثّرة في ظهورها، و نقلها و حصول العلم بها.

و علمنا بانتفائها في هذه الأحوال كاف في الدّلالة على النبوّة؛ لأنّه يقتضي تعذّرها على وجه لا يخالف العادة.

و ثالثها: أنّا نعلم أنّ قوّة الإسلام إنّما ابتدأت بالمدينة و بعد الهجرة، و قد كانت في تلك الحال ممالك أهل الشّرك و بلاد الكفر غالبة على الأرض، مطبّقة

______________________________

(1) في الأصل: كحال، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة

إعجاز القرآن، النص، ص: 290

للشّرق و الغرب، و لم تزل تتناقص و تضيق بقدر سعة الإسلام و انتشاره و غلبته على مكان بعد مكان. و قبض الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و أكثر البلاد يغلب عليها الكفّار، و كانت مملكة الفرس كحالها لم تنقرض، و كذلك ممالك الرّوم و من جرى مجراهم. و إلى هذه الغاية لم يخل العالم من بلاد كفر واسعة، و ممالك كثيرة لعلّها تقارب بلاد الإسلام، إن «1» لم تزد عليها. فقد كان يجب أن تظهر المعارضة في هذه البلاد و يتّصل نقلها، و كان يجب- إذا تقدّم ظهورها، و منع من نقلها و التّظاهر بذكرها غلبة الإسلام على بعض البلاد- أن تظهر و تنقل في غير ذلك البلد من بلاد الكفر، و بحيث لا خوف و لا تقيّة.

و رابعها: أنّ الخوف و التقيّة لو منعا من نقل المعارضة على ما ادّعي، لمنعا من نقل الافتراء و الهجاء و ما تعوطي من المعارضات التي لا تأثير لها؛ لأنّ قوّة الإسلام و أهله- إن كانت مانعة من بعض ذلك و موجبة لانقطاع نقله- فهي [غير] مانعة من نقل جميعه.

و خامسها: أنّ تجويز خفاء المعارضة و انقطاع نقلها، للوجه الذي ذكر، يقتضي أن يجوز كون جماعة من الأنبياء في زمانه عليه السّلام ظهر على كلّ واحد منهم من الآثار و المعجزات ما يزيد على ما ظهر عليه، بل على ما ظهر على سائر الأنبياء المتقدّمين من الّذين اتّصلت بنا أخبارهم [و] كلّهم دعا إلى نسخ شرعه و إبطال أمره، و جميعهم حاربه و نازله، و جرى بينهم و بينه من الوقائع و الغارات أكثر ممّا جرى بينه و بين قريش، لكنّ

خبرهم و تفصيل أحوالهم ممّا انكتم عنّا و لم يتّصل بنا، لمثل ما ذكر من الخوف و غلبة الإسلام.

و كان لا ينكر أيضا أن يكون كلّ واحد من قريش قد عارضه بمعارضة أفصح

______________________________

(1) في الأصل: و إن، و لعلّ الواو من سهو الناسخ.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 291

من القرآن، و لم ينقل شي ء من ذلك، للعلّة التي ادّعى المخالف أنّها منعت من نقل معارضة أحدهم. و ما يلزم من هذا أكثر من أن يذكر، و التّنبيه على بعضه يغني عن ذكر سائره.

و لا سبيل إلى الامتناع من شي ء ممّا ذكرناه و إقامة الدّلالة على بطلانه، إلّا و هو بعينه طريق إلى العلم بانتفاء معارضة القرآن، و دليل على بطلانها.

فإن قيل: أ ليس النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد نصّ عندكم على أمير المؤمنين عليه السّلام بالإمامة، و أعلن ذلك و أظهره، و إن كنّا لا نجد الأمّة تنقل هذا النصّ، و لا نعلمه كعلمها بأمثاله من الأمور الظّاهرة، و إنّما يدّعي نقله من بين جماعة الأمّة فرقة قليلة العدد بالإضافة إلى جميع فرق الأمّة، و تزعمون أنتم أنّ العلّة في عدول الجمهور عن نقله و إطباقهم على كتمانه انعقاد الرئاسات، و طلب الولايات، و دخول الشّبهات، و الميل إلى الهوى و العصبيّة، إلى أمور كثيرة تذكرونها؟! فإنّ السبب في خفاء النّصّ، و قصوره في باب الظّهور من سائر الأمور الظّاهرة، كثرة دافعيه و غلبتهم، و قلّة المقرّين و خمولهم، و أنّ ناقله لم يزل خائفا (من نقل وقوعه مشفقا) «1» منه؛ فألّا جاز أن يكون القرآن قد عورض، و خفيت معارضته علينا و لم ينقل بمثل سائر ما ذكرتموه من الغلبة

و الولايات و الرئاسات و الخوف و التّقيّة؟! قلنا: قد رضينا بما نذهب إليه في النّصّ مثالا و عيارا؛ لأنّ النّصّ لمّا إن وقع- فدعت قوما الدّواعي إلى قلبه و كتمانه و العدول عن نقله و روايته، و دعت آخرين الدّواعي إلى روايته و نقله- وقع من كلّ فريق ما تقتضيه دواعيه، فحصل الكتمان من قوم و النقل من آخرين، و إن كانوا أقلّ عددا منهم.

______________________________

(1) في الأصل: من واقعة مشفيا، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 292

و ليس لقلّة العدد من هذا الباب تأثير، إذا كان النّقل فيما تقوم به الحجّة و الخوف و التقيّة، لمّا إن حصلا من باب النصّ لم يؤثّرا في انقطاع نقله و يمنعا من روايته، و إنّما منعا «1» من التّظاهر به في بعض الأحوال، و النّقل ثابت مع ذلك غير منقطع.

فقد كان يجب- قياسا على ما جرى- أن «2» يحصل نقل المعارضة و يتّصل عمّن ذكرنا وفور دواعيه و قوّتها إلى النقل، و لا يكون كتمان من كتمها و عدل عن نقلها- لأجل الرئاسة أو غيرها من ضروب الدّواعي- موجبا لانقطاع نقلها، من جهة من لم يحصل له مثل هذا الدّاعي، بل هو على ضدّه، و دواعيه كلّها متوفّرة إلى النّقل و الحفظ.

و لا يكون أيضا الخوف مانعا من نقلها، و موجبا لدروسها و انقطاعها «3»، كما لم يكن موجبا مثل هذا في النّصّ. و كان الملزم لنا ما ذكرناه.

و الحائل للمعارضة على النصّ يقول: إذا جاز أن يعدل عن نقل النصّ من دعته الدّواعي إلى كتمانه من فرق الأمّة، و ينقله من جملتهم من دعته الدّواعي إلى نقله، فألّا جاز أن تقع

معارضة القرآن و يعدل عن نقلها من علمنا توفّر دواعيه إلى النقل، و من جوّزنا أن يكون له داع إلى تركه، حتّى يطبق الخلق على ترك النّقل، مع علمنا بتوفّر دواعي أكثرهم إليه؟

و هذا من أوضح المعارضات فسادا و أبعدها من الصّواب، اللّهمّ إلّا أن يقول:

إذا جاز في النصّ ما ذكرتموه، فألّا جاز مثله في المعارضة؟ (و من قبل ذلك لم

______________________________

(1) في الأصل: منعنا، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(2) في الأصل: في أن، و هو غير مناسب للسياق.

(3) في الأصل: لدروسه و انقطاعه، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 293

يمتنع منه فنقلناه «1») «2».

و يجب منه أن يجيز نقل المعارضة من كلّ من علمنا توفّر دواعيه إلى نقلها من مخالفي الإسلام، الّذين بنقل بعضهم تجب الحجّة و ينقطع العذر. و إذا كنّا غير واجدين له، قطعنا على انتفائها.

على أن لا نسلّم في نقل المعارضة من أسباب الانكتام و الخفاء، مثل ما علمنا ثبوته من نقل النصّ؛ لأنّا نعلم أنّ الدّولة و السّلطان، و العزّة و الكثرة، و البسطة و القدرة، و سائر أسباب التمكّن حاصلة في مخالفي النصّ و دافعيه، منذ قبض الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و إلى هذه الغاية، و أنّ القائلين بالنصّ و المعتقدين له في سائر هذه الأحوال مغمورون مقهورون، و إن اختلفت الحال بهم:

فتارة: تنتهي بهم التقيّة و الخوف إلى جحود مذاهبهم و التّظاهر بخلافها، حتّى أنّ من عرف بمذهبه منهم إمّا أن يكون مستترا مندفنا لا يوقف على خبره، أو مسفوكا دمه، منتهكا حرمته! و تارة أخرى:- و هي أحسن أحوالهم و نهاية رجائهم- يكونون غير خائفين على نفوسهم، و لا ملجئين إلى

جحد مذاهبهم، غير أنّ مخالفهم «3» أعلى كلمة، و أنفذ أمرا، و أشدّ انبساطا.

و هذه أحوالهم في سائر البلاد و ضروب الممالك، فإنّا ما نعرف مملكة من الممالك، و دولة من الدّول بذا العهد الّذي ذكرناه، و إلى قريب من زماننا هذا كانت الشّيعة مستولية عليها، و كان مخالفها مغمورا فيها، و بعض هذه الأمور يقتضي من الخفاء أكثر ممّا عليه النصّ.

و ليس هذه حال مخالفي الإسلام؛ لأنّا قد بيّنا أنّهم في الأصل كانوا أكثر

______________________________

(1) هكذا الكلمة وردت في الأصل غير منقوطة: فنقلناه.

(2) كذا في الأصل.

(3) في الأصل: قادرهم، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 294

و أظهر، و أنّ الإسلام لمّا عزّ و قوي و كثر أهله، و اتّسعت أقطاره، لم يخل كلّ زمان من بلاد للكفر و أهله واسعة، و ممالك منيعة، و سلطان ظاهر، فكيف يسوّى بين نقل المعارضة- لو كان لها أصل- و بين نقل النصّ طي الخفاء و الظهور، و حالهما من التباين على ما وصفناه؟! و كيف يصحّ أن يسوّي عاقل بين النّصّ و المعارضة، و يلزم أحدهما على الآخر؟ و قد بيّنا أنّ العلم بأنّ القرآن لم يعارض معارضة ظهرت و انتشرت على الحدّ الّذي أوجبناه يجري مجرى العلم بأنّه لم يظهر في زمانه عليه السّلام من كبير الآيات و المعجزات، و أنّه لم يعارضه جميع العرب، و أنّه لا بلد مشاكل بغداد بينها و بين واسط، إلى سائر ما عددناه.

و نحن نعلم أنّ أحدا من العقلاء المخالطين لأهل الأخبار لا يشكّ في شي ء من هذه الأمور، و حكم بعضها في حصول العلم بانتفائه حكم جميعها، و إن أراد المخالف أن يجعل هذا العلم

ضروريّا فليفعل، فما مضايقة هاهنا في الفرق بين الضّرورة و الاكتساب.

و معلوم أنّ حكم النصّ فيما ذكرناه مفارق للمعارضة و ما أشبهها؛ فإنّ مخالفنا فيه لا يمكنه أن يدّعي أنّ العلم بانتفاء النصّ على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه كالعلم بانتفاء بلد بين واسط و بغداد على الصّفة الّتي ذكرناها، أو كالعلم بانتفاء النصّ بالإمامة على سلمان أو على أبي هريرة. و هذا بيّن في الفرق بين الأمرين.

فإن قيل: فإنّ مخالفيكم في النصّ ربّما ادّعوا العلم بفقده، على الحدّ الّذي ذكرتموه! قلنا: لو كان العلم بفقد النّصّ على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يجري مجرى العلم بفقد النصّ على أبي هريرة و انتفاء البلد الّذي ذكرناه، لوجب أن لا يصحّ من الجمع العظيم من العقلاء الاعتقاد له و التّديّن به، كما لا يصحّ منهم ذلك في أمثاله.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 295

و لوجب أن تقبح مناظرة معتقديه، كما قبحت مناظرة من خالف في البلدان، و اعتقد النصّ على أبي هريرة. و لكان جميع ما تكلّفه خصوم الشّيعة- من مناظرتهم في النصّ، و وضع الكتب عليهم فيه- خطأ و عبثا! و من صار في الدّعوى إلى هذه الحال هانت قصّته، و خفّت مئونته، و ما يقابل به الشّيعة من تجاسر على هذه الدّعوى من خصومهم معروف.

فإن قيل: كيف يكون العلم بفقد معارضة القرآن جاريا مجرى العلم بفقد النّبيّ الّذي وصفتموه و البلد الّذي ذكرتموه، و قد ناظر المتكلّمون قديما و حديثا من ادّعى المعارضة، و وضعوا الكتب عليه، و هم لا يفعلون ذلك مع من خالف في القرآن و ما جرى مجراه «1»؟

و إذا جاز أن يناظر هؤلاء- و إن كانت حالهم حال

من خالف في البلدان و غيرها- جاز أيضا أن يناظر الذّاهب إلى النصّ على أمير المؤمنين عليه السّلام، و إن كانت حاله حال مدّعي النّصّ على أبي هريرة.

قلنا: لم يناظر المتكلّمون قديما و لا حديثا من ادّعى أنّ القرآن قد عورض بمعارضة ظهرت و شاعت، و علمها الموافق و المخالف، و مع هذا لم تنقل، كما أنّهم لا يناظرون من ادّعى نبيّا معه صلّى اللّه عليه و آله، و بلدا غير معروف. و أكثر ما يستعمل في مثل هذا، التنبيه و التوقيف.

و ما وجدنا أيضا قوما من العقلاء يذهبون إلى وجود هذه المعارضة، و يتديّنون باعتقادها أو تجويزها، و لا معتبر بالواحد و الاثنين ممّن يجوز أن يظهر خلاف ما يبطن، و يهون عليه التّظاهر بالمكابرة و المباهتة.

و إنّما ناظر المتكلّمون من جوّز وقوع مناظرة لم يطّلع عليها إلّا الواحد

______________________________

(1) في الأصل: مجراها، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 296

و الاثنان و من جرى مجراهما ممّن يجوز أن يكتمها و يطوي ذكرها لبعض الأغراض.

أو من قال: جوّزوا أن تكون المعارضة قد حصلت بعد قوّة الإسلام و أهله، ممّن لم يتمكّن من إظهارها خوفا و تقيّة فأمّا معارضة اطّلع عليها جماعة الأولياء و الأعداء، و وقع الاحتجاج بها في المحافل و المناظرة عليها في المجامع، فليست ممّا ينكره عاقل أو يجوّزه! فإن قيل: و لم أنكرتم أن يكون أحد العرب قد عارض القرآن، و لم يطّلع على خبره إلّا الواحد و الاثنان من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أهل العصبيّة له، و أنّ من علم بذلك من حاله قتله و طوى معارضته، فلهذا لم تظهر؟! قلنا: إذا

كنّا قد علمنا بأنّ المعارضة لم تقع من وجوه الفصحاء و جماعة الخطباء و الشّعراء الّذين كانوا يتمكّنون من إظهار المعارضة لو فعلوها، و لا تمّ عليهم فيها شي ء ممّا ذكر، مع توفّر الدّواعي و شدّة الحرص، فقد دلّ ذلك على أنّهم مصروفون عن المعارضة، و أنّها متعذّرة عليهم على وجه يخالف العادة، و أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله صادق فيما خبّر به عن ربّه من منعهم عن مساواته و معارضته، تأييدا له و تصديقا لدعوته.

و تعلم حينئذ أنّ جميع الخلق في التعذّر و القصور على هذه الصّفة، و أنّ المنع لا بدّ أن يكون عامّا شائعا؛ لأنّ ما يقتضي حصوله في موضع من المواضع يقتضي عمومه، و لهذا نقول كثيرا: إنّ علمنا بقصور واحد من العرب- ممّن علمنا تمكّنه من الفصاحة و تصرّفه فيها- عن المعارضة، و أنّه رامها و اجتهد فيها فلم يتأتّ له، كاف في الدّلالة على النبوّة و صحّة المعجز، و إن لم نعلم أنّ حكم غيره حكمه في التّعذّر. و الحقّ بحمد اللّه أوضح و أشهر من أن يخفى على طالبيه من وجهه.

***

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 297

فأمّا الكلام على من أشار إلى أشياء بعينهما «1»، و ادّعى أنّها معارضة للقرآن:

فربّما تعلّقوا بكلام مسيلمة، و ربّما ذكروا ما فعله النّضر بن الحارث من القصص بأخبار الفرس.

و ربّما تعلّقوا بما حكاه اللّه تعالى في كتابه عن أبي حذيفة بن المغيرة «2» من قوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «3» إلى آخر الحكاية عنه، و يقولون: إنّ كلامه المحكيّ يساوي سورة قصيرة من القرآن! و ربّما عمدوا إلى بعض القرآن فغيّروا من خلاله و أثنائه ألفاظا، و أبدلوها بغيرها، و ادّعوا أنّها معارضة، كقولهم: «إنّا

أعطيناك الجماهر، فصلّ لربّك و بادر، إنّ شانئك لكافر»! و جميع ما حكيناه ضعيف، و أنّه لا تدخل على عاقل به شبهة.

أمّا ما ذكروه أوّلا من التعلّق بكلام مسيلمة فجميع العقلاء- فضلا عن الفصحاء- يعلمون بعد ما حكي من كلامه عن الفصاحة، بل عن السّداد و صحّة المعاني، و أنّه لا حظّ له من الفصاحة و لا نصيب من الاستقامة، حتّى أنّهم ينسبون من يستحسن إظهار مثله عن نفسه إلى الغباء و الجنون، و يقيمونه مقام من يسخر منه و يهزأ به؛ فكيف يسوّي عاقل بين ما جرى هذا المجرى و بين أفصح الكلام و أبلغه و أصحّه معاني و أكثره فوائد؟! و قد كان غير مسيلمة من وجوه الفصحاء و أعيان الشّعراء، على الكلام الفصيح أقدر، و به أبصر و أخبر؛ فلو كانت معارضة القرآن ممكنة و غير ممنوعة «4» لكان القوم إليها أسبق، و بها أولى.

و أمّا ما ذكر [و] ه ثانيا: من فعل النّضر بن الحارث فتمويهه بما فعله غير خاف على أحد؛ لأنّ التحدّي إنّما كان بأن يأتوا بمثله في فصاحته و نظمه، لا في طريقة

______________________________

(1) في الأصل: بعينه، و المناسب ما أثبتناه.

(2) هو الوليد بن المغيرة.

(3) سورة الإسراء: 90.

(4) في الأصل: ممنوع، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 298

القصص و الأخبار. و كيف يظنّ ذلك و الاقتصار وقع في التحدّي على سورة من جملة الكتاب، و ليس كلّ سورة تتضمّن أخبار الأمم الماضية؟

و دعاؤه عليه السّلام أيضا لهم إلى أن يأتوا بعشر سور مفتريات يدلّ على أنّه لا اعتبار في التحدّي بما تضمّنه القرآن من أخبار الأمم، و أنّه وقع بما لا فرق بين الافتراء

و الصّدق.

على أنّا لم نجد أحدا من القوم احتجّ بفعل النّضر و حاجّ بمعارضته، و لا ذكره في شي ء من الأحوال على اختلافها. و لم يكن هذا إلّا لعلمهم بتمويهه، و أنّه لا حجّة فيما صنعه و لا شبهة. و قد كان أيضا نفر من فصحاء قريش و غير قريش- ممّن انتهت حاله إمّا إلى الانقياد و الاستجابة و البصيرة، أو إلى القتل و تلف النّفوس و الأهل و المال- على مثل ما فعله أقدر، فلو علموا فيه حجّة أو شبهة لبادروا إليه.

و أمّا ما ذكروه ثالثا: من الحكاية عن أبي حذيفة بن المغيرة فإنّما حكى اللّه تعالى معنى كلامه لفظه بعينه، و على هذا الوجه حكى تعالى في القرآن كثيرا من أقوال الأمم الماضية، و إن كنّا نعلم أنّ لغاتهم مخالفة للّغة العرب، و هكذا يحكي العربيّ عن الأعجميّ، و الفصيح عن الألكن.

و لو كان ما تضمّنه القرآن حكاية لفظه بعينه على ترتيبه و نظامه، لوجب أن يحتجّ به العرب، و يتنبّهوا على حصول المعارضة، بل تناقض القرآن؛ لأنّه كان يتضمّن على هذه الدّعوى، الشّهادة بأنّ معارضة سورة ممّن عارضة غير ممكنة، و الشّهادة بأنّها قد بانت ممّن وقعت الحكاية عنه. و ما يدّعي أحد من القرآن مثل هذه المعارضة «1».

______________________________

(1) في الأصل: المفاوضة، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 299

و أمّا ما ذكروه رابعا فهو نفس القرآن، و إنّما غيّرت منه كلمة بعد أخرى، فليس هكذا تكون المعارضة؛ لأنّ القول بذلك يؤدّي إلى أن يكون جميع اللّكن و المعجمين متمكّنين في معارضة سائر الفصحاء و الشّعراء؛ لأنّا نعلم أنّ هذا الضّرب من المعارضة لا يتعذّر عليهم.

و ما تجري

هذه المعارضة إلّا مجرى من عمد إلى بعض القصائد فغيّر قوافيها فقط، و ترك باقي ألفاظها على حاله و ادّعى أنّه قد عارضها، أو غيّر من كتاب مصنّف فاتحته و خاتمته، فأورد جميعه على ترتيبه، ثمّ ادّعى مثل ذلك! على أنّا قد بيّنا أنّ من تقدّم من العرب الفصحاء الّذين أهمّهم هذا الأمر و كرثهم كانوا بهذه الأمور أقوم و أعرف، و لم يتركوا التعرّض لها إلّا لعلمهم بأنّه لا طائل فيها.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 301

فصل في أنّ معارضة القرآن لم تقع لتعذّرها

آكد ما يدلّ على أنّ الفعل متعذّر على الفاعل ألّا يقع منه، مع توفّر دواعيه إليه.

و على هذه الطريقة يعتمد في أنّ الألوان و ما جرى مجراها من الأجناس غير مقدورة لنا، و في الفصل بين القادر و من ليس بقادر، و العالم و من ليس بعالم؛ لأنّ دواعي أحدنا إذا قوي إلى جنس الفعل فلم يقع حكمنا بتعذّره:

فان كان تعذّره مع ارتفاع سائر الموانع، حكمنا بأنّه غير مقدور لمن تعذّر عليه.

و إن كان هناك مانع، لم يدلّ التعذّر على ارتفاع القدرة، بل جوّزنا أن يكون تعذّره للمانع مع كونه مقدورا.

و إن كان الّذي تعذّر هو وقوع الفعل على بعض الوجوه دون جنسه، نظرنا أيضا، فإن تعذّر مع كمال الآلات و ارتفاع الموانع، حكمنا بأنّ تعذّره لارتفاع العلم، و إلّا جوّزنا أن يكون التعذّر لبعض الموانع، أو لفقد بعض الآلات، مع كون من تعذّر عليه عالما، فمن قدح في هذه الطّريقة لم يمكنه أن يعلم شيئا ممّا ذكرناه.

و إذا صحّت هذه الجملة، و وجدنا العرب الّذين تحدّوا بالقرآن لم يعارضوه- مع توفّر دواعيهم إلى المعارضة و كثرة بواعثهم عليها، و مع أنّهم لم يعارضوا عدلوا

الموضح

عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 302

إلى أمور يشقّ فعلها، و يثقل تحمّلها، كالحرب و ما في معناها ممّا لا يصلون به، و إن تناهوا فيه، إلى غرضهم على الحقيقة- وجب القطع على تعذّر المعارضة، و صار عدولهم إلى الأمر الشّاقّ المتعب الّذي لا يوصل إلى المراد مع تركهم السّهل (الذي لا كلفة [فيه] و هو موصل إلى المراد) «1» موردا لدلالة التعذّر، موضحا لطريقها.

و إن كان انصرافهم عن المعارضة- مع توفّر الدّواعي- كافيا في العلم بتعذّرها لو لم يتجشّموا، مع الانصراف عنها فعلا شاقّا، و جرى ذلك مجرى من له غرض يصل إليه بفعل لا كلفة عليه فيه و لا مشقّة، فعدل عنه إلى تكلّف ما يشقّ و يتعب و لا يوصل إلى الغرض المطلوب، مع ارتفاع الشّبهة عنه في الأمرين. و لا شكّ في أنّ من هذه حاله يجب القطع على أنّ ما به يصل إلى غرضه متعذّر عليه.

و اعلم أنّ جميع ما يورده المخالفون من الشّبه في هذا الباب يرجع إلى أصل واحد و إن كثرت، و هو القدح في توفّر الدّواعي إلى المعارضة.

و أنت متى تأمّلت ما يتعلّقون به من الشّبه وجدته لا يخرج عمّا ذكرناه؛ لأنّهم ربّما نازعوا في أصل ما ادّعيناه من قوّة الدّواعي إلى المعارضة، و قالوا: من أين لكم أنّ الأمر على ما ادّعيتموه؟ و طالبوا بالدّلالة عليه على سبيل الجملة.

و ربّما قالوا: جوّزوا أن يدخل على القوم في ذلك شبهة من غير تعيين لها؛ فإنّهم لم يكونوا من أهل الجدل و النّظر، و لو كانوا أيضا من أهلها كان دخول الشّبهات عليهم ممكنا غير ممتنع، لأنّه لا سبيل لكم إلى ادّعاء معرفة ضروريّة تعمّ العقلاء

بأنّ المعارضة أولى من غيرها. و إذ كان المرجع إلى الاستدلال، جاز دخول الشّبه فيه.

______________________________

(1) وردت هذه العبارة في الأصل بعد قوله السابق: لا يوصل إلى المراد، و قد وضعناها في سياقها المناسب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 303

و ربّما عيّنوا الشّبهة الّتي يدّعون دخولها على القوم و أشاروا إليها، فقالوا:

لعلّهم اعتقدوا أنّ المعارضة لا تبلغ في قطع المادّة و حسم الأمر مبلغ الحرب، فعدلوا إلى الحرب، لأنّها سبب الرّاحة.

و ربّما قالوا: لا يمنع أن يكونوا عدلوا عن المعارضة ظنّا منهم بأنّ الخلاف يقع فيها، و يتنازع النّاس أمرها «1»، فيقول قوم: قد أصيب بها موضعها، و يأبى ذلك آخرون، و يتردّد فيها من الكلام و الخوض ما تشتدّ معه الشّوكة، و تقوى العدّة، و يقضي الأمر إلى الحرب، فقدّموها.

و ربّما قالوا: لعلّ المثل الّذي دعاهم إلى الإتيان به أشكل عليهم، و لم يعلموا هل المراد به المماثلة في الفصاحة، أو في التكلّم، أو فيهما، أو في الإخبار عن الغيوب؟ فعدلوا عن المعارضة لهذا الإشكال إلى الحرب.

و ربّما قالوا: جوّزوا أن يكونوا تركوا المعارضة، لأنّهم علموا فضل المأثور من كلامهم و أشعارهم على ما أتى به في الفصاحة و البلاغة، و ظهور ذلك للفصحاء على وجه لا يقع فيه إشكال.

و رأوا أنّ تكلّف المعارضة- مع ظهور الحال- لا معنى له، كما يفعل الحصفاء «2» بمن يتحدّاهم و يقرّعهم بالعجز عن المشي و التّصرّف في حال مشيهم و تصرّفهم؛ فإنّهم لا يكادون يستعملون مع من هذه حاله شيئا من المحاجّة و المواقفة، بل يكون الإمساك عنه أحرى ما عومل به.

و ربّما قالوا: لعلّ الّذين كانوا يتمكّنون من معارضته جماعة من جملة العرب واطأته على

إظهار المعجز، لتشاركه فيما يتمّ له.

و ليس تخرج هذه الشّبهة أيضا عمّا حصرناه من الأصل و قلنا: إنّ مرجع

______________________________

(1) في الأصل: أمرهما، و المناسب ما أثبتناه.

(2) الحصيف: الرجل المحكم العقل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 304

الشّبهة في هذا الباب إليه؛ لأنّ المعترض بها كأنّه يقول: إنّ القوم المتمكّنين من المعارضة انصرفوا عنها للغرض الّذي ذكره. فهو مخالف لطريقة ثبوت الدّواعي، و إنّما ذكرنا هذه لئلّا يظنّ ظانّ خلافه.

و إنّما لم نذكر ما لا يزالون يتعلّقون به من قولهم: لعلّه عليه السّلام تعمّل للقرآن دهرا طويلا، فتأتّى منه ما لم يتأتّ منهم، أو لأنّه كان أفصحهم.

و لم نذكر أيضا ما يتعلّقون به و يجعلونه كالمانع من فعل المعارضة، مثل قولهم: إنّه بدأهم بالحرب، و شغلهم بها عن المعارضة، و قولهم: إنّهم امتنعوا منها لخوفهم من أوليائه و أنصاره؛ لأنّ هذا من قائليه اعتراف بتعذّر المعارضة، و هو الّذي قصدناه بهذا الفصل.

و إن كان مع اعترافه بالتعذّر قد ادّعى دخوله فيما جرت «1» العادة بمثله، و بطلان ذلك يأتي في فصل منفرد من بعد، بمشيئة اللّه تعالى. و نحن الآن نجيب عمّا أوردناه شيئا فشيئا.

أمّا الجواب عمّا ذكرناه أوّلا من المنازعة في حصول الدّواعي إلى المعارضة و توفّرها: فواضح أنّا قد علمنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استنزل العرب عن رياستهم و عاداتهم و عباداتهم، و أوجب عليهم كلفا تتعب نفوسهم و أجسامهم، و حقوقا تثلم أموالهم و أحوالهم، و طالبهم بأن يقطع الرّجل منهم في الدّين نسبه و رحمه، بل يبرأ منهما و يجاهدهما و يتربّص إيقاع غاية المكروه بهما، إلى غير ما ذكرناه ممّا يزعج يسيره النّفوس، و يهيج الطّباع،

و تبلغ الدّواعي في دفعه و طلب الخلاص منه إلى حدّ الإلجاء.

هذا، لو لم يصب هذه الأمور الّتي عددناها من القوم فضل حميّة و إباء، و عزّ

______________________________

(1) في الأصل: جرت به، و هو غير مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 305

جانب و أنف، و قلّة احتمال للضّيم، و امتناعا من إعطاء المقادة؛ فكيف بها و قد وردت منهم على ما هو الغاية فيما وصفناه؟ لا شكّ في أنّها تبلغ في إثارتهم و بعثهم ما لا يبلغه في غيرهم، لما هم عليه من المزيّة، و عندهم من فرط الحميّة! و إذا ثبت بما ذكرناه قوّة دواعيهم إلى دفع أمره، و إبطال حجّته، و حلّ عقدته- و كان المؤثّر في ذلك على الحقيقة هو المعارضة دون غيرها- وجب أن تكون الدّواعي إليها متوفّرة، و صار ما دعاهم إلى دفع قوله و نسخ أمره يدعوهم إلى المعارضة بعينها.

يبيّن ذلك: أنّه عليه و آله السّلام لمّا ظهر فيهم ادّعى الإبانة منهم بالنبوّة لا بالملك و الدّولة، و جعل حجّته على صدقه و وجوب اتّباعه، امتناع المعارضة عليهم؛ فلا محالة أنّ الدّاعي للقوم إلى ردّ حجّته و إبطال قوله هو بعينه داع إلى فعل المعارضة؛ لأنّه عليه السّلام إنّما احتجّ بامتناعها و ادّعى الإبانة من جهة تعذّرها، فلا شبهة في أنّها لو كانت ممكنة لما جاز العدول عنها.

على أنّه لا حاجة بنا إلى الاستدلال على توفّر دواعي القوم إلى إبطال أمره و تفريق جمعه، لظهور ذلك و علم العقلاء السّامعين للأخبار به اضطرارا؛ لأنّه ظهر من القوم من الاجتهاد في محاربته و مغالبته، و ركوب الأخطار، و تحمّل الأثقال، و التّغرير بالنّفوس و الأموال، إلى غير هذا

من التغلغل إلى صنوف الحيل و ضروب المكائد، و استعمال ما لا تأثير له و لا شبهة في مثله، كالسّبّ و الهجاء، و إحضار أخبار الفرس، و ادّعاء المعارضة بها، ما يضطرّ العقلاء إلى قوّة حرصهم على دفاع أمره، و أنّه لم يظهر منهم ما ظهر إلّا لفرط الاهتمام، و أنّ الأمر قد برّح بهم «1» و أحرجهم، و أخذ بمخنقهم!

______________________________

(1) أي اشتدّ عليهم الأمر و عظم.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 306

و إذا كنّا قد بيّنا أنّ الدّاعي إلى كلّ هذه الأمور هو الدّاعي إلى المعارضة، بل ليس يصحّ أن يكون داعيا إلى شي ء منها إلّا بعد عوز المعارضة و تعذّرها؛ لأنّ الغرض من المطلوب بها يقع دون غيرها؛ فقد تمّ ما أوردناه.

و الجواب عمّا ذكرناه ثانيا: إنّ القوم و إن لم يكونوا من أهل النّظر و الجدل؛ فليس يجوز أن تدخل عليهم شبهة لا يجوز دخول مثلها على أحد من العقلاء، بل على من نقص عن مرتبة العقلاء من الصّبيان؛ لأنّه لا أحد من النّاس قرّع بفعل من الأفعال و ادّعي عجزه عنه، إلّا و هو يفزع إلى فعله إذا كان ممكنا.

و لا يجوز أن يشتبه ذلك عليه، حتّى يظنّ أنّ العدول إلى غير الفعل أولى، و لهذا نجد الصّبيان متى «1» تحدّى بعضهم بعضا برمي غرض أو طفر نهر، فإنّ المتحدّى يبادر إلى فعل ما تحدّي به إذا كان ممكنا. و لا يصحّ أن يصرفه عنه صارف مع الإمكان.

و ما يكون العلم به ضروريّا متقرّرا في كلّ العقول- وافرها و ناقصها- لا يجوز أن يشكل على العرب- مع وفور عقولهم و حلومهم، و إن لم يكونوا من أهل الجدل و

النّظر- على أنّ القوم قد اختصموا في هذا الباب بما لا يسوغ معه دخول الشّبهة عليهم فيه لو ساغ؛ فعوّلوا على غيره؛ لأنّ عادتهم جارية بالتّحدّي بالشّعر و التّعارض فيه، و التّحاكم إلى الحكّام في تفضيل بعضه على بعض. و لم نجد أحدا منهم- في سالف و لا آنف- فزع عند تحدّي خصمه له بالقصيدة من الشّعر، إلى سبّه و حربه! بل إلى معارضته بما يمكنه من الشّعر. و هذه عادة القوم مستقرّة مستمرّة، لم تتخرّم في وقت من الأوقات؛ فكيف عدلوا في باب القرآن عن عادتهم و طريقتهم لو لا أنّ معارضته متعذّرة و غير ممكنة؟!

______________________________

(1) في الأصل: من، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 307

على أنّ الشّبهة الّتي تدّعي دخولها على القوم لا تخلو من أن تكون في أنّهم متمكّنون من المعارضة، أو في أنّ حجّته عليه و آله السّلام تسقط بفعلها.

و ليس يجوز أن يدخل عليهم في الأمرين شبهة؛ لأنّهم يعملون قدر ما في إمكانهم «1» من الكلام الفصيح، و يفرّقون بينه و بين ما ليس في وسعهم منه.

و لو أشكل هذا على كلّ أحد لم يجز أن يشكل عليهم، و هم الغاية و القدوة في هذه المعرفة.

و لو فرضنا أنّ الأمر اشتبه عليهم- على بعده- لوجب أن يجرّبوا نفوسهم و يتعاطوا المعارضة، ليعلموا حقيقة حالهم، و لم يجز أن يعدلوا إلى غير ذلك ممّا لا تأثير له، مع طمعهم في تأتّي المعارضة.

فأمّا الوجه الثاني: فبعيد من دخول الشّبهة أيضا فيه؛ لأنّهم لا يصحّ أن يشكّوا في أنّ بالمعارضة تسقط عنه الحجّة فتزول التبعة إلّا و هم شاكّون في كيفيّة التّحدّي و الاحتجاج.

و إذا كان لا شبهة

على القوم في ذلك بما تقدّم بيانه- و لأنّه عليه و آله السّلام كان مصرّحا بالاحتجاج بتعذّر المعارضة، و جاعلا امتناعها دليل نبوّته و العلم على صدقه- فقد بطل قول من تعلّق بدخول الشّبهة على القوم، من حيث بيّنا أنّه لا وجه يصحّ أن تدخل منه.

و الجواب عمّا ذكرناه ثالثا: إنّ اعتقادهم في المعارضة أنّها لا تبلغ مبلغ الحرب، لا يخلو أن يكون اعتقادا؛ لأنّها لا تبلغ مبلغها في سقوط الحجّة و حصول الغرض المطلوب، أو في الرّاحة و الاستيصال.

و محال أن يعتقدوا الأوّل؛ لأنّا قد بيّنا أنّ ذلك ممّا لا يدخل فيه شبهة، و كيف

______________________________

(1) في الأصل: أماكنهم، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 308

يصحّ دخولها فيه و هو عليه و آله السّلام مصرّح بأنّني إنّما بنت منكم بامتناع معارضتي عليكم، و أنّكم متى أتيتم بمثل ما جئت به فلا [حجّة] لي عليكم؟! فليس يصحّ أن يشكّكهم في أنّ بالمعارضة به دون غيرها تثبت حجّتهم، و تسقط دعواه إلّا ما شكّكهم في الضّروريّات [و] أخرجهم عن كمال العقول.

و إن كانوا اعتقدوا القسم الثّاني فهو غير مؤثّر فيما يريده، و لا مقتض للانصراف عن المعارضة؛ لأنّه عليه السّلام لم يتحدّهم بالقهر و الدّولة، و لم يدّع الإبانة منهم؛ فإنّهم لا يتمكّنون من قتاله أو قتله و قتل أصحابه، فتفزّعوا إلى الحرب الّتي هي أبلغ في هذه الأمور، و أنّ ما تحدّاهم عليه و آله السّلام بما ذكرناه ممّا لا يؤثّر فيه.

و لو انتهوا فيها إلى غاية ما في نفوسهم من قتله عليه و آله السّلام و قتل أصحابه، و استئصال أنصاره، لم يدلّ ذلك على سقوط حجّته عنهم، و لا

شكّ العقلاء في أنّهم هم المقهورون بالحجّة، و إن قهروا بالدّولة؛ لأنّ المحقّ جائز أن يغلب، كما أنّ المبطل جائز أن يغلب. و العقلاء لا يختارون لأنفسهم الدّخول فيما يكون الحجّة فيه عليهم مع مشقّته «1»، و يعدلون عمّا تكون الحجّة فيه لهم مع سهولته.

هذا، مع أنّهم في استعمال الحرب على خطب؛ لأنّهم غير واثقين بالظّفر الّذي قد بيّنا إذا انحصل لم يكن فيه حجّة.

و ليس هم في استعمال المعارضة على شي ء من الخطر، مع ثقتهم بأنّ حجّتهم بها تثبت، و دعوى خصمهم عندها تسقط.

على أنّهم لو بدءوا بالمعارضة قبل الحرب لكانوا بين أمرين:

______________________________

(1) في الأصل: مشقة، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 309

إمّا أن يتفرّق جمع عدوّهم، و تزول الشّبه في أمره، فتحصل الرّاحة من أجمل الطّرق و أقربها. أو أن يقيم قوم معه على العناد و الخلاف، فيستعمل حينئذ الحرب في موضعها، و بعد الإعذار و إقامة الحجّة.

(و لو أنّهم لمّا لم يبتدءوا بالمعارضة، إقامة الحجّة بالحرب حسم المادّة) «1» و بلوغ الغاية، لكان ذلك أولى و أشبه باختيار العقلاء، ممّا يدّعيه مخالفونا من إعراضهم عن المعارضة جملة مع الإمكان.

و بعد، فقد كان يجب إن كان انصرافهم عن المعارضة إلى الحرب للوجه الّذي ذكر- لمّا جرّبوا الحرب مرّة بعد أخرى و علموا أنّها لم تفض إلى مرادهم، و أنّ آمالهم فيها لم تنجح، بل كانت عليهم لا لهم- أن يرجعوا إلى المعارضة؛ لأنّ الشّبهة الصّارفة عنها قد زالت.

على أنّ الحرب إنّما صاروا إليها بعد الهجرة، و بعد مضيّ ثلاث عشرة سنة؛ فإن كان «2» عليه عدولهم عن المعارضة إلى ما قالوه فألّا فعلوها في السّنين المتقدّمة للحرب!

فكيف عدلوا عنها في ذلك الزّمان و هم لم يهمّوا بعد بالحرب و لا خرجوا إليها؟ الموضح عن جهة إعجاز القرآن النص 309 فصل في أن معارضة القرآن لم تقع لتعذرها

قول قائل: إنّهم آثروها لما ادّعي من قطع المادّة.

و كيف أمسكوا في تلك الأحوال عن المعارضة و الحرب معا، و عدلوا إلى «3» السّفه و القذف و الهجاء و السّبّ و ما لا تدخل على عاقل شبهة في أنّه لا يؤثّر على المعارضة مع إمكانها؟

و بعد، فكيف ارتكب القوم في باب القرآن خاصّة ما لم تجر عادتهم بارتكابه،

______________________________

(1) كذا في الأصل، و في العبارة اضطراب بيّن.

(2) في الأصل: كانت، و المناسب ما أثبتناه.

(3) في الأصل: على، و ما أثبتناه هو المناسب.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 310

بل ما لم تجر عادة العقلاء- و لا الصّبيان- بمثله؟! لأنّا قد بيّنا أنّ جميع من يتحدّى و يقرّع بالعجز عن بعض الأمور لا يجوز أن يفزع في المخرج منه إلّا إلى فعله، إذا كان ممكنا، و أنّ عدوله عنه مع ارتفاع الموانع دليل على تعذّره و قصوره عنه. و أشرنا إلى عادات جميع النّاس في هذا الباب، و إن كنّا قد بيّنا أنّ للعرب في ذلك فضل مزيّة، لاختصاصهم بعادة التّحدّي بالشّعر و ما جرى مجراه و التّفاخر فيه، و أنّ أحدا منهم لم يعدل عنه عند تقريع نظير «1» له، و تحدّيه بقصيدة من الشّعر إلى حربه و قتاله، و لا فعل ذلك و اعتذر منه بمثل ما اعتذر به في ترك معارضة القرآن.

و الجواب عمّا ذكرناه رابعا: إنّا قد بيّنا أنّ التّحدّي وقع بفعل ما يقارب القرآن و يدانيه، لا بما يماثله على التّحقيق،

و لا شي ء أدلّ على مقاربة ما يأتون به القرآن و أشباهه من وقوع الاختلاف بين أهل العلم بالفصاحة فيه؛ لأنّ مثل ذلك لا يكون في البعيد المتفاوت؛ فلو أتوا بما يختلف النّاس فيه هذا الضّرب من الاختلاف، كانوا «2» قد فعلوا ما وجب عليهم، لأنّه لم يتحدّهم إلّا بهذا بعينه، على ما تقدّم بياننا له.

على أنّ ما ذكروه لا يصحّ أن يكون مانعا من فعل المعارضة؛ لأنّ أكثر ما في الأمر أن يكونوا إذا عارضوا اشتبه على قوم فاعتقدوا أنّهم لم يخرجوا عمّا وجب عليهم إذ أظهروا اعتقاد «3» ذلك، عنادا و عصبيّة، و إن كان من عداهم من النّاس جميعا يعتقد خروجهم من الواجب، و وقوع معارضتهم موقعها.

و العاقل لا يختار أن يكون عند جميع العقلاء ملوما محجوجا مشهودا عليه

______________________________

(1) في الأصل: تقريع نظر، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و كانوا، و ما أثبتناه هو المناسب.

(3) في الأصل: اعتقادا، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 311

بالعجز و القصور؛ خوفا من أن يشتبه على بعضهم أمره؛ لأنّ ما خافوه من بعضهم- من ظنّ العجز بهم على طريق- قد لحقهم من جميعهم بالحجّة؛ فكأنّهم خافوا أمرا يجوز أن يقع و ألّا يقع، ففعلوا ما يقطعون معه على وقوعه بعينه، و زيادة عليه.

و بعد، فقد بيّنا أنّ عدول من يتحدّى بفعل من الأفعال عنه دليل على تعذّره عليه، و أنّه لا يعذره عند أحد من العقلاء أن يقول: إنّما تركت الإتيان بما دعيت إليه خوفا من أن يشتبه الأمر فيه، و يظنّ بعض النّاس أنّني ما خرجت من الواجب.

و الجواب عمّا ذكرناه خامسا: إنّه قد بيّنا في صدر هذا الكتاب

أنّ المثل الّذي دعاهم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الإتيان به لا بدّ أن يكون مفهوما عندهم، و أنّ الشّكّ لو اعترضهم فيه لاستفهموه، لا سيّما مع تطاول زمان التحدّي و تماديه.

و ذكرنا أنّ القوم قد استعملوا من ضروب الإعنات و صنوف الاقتراحات، ما كان أيسر منه و أولى أن يستفهموه عن كيفيّة ما دعاهم إلى فعله، و أنّهم لم يعدلوا عن الاستفهام إلّا بحصول العلم، كما أنّهم لم يعدلوا عن المعارضة إلّا للتعذّر.

على أنّ القرآن إذا لم يكن معجزا و لا ممنوعا من معارضته، فمماثلته من جميع وجوهه ممكنة غير متعذّرة، فقد كان يجب لو شكّوا أن يعارضوا بما يقدرون عليه؛ فإنّه ليس يصحّ إذا فرضنا ارتفاع الإعجاز أن نقيس مراده بالمثل بشي ء يخرج عن إمكانهم.

و الجواب عمّا ذكرناه سادسا: إنّ هذه الشّبهة أوّلا، إنّما يصحّ أن ترد «1» على مذهب من يرى أنّ العادة انخرقت بفصاحة القرآن، و أنّ جهة إعجازه هي الفصاحة؛ فأمّا على مذهبنا في الصّرفة فلا وجه للتّعلّق بها؛ لأنّ الأمر لو كان على ما قالوه من زيادة المأثور من كلام العرب و شعرها على القرآن في الفصاحة

______________________________

(1) في الأصل: يزداد، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 312

و وضوح العلم بالتّفاوت بينهما- و ليس كذلك على الحقيقة- لما أخلّ بصحّة مذهبنا في الأعجاز؛ لأنّ التّحدّي عندنا إنّما وقع بالصّرف عن أن يتسابقوا معارضة له، تشابهه في الفصاحة و طريقة النّظم، و ذلك لمّا لم يكن فلا معتبر بما تقدّم من كلامهم، لو وجد فيه ما يزيد على القرآن في الفصاحة أو يساويه.

أ لا ترى أنّه عليه السّلام لو جعل دليل نبوّته امتناع الحركة

عليهم في وقت مخصوص لم يكن ما تقدّم من حركاتهم و تصرّفهم على اختيارهم حجّة عليه؟! على أنّ الأمر في القرآن بخلاف ما ظنّوه؛ لأنّ جميع الفصحاء و كلّ من له أدنى علم بهذا الشأن يعلم علوّ مرتبة القرآن في الفصاحة، و أنّه أفصح الكلام و أبلغه.

و إنّما يقع الشّكّ و يحتاج إلى الاستدلال في أنّ هذه المباينة هل انتهت إلى خرق العادة أم لا؟

و هم إن لم يفرّقوا بين مواضع منه و بين فصيح كلام العرب- على ما تقدّم ذكره- فليس ذلك بنافع في هذه الشّبهة؛ لأنّهم يعلمون فضل أكثره و جمهوره على كلّ كلام، و يظهر لهم منه ما يحيّرهم.

و ما لم تظهر فصاحته «1» لهم من جملته هذا الظّهور، لم ينته عندهم إلى حدّ يطرح معه قول المحتجّ به، و يقول فيه «2» على حصول العلم و زوال الشّكّ. و مثل هذه الشّبهة لا يتشاغل بها محصّل.

على أنّ العقلاء إنّما يستحسنون الإعراض عمّن يتحدّاهم بما يكون الأمر فيه ظاهرا معلوما متى أمنوا اعتراض الشّكوك و الشّبهات في تلك الحال، و قطعوا على أنّها لا تعقب فسادا، و لا يحصل لها شي ء من التأثير. فأمّا إذا انتهت الحال إلى

______________________________

(1) في الأصل: فصاحة، و الظاهر ما أثبتناه.

(2) كذا في الأصل.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 313

بعض ما انتهت إليه حال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، من القوّة و الظّهور، و كثرة المستجيبين، و تظاهر الأعوان و الأنصار، و التمكّن من الأعداء، و بلوغ المراد فيهم؛ فإنّ أحدا من العقلاء لا يعدّ الإمساك عن الاحتجاج و المعارضة هاهنا حزما، بل غاية الجهل و نهاية العجز؛ فقد كان يجب أن يكونوا كفّوا عن

المعارضة ابتداء، للعلّة الّتي ذكرت أن يسابقوها «1» عند بلوغ الأمر المبلغ الّذي ذكرناه.

و بعد، فإنّ من يطّرح قوله و يعرض عن محاجّته و مواقفته- اعتقادا لظهور أمره، و أنّ الشّبهة لا تعترض في مثله- لا يحارب و لا يغالب، و لا تعمل الأفكار في نصب المكائد له و إيقاع الحيل عليه، و لا يعارض بما لا شبهة في مثله، و لا يقال له: لو شئنا [لقلنا] مثل قولك ف ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «2»، و لا تقترح عليه الآيات، و لا تبذل الأموال لمن يهجوه و يقذفه؛ لأنّ كلّ شي ء من هذه الأمور يدلّ على غاية الاهتمام، و نهاية الحرص.

و كيف يعتقد عاقل أنّ ترك المعارضة كان على سبيل الاطّراح و قلّة الاكتراث، كما يستعمل مع الأغبياء و المجّان، و من لا تأثير لفعله و قوله؟! و الجواب عمّا ذكرناه سابعا: إنّا لو سلّمنا جواز ما ظنّوه من مواطأة جماعة له على إظهار المعجز، و فرضنا أيضا أنّ هذه الجماعة كانت أفصح العرب، لم يكن ذلك بنافع لخصومنا في ردّ استدلالنا بالقرآن؛ لأنّ غير هذه الجماعة ممّن لم يواطئ قد كان يجب أن يعارض بما يقدر عليه و يتمكّن منه؛ فإنّ هذه الجماعة- و إن فرضنا أنّها أفصح- فليس يجوز أن يبعد كلامها من كلام من كان دونها في الفصاحة البعد التامّ، حتّى لا يكون فيه ما يقاربه و يشابهه. بهذا جرت العادات في التّفاضل في جميع الصّنائع، و قد بيّنا أنّ إتيانهم بما يقارب و يداني كاف في إقامة الحجّة؛

______________________________

(1) كذا في الأصل.

(2) سورة يونس: 15.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 314

لأنّهم بذلك تحدّوا و إليه دعوا.

على أنّ من

تأمّل الأمر حقّ تأمّله وجده بخلاف ما ظنّوه؛ لأنّ وجوه الشّعراء و أعيان الفصحاء كانوا من غير جملة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من غير رهطه، و إن اختلف الحال بهم:

فمنهم «1» من مات على كفره و انحرافه، كالأعشى و هو في الطّبقة الأولى، و غيره ممّن لم نذكره.

و منهم من دخل في الإسلام بعد أن كان على نهاية العداوة و الخلاف على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و السّعي عليه، و القدح في أمره، ككعب بن زهير- و هو في الطبقة الثانية- و من جرى مجراه؛ فإنّ كعبا أسلم بعد أن كان أشدّ النّاس عداوة للرّسول عليه و آله السّلام، حتّى أباح عليه السّلام دمه و توعّده.

و منهم من كان إسلامه و اتّباعه بعد زمان، و بعد أن كان الخلاف منه معلوما و إن لم ينته إلى حال كعب، ثمّ إنّه لمّا دخل في الإسلام لم يحظ فيه من المنزلة و الاختصاص و المشاركة بما يظنّ معه المواطأة، كلبيد بن ربيعة، و النّابغة الجعديّ، و هما في الطّبقة الثالثة، و من ماثلهما.

و لو ذكرنا أعيان شعراء قريش و غير قريش من الأوس و الخزرج و غيرهم من المجوّدين في ذلك العصر و فصحاءهم و خطباءهم، و من مات منهم على شركه و كفره، و من أظهر الإسلام بعد العداوة الشّديدة و الخلاف القويّ لاطلنا، و من أراد معرفة ذلك أخذه من مواضعه.

و بعد، فإنّ المتقدّمين في صنعة من الصّنائع أو علم من العلوم، لا يجوز أن يخفى حالهم على أهل ذلك الشّأن؛ فقد كان يجب إذا كان الفضل في الفصاحة-

______________________________

(1) في الأصل: فيهم، و السياق يقتضي ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز

القرآن، النص، ص: 315

منتهيا إلى جماعة بعينها- أن تكون معروفة عند الفصحاء، و كان يجب أن يفزعوا إليهم في فعل المعارضة و يطالبوهم بها، فمتى امتنعوا عليهم و دافعوا بفعلها، علموا أنّهم مواطئون موافقون، و لم يمسكوا عن مواقفتهم و مواقفته صلّى اللّه عليه و آله على ذلك و إعلامه أنّه لا حجّة عليهم فيما أظهره، لا سيّما إذا انضاف إلى هذا أن يظهر اختصاص هذه الجماعة به و انتفاعهم بأيّامه و مشاركتهم في أمره؛ لأنّ الغرض بإظهار المعجز إذا كان ما ذكرناه فهو إذا وقع لا بدّ أن يظهر، و لا يصحّ أن ينكتم.

على أنّ تجويز ما ذكروه يقتضي دفع طريق العلم بأنّ أحدا من النّاس بان في زمن من الأزمان من أهل عصره في علم من العلوم، أو صنعة من الصّنائع؛ لأنّا لا نأمن على هذا القرآن أن يكون في عصر كلّ فاضل علمنا فضله و اشتهرت عندنا حاله، جماعة يزيدون عليه في الفضل، واطأهم على إظهار العجز عن حاله، و الإمساك عن إظهار مثل ما أظهره، لبعض المنافع! و ليس يؤمن من تجويز ما ذكرناه إلّا ما يؤمن من الأوّل، و يبطل قول المتعلّق به.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 317

فصل في أنّ تعذّر المعارضة كان مخالفا للعادة

إذا ثبت بما قدّمناه تعذّرها فليس يمكن أن يدّعى دخول التّعذّر فيما جرت العادة بمثله، إلّا بأحد الوجوه الّتي ذكرناها، مثل قولهم: إنّه كان أفصحهم، أو تعمّل للقرآن فتأتّى «1» منه ما تعذّر عليهم. أو منعهم عن المعارضة بالحروب. أو امتنعوا منها خوفا من أصحابه و نصّاره، من حيث كانت قوّة الدولة، و اجتماع الكلمة يحسمان و يمنعان من استيفاء الحجج، و التّصرّف فيها عن الاختيار.

و هذا الوجه

الأخير خاصّة يمكن أن يجعل قدحا في ثبوت الدّواعي إلى المعارضة، من حيث كانت هذه الأمور المذكورة- إذا صحّت- غيّرت أحوال الدّواعي، فلحق بالفصل المتقدّم، و إن كان لحوقه بهذا الفصل من حيث أمكن أن يجعل ما ذكر كالمانع من المعارضة.

فإذا أبطلنا هذه الوجوه لم يكن وراءها إلّا أنّ التّعذّر كان على وجه يخالف العادة، و حينئذ يعود الأمر إلى الأقسام الّتي ذكرناها في صدر هذا الكتاب و أبطلناها، عدا القول بالصّرفة منها، و نحن نتكلّم على ما أوردناه من الوجوه:

______________________________

(1) في الأصل: فيأتي، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 318

أمّا تعلّقهم بأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أفصحهم، فيسقط من وجوه:

أوّلها: إنّ كونه أفصحهم لا يمنع من أن يقارب كلامهم كلامه مقاربة قد جرت بمثلها العادة؛ لأنّه ليس يصحّ في العادة أن يتقدّم أحد في شي ء من الصّنائع حتّى لا يقاربه فيها غيره، بل لا بدّ- و إن انتفت «1» المساواة- من المقاربة. و قد مضى أنّه تحدّاهم بأن يأتوا بما يقاربه لا بما يماثله على التّحقيق؛ فقد كان يجب أن يعارضوا و إن كان أفصحهم.

على أنّا قد بيّنا أنّ التحدّي وقع بالقرآن [من جهة] المعارضة؛ فيعلم أنّهم عنها مصروفون، و أنّه إنّما طالبهم بأن يفعلوا من الكلام ما كان المعلوم من حالهم تمكّنهم منه و أنّه الغالب على كلامهم دون ما تشكل الحال فيه، و ذلك يسقط التعلّق بكونه أفصحهم؛ لأنّه لم يطالبهم إلّا بما يعهدون و يعرفون من الفصاحة على طريقتنا.

و ثانيها: إنّ الأفصح و إن امتنعت مساواته من جميع كلامه؛ فإنّ مساواته في البعض غير ممتنعة، بهذا جرت العادات.

أ لا ترى أنّ من كان في

الطّبقة الأولى من الشّعراء- و إن كانوا قد بانوا من سائر أهل الطّبقات و تقدّموهم في الفصاحة- فإنّه لا بدّ أن يكون في كلام من تأخّر عنهم ما يساوي كلامهم بل ربّما زاد عليه، و لهذا نجد كثيرا من المحدثين يساوون [شعراء] الجاهليّة و يماثلونهم في مواضع كثيرة من كلامهم- و إن كان المتقدّمون يفضلونهم في جملة كلامهم و عمومه- فقد كان إذا كان التّحدّي وقع بسورة من عرضه، و إن قصرت، أن يعارض و لا يمنع التقدّم في الفصاحة من معارضته.

و ثالثها: إنّ هذا لو كان جائزا لكان القوم الّذين تحدّوا بالقرآن فعجزوا عن معارضته، إليه أهدى و به أعلم؛ فكان يجب أن يواقفوه على ذلك و يحتجّوا به،

______________________________

(1) في الأصل: و ارتفعت، و لا معنى لها هنا، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 319

و يقولوا له: و ما في تعذّر معارضتك ممّا يدلّ على نبوّتك، و أنت إنّما أمكنك الإتيان بما تعذّر علينا لفرط فصاحتك لا لمكان نبوّتك، و ما تقدّمك في هذا الباب إلّا كتقدّم فلان و فلان في كذا و كذا من لا حجّة في تقدّمه، و لا نبوّة له، و لا عادة انخرقت على يده! و في إمساكهم عن هذا- مع أنّ مثله لا يذهب عليهم- دليل على أنّ الأمر بخلافه.

ليس لهم أن يقولوا: إنّما لم يقرّوا له بالفصاحة و التّقدم فيها للأنفة الّتي كانت طريقتهم و عادتهم؛ لأنّهم إنّما يأنفون من الاعتراف بمثل ذلك في الموضع الّذي يقتضي الاعتراف به نقصا يلحقهم «1»، و ضررا يدخل عليهم، و شهادة لخصمهم بما يعظّم أمره و ينوّه باسمه.

و ليس هذه حال الاعتراف بما ذكرناه في القرآن؛

لأنّهم إذا اعترفوا بذلك و وافقوا عليه، كان فيه تكذيب للمحتجّ عليهم، و صرف الوجوه عنه، و إزالة الشّبهة في أمره، و الخلاص ممّا ألزمهم الدّخول فيه.

فأيّ نقص و ضرر يدخل بهذا الاعتراف؟ و هل النّقص «2» الشّديد و الضّرر الحقيقيّ إلّا في الإمساك عن المواقفة «3» و الصّبر على المذلّة؟

و لو كان يلحقهم بالاعتراف بعض العار لكان ما يثمره هذا الاعتراف من وجوه المنافع و يصرفه من «4» ضروب المضارّ و صنوف الصّغار «5»، يوفي عليه و يلجئ إلى المبادرة إلى فعله.

______________________________

(1) في الأصل: بغصا و يلحقهم، و المناسب ما أثبتناه.

(2) في الأصل: و على البغض، و الظاهر ما أثبتناه.

(3) في الأصل: الموافقة، و ما أثبتناه مناسب للسياق.

(4) في الأصل: عن، و المناسب ما أثبتناه.

(5) الصّغار: الضّيم و الذّل و الهوان، سمّي بذلك لأنّه يصغّر إلى الإنسان نفسه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 320

و رابعها: إنّا قد علمنا أنّ حال كلامه عليه السّلام كحال كلام غيره إذا أضفناهما إلى القرآن، و ليس لشي ء من كلامه مزيّة في هذا الباب. و لو كان القرآن من كلامه، و تعذّرت معارضته- لأنّه أفصحهم- لظهر ذلك في كلامه.

و ليس لهم أن يقولوا: إنّه تعمّل لإخلال ما عدا القرآن من كلامه من مثل فصاحته؛ لأنّا قد علمنا من حاله عليه و آله السّلام أنّه قصد في مواضع كثيرة و مقامات عدّة، إلى إيراد الفصيح من الكلام و البليغ من الخطاب، و كلامه في كلّ ذلك غير متميّز من كلام غيره من الفصحاء. و الاعتماد على ما تقدّم من الوجوه؛ لأنّه أولى و أوضح.

فأمّا التّعلّق بأنّه تعمّل للقرآن زمانا طويلا فتأتّى منه ما تعذّر [عليهم]، فيسقط بالوجوه الأربعة

الّتي ذكرناها. و وجه سقوطه بالوجوه «1» الثّلاثة المتقدّمة واضح يغني عن التّنبيه.

و أمّا وجه سقوطه بالرابع، فهو: أنّ من تقدّم في الفصاحة و علت منزلته فيها لا يجوز أن يباين كلامه- الّذي لا يرتجله و لا يروّي فيه- لما يتعمّل «2» غاية المباينة، بل لا بدّ أن يكون فيما لم يتعمّل له مثل الّذي، يروّي فيه و يتعمّل لإيراده، أو ما يدانيه و يقاربه؛ بهذا جرت العادات.

و إذا وجدنا كلامه عليه و آله السّلام- بالإضافة إلى القرآن- ككلام غيره، بطلت هذه الشّبهة.

و ممّا يبطلها زائدا على ما تقدّم: أنّ السّبب في ذلك لو كان التعمّل لوجب، مع تطاول الزّمان، أن يتعمّلوا و يظفروا بما دعوا إليه من المعارضة، و قد تحدّاهم صلّى اللّه عليه و آله بالقرآن مدّة مقامه بمكّة، و هي ثلاث عشرة سنة، لم يتخلّلها شي ء من الحروب،

______________________________

(1) في الأصل: بالوجه، و المناسب ما أثبتناه.

(2) كذا في الأصل، و الظاهر: ما يتعمّل له.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 321

و في بعض هذه المدّة فسحة للرّويّة و التعمّل؛ فقد كان يجب أن يتعمّلوا فيها أو فيما بعدها من الأزمان، مع تماديها و تطاولها؛ و كلّ هذا يبيّن بطلان التعلّق بالتعمّل.

فأمّا تعلّقهم بأنّه عليه و آله السّلام منعهم عن المعارضة بالحروب و اتّصالها، فضعيف جدّا.

و الجواب عنه: إنّ الحرب لا تمنع من الكلام، و المعارضة ليست بأكثر من كلام على وجه مخصوص، و قد كانوا يتمثّلون في حروبهم بالشّعر و يرتجلونه في الحال و لا تمنعهم الحرب من ذلك، فكيف يصحّ أن تكون مانعة عن المعارضة و هي غير مانعة ممّا يجري مجراها؟! و أيضا: فإنّ الحرب لم تكن دائمة متّصلة، بل

قد كانوا يغبّونها «1» أحيانا، و يعاودونها أحيانا؛ فقد كان يجب- إن كانت الحرب هي المانعة من المعارضة- أن يأتوا في أوقات الإغباب و عند وضع الحرب أوزارها.

و أيضا: فإنّه عليه و آله السّلام لم يكن محاربا لجميع أعدائه من العرب في حال واحدة، و إنّما كان يقوم بالحرب منهم قوم و يقعد آخرون، فكيف لم يعارضه من لم يكن محاربا إذا كانت الحرب شغلت المحاربين؟

و أيضا: فإنّ المدّة التي أقام فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة لم يكن في شي ء منها محاربا، و إنّما كانت الحروب بعد الهجرة، فألّا عارضوا في تلك الأحوال، إن كانت المعارضة ممكنة؟

و أيضا: فلو كانت الحرب منعت من المعارضة مع إمكانها، لوجب أن يواقف القوم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ذلك، و يقولوا «2» له: كيف نعارضك و قد منعتنا بحربك عن معارضتك؟ و لا حجّة لك في امتناع معارضتك علينا إذا كنت قد شغلتنا عنها

______________________________

(1) يقال: غبّت عليه: أي إذا أتت يوما و تركت يوما.

(2) في الأصل: و يقول، و المناسب ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 322

و اقتطعتنا عن فعلها! و أمّا التعلّق بأنّهم لم يعارضوا خوفا من أوليائه و قوّة دولته، فأضعف من كلّ ما تقدّم.

و الجواب عنه: إنّ خوفا لم يمنع من نصب الحروب و زحف «1» الجيوش في مقام بعد مقام، و مرّة بعد أخرى، و لم يمنع أيضا من الهجاء و القذف.

و ادّعاء المعارضة بأخبار الفرس لا يجوز أن يكون عند عاقل مانعا من فعل المعارضة.

على أنّه قد بيّنا فيما مضى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان مدّة مقامه بمكّة هو الخائف، و

أنّ أصحابه و نصّاره في تلك الأحوال كانوا قليلين مغمورين مهتضمين، و أنّ قوّة الإسلام و أهله كان ابتداؤها بالمدينة.

و لم يخل الكفّار أيضا في أحوال القوّة و الغلبة و التمكّن- و إلى الآن- من بلاد واسعة، و ممالك كثيرة، لا تقيّة على أهلها من الإسلام و أهله. فقد كان يجب أن يعارضوا في أوّل الأمر كيف شاءوا، و في أحوال القوّة و التّمكّن في بلدانهم، و بين أعداء الإسلام. و إذا لم يفعلوا فقد صحّ أنّ تعذّر المعارضة كان على وجه مخالف للعادة. و هذا بيّن لمن تأمّله و نصح نفسه. تمّ الكتاب.

كتبه محمّد بن الحسين بن حمير الجشميّ، حامدا للّه تعالى على نعمه، و مصلّيا على النّبيّ محمد و عترته، و مستغفرا من ذنوبه، و فرغ منه يوم الأربعاء منتصف المحرّم سنة ثمان و سبعين و أربعمائة.

______________________________

(1) في الأصل: و ان خف، و الظاهر ما أثبتناه.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 323

مصادر المقدّمة و التحقيق

1- إعجاز القرآن: الباقلانيّ، مؤسّسة الكتب الثقافيّة.

2- إعجاز القرآن: مصطفى صادق الرافعيّ.

3- الانتصار للقرآن: الباقلانيّ، طبعة دار الفتح.

4- أوائل المقالات: الشيخ المفيد.

5- بحار الأنوار: العلّامة محمّد باقر المجلسيّ، طبعة دار الأضواء.

6- البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: الزملكانيّ.

7- التعليقة على شرح المواقف: عبد الحكيم السيالكوتيّ.

8- تقريب المعارف: تقيّ الدين الحلبيّ، طبعة جماعة المدرّسين.

9- تمهيد الأصول: محمّد بن الحسن الطوسيّ.

10- تمهيد في علوم القرآن: محمّد هادي معرفة، طبعة جماعة المدرّسين.

11- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: عبد القاهر الجرجانيّ.

12- جمل العلم و العمل: الشريف المرتضى.

13- الخرائج و الجرائح: قطب الدين الراونديّ، طبعة مدرسة الإمام المهديّ عجّل اللّه فرجه.

14- الدين و الإسلام: محمّد حسين آل كاشف الغطاء.

15- الذخيرة: الشريف المرتضى، طبعة جماعة المدرّسين.

16-

شرح المقاصد: سعد الدين التفتازانيّ.

17- الطراز: الأمير يحيى بن حمزة العلويّ الزيديّ.

18- الفصل في الملل و النّحل: ابن حزم الأندلسيّ.

19- قواعد المرام في علم الكلام: ابن ميثم البحرانيّ، طبعة جماعة المدرّسين.

20- كتاب الحيوان: الجاحظ.

21- مجموعة رسائل الشريف المرتضى: الشريف المرتضى، طبعة دار القرآن الكريم.

22- مصنّفات الشيخ المفيد: الشيخ المفيد، طبعة المؤتمر العالميّ للشيخ المفيد.

الموضح عن جهة إعجاز القرآن، النص، ص: 324

23- المعجزة الخالدة: هبة الدين الشهرستانيّ.

24- مفهوم النصّ: نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافيّ العربيّ.

25- مقالات الإسلاميّين: أبو الحسن الأشعريّ.

26- الملل و النحل: عبد الكريم الشهرستانيّ.

27- الميزان في تفسير القرآن: محمّد حسين الطباطبائيّ، طبعة مؤسّسة الأعلميّ.

28- نظريّات علم الكلام عند الشيخ المفيد: مارتين مكدرموت، مجمع البحوث الإسلاميّة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.